الفصل الثامن هل یجوز التمسُّک بالعامّ ـ بل فی جمیع الظواهر ـ قبل الفحص عن المخصِّص والمعارض، أو لا؟
والکلام هنا فی اُمور :
الأوّل : فی محطّ البحث : قال فی «الکفایة» : إنّ محطّ البحث فیه هو بعد فرض حجّیّة العموم من باب الظنّ النوعی للمشافَه وغیره، مع عدم العلم الإجمالی بوجود المخصِّص:
أمّا اعتبار حجّیّة أصالة العموم للمشافَه وغیره فواضح.
وأمّا اعتبار حجّیّتها من باب الظنّ النوعی، فلأنّها لو کانت من باب الظنّ الشخصی، فالمناط هو فعلیّة الظنّ وعدمها قبل الفحص وبعده.
وأمّا اعتبار عدم العلم الإجمالی بالمخصِّص، فلا بأس بالکلام علیٰ کلا تقدیری وجود العلم الإجمالی به وعدمه.
الثانی : البحث فی وجوب الفحص إنّما هو فی المخصِّصات المنفصلة، وأمّا
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 371
المتّصلة منها فلا یجب الفحص عنها بلا کلام؛ لأنّ احتمال وجود المخصّص المتّصل وعدم وصوله إلینا هو ـ مثل احتمال قرینیّة المجاز ـ ممّا لا یعتنی به العقلاء، کما فی «الکفایة».
الثالث : هل یفرّق بین الفحص هنا وبینه فی باب البراءة أو لا؟
وفرّق بینهما فی «الکفایة» : بأنّ الفحص هنا إنّما هو عن وجود المزاحم للحجّة، بخلافه هناک، فإنّه عن مُتمّم الحجّة، فإنّ موضوع البراءة العقلیّة هو عدم البیان، والمراد به هو البیان المتعارف، ولا یلزم وصوله إلیٰ المکلّف بنفسه، فلابدّ أن یُحرز عدم البیان فی جریان البراءة بالفحص.
وأمّا البراءة النقلیّة فإطلاق أدلّتها وإن یشمل ما قبل الفحص، إلاّ أنّ الإجماع بقسمیه مُقیّد له بما بعد الفحص.
فنقول :
أمّا وجوب الفحص عن المخصِّص مع عدم العلم الإجمالی بوجوده فی البین ـ کما هو الحقّ فی محطّ البحث ـ فالحقّ کما ذکره فی «الکفایة» من التفصیل بین ما کان العامّ فی مَعرض التخصیص، وبین ما لم یکن کذلک، فیجب الفحص فی الأوّل دون الثانی.
فالأوّل مثل الخطابات الصادرة من الشارع فی مقام جعل القوانین الکلّیّة، مثل قوله تعالیٰ: «یا أَیُّها الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، ونحوُه کثیرٌ فی الکتاب المجید وأحادیث سیّد المرسلین صلی الله علیه و آله وسلم.
والثانی کما فی الخطابات العُرفیّة من الموالی العُرفیّة إلیٰ عبیدهم، الصادرة لا فی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 372
مقام جعل القوانین الکلّیّة؛ وذلک لأنّ الاحتجاج فی مقام المخاصمة واللجاج یتوقّف علیٰ ظهور الکلام فی العموم وجریان أصالة الجدّ، والبناء علیٰ ذلک من العقلاء ثابت فی العمومات الصادرة منهم فی مُحاوراتهم العُرفیّة، لا فی مقام جعل القانون. وأمّا فی مقام جعل القوانین، فقد استقرّ بناء العقلاء ودیدنهم علیٰ الفحص عن المخصِّصات للعمومات الصادرة فی هذا المقام، ولیس بناؤهم علیٰ أصالة الظهور والجدّ فیها بمجرّد صدورها، والعمومات الصادرة من الشارع من هذا القبیل، وهو المراد من مَعْرَضیّتها للتخصیص، کما عرفت أنّه استقرّ بناء العقلاء علیٰ جعل القوانین الکلّیّة أوّلاً، ثمّ بیان الُمخصِّصات والمُقیّدات والاستثناءات فی موادّ وفصول متأخّرة عنه، وبعد الفحص بالمقدار المعتبر تخرج عن المَعْرَضیّة للتخصیص، وحینئذٍ یصحّ التمسُّک بها.
وانقدح ممّا ذکرنا : أنّه لا فرق بین الفحص هنا وبینه فی مسألة البراءة، وأنّ البحث فی کلا المقامین إنّما هو عن مُتمِّم الحجّیّة، فکما أنّه لا یصحّ الإحتجاج بأصالة البراءة إلاّ بعد الفحص عن الدلیل والبیان، کذلک فیما نحن فیه، فإنّ العامّ بمجرّد صدوره وظهوره لیس حجّة تامّة یصحّ الاحتجاج به، إلاّ بعد جریان أصالة الجدّ، التی لا تجری إلاّ بعد الفحص عن المخصِّص، فلا فرق بین المقامین فی أنّ الفحص إنّما هو عن مُتمّم الحجّة.
ثمّ إنّه قد یقال ـ والقائل شیخنا الحائری قدس سره ـ : إنّه لو ظُفر بالفحص بمخصِّص مجمل بحسب المفهوم؛ مردّد بین الأقلّ والأکثر کالفاسق المردّد بین مرتکب الکبائر والصغائر أو الکبائر فقط ، فإجماله یسری إلیٰ العامّ ویصیر مُجملاً.
لکن بعد التأمّل فیما ذکرنا تعرف : أنّ ما ذکره قدس سره غیر مستقیم؛ لما عرفت من أنّ العامّ ظاهر فی عمومه قبل الفحص وبعده، مع الظفر بالمخصّص وعدمه، غایة الأمر
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 373
أنّه لا یصحّ الاحتجاج بهذا الظهور، إلاّ بعد جریان أصالة الجدّ، وهی لا تجری إلاّ بعد الفحص عن المخصِّص، فإذا تفحّص وظفر بالخاصّ المذکور، یرفع الید عن العموم وعن أصالة الجدّ بالنسبة إلیٰ ما قامت الحجّة علیٰ خلافه، وهو الأقلّ القدر المتیقّن خروجه من العموم، وأمّا الأکثر کالمرتکب للصغائر فی المثال ، فلیس الخاصّ حجّة فیه مع شمول العامّ له، ولا مانع من جریان أصالة الجدّ فیه أیضاً.
هذا کلّه فیما لو لم یُعلم إجمالاً بوجود المخصِّصان .
وأمّا لو عُلم بوجودها إجمالاً فاستُدلّ لوجوب الفحص ـ حینئذٍ ـ وعدم جواز التمسُّک بالعامّ قبل الفحص: بأنّ مقتضیٰ العلم الإجمالی بها وبالمُقیِّدات الکثیرة للإطلاقات الواردة فی الشریعة ـ حتیٰ قیل : «ما من عامّ إلاّ وقد خُصّ»، وما من مطلق إلاّ وقد قُیِّد ـ هو عدم جواز التمسُّک بها قبل الفحص والیأس عن المخصِّص، وبعده ینحلّ العلم الإجمالی بالظفر بعدّة من الُمخصِّصات .
واُورد علیه بوجهین :
الوجه الأوّل : إنّ مقتضیٰ الدلیل المذکور أعمّ من المدّعیٰ، ووجوب فحص أزید منه؛ لأنّ المدّعیٰ هو وجوب الفحص فیما بأبدینا من الأخبار المُودَعة فی کتب الأخبار، ودائرة العلم الإجمالی أوسع من ذلک؛ لأنّ أطرافه أعمّ ممّا بأیدینا ووصل إلینا من الأخبار والأحکام وممّا لم یصل إلینا منها، والأخبار المضبوطة فی الاُصول والجوامع الأوّلیّة لم تصل جمیعها إلینا.
وبالجملة : العلم الإجمالی إنّما هو بوجود مخصِّصات کثیرة فیما صدر من الشارع کلّها، لا فی خصوص ما بأبدینا من الأخبار فقط، والفحص فیما بأیدینا من الکتب لا یوجب انحلال العلم الإجمالی وإن بلغ الفحص ما بلغ.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 374
وذکر المحقّق المیرزا النائینی قدس سره هذا الإشکال فی الاُصول العملیّة فقط، وأجاب عنه بما حاصله: أنّه بعد الفحص عنها فیما بأیدینا من کتب الأخبار ینحلّ العلم الإجمالی غایة الأمر أنّه لیس انحلالاً حقیقیّاً، بل انحلال حکمیّ؛ لأنّ ما عثرنا علیه منها قابل الانطباق علیٰ ما عُلم إجمالاً منها؛ إذ لا یُعلم بأنّ فی الشریعة أحکاماً أزید ممّا تکفّلته الأدلّة التی عثرنا علیها.
ولعلّه إلیٰ ذلک یرجع ما أفاده المحقّق العراقی قدس سره فی الجواب عن الإشکال؛ حیث قال فی المقالات ـ بعد ذکر عدم جواز التمسّک بالعامّ قبل الفحص عن المخصِّص للعلم الإجمالی ـ : لابدّ أن یفحص عنه فإن ظُفر بالمعارض أو الحاکم فهو، وإلاّ فیکشف [عن] خروج هذا المورد من الأوّل عن دائرة العلم الإجمالی، وبهذا یندفع الإشکال.
فإنّ تعبیره : بالظفر بالمعارض، یُشعر بأنّ مراده هو ما ذکره المیرزا النائینی قدس سره ـ من أنّا لا نعلم أنّ فی الشریعة أحکاماً سویٰ ما بأیدینا ـ وإلاّ فلا یمکن الظفر بالمعارض فیما لم یصل إلینا.
نعم ظاهرُ تعبیره ـ بأنّه یکشف [عن] خروج هذا من الأوّل عن دائرة العلم الإجمالی ـ خلافُه، فإنّ ظاهره أنّ الأطراف کانت أطرافاً له ابتداءً؛ سواء انکشف الخلاف أم لا، غایة الأمر أنّه بعد الظفر بالمخصِّص یحکم بأنّها لم تکن أطرافاً للعلم الإجمالی من حینه، لا من الأوّل؛ للعلم الوجدانی بأنّها کانت أطرافاً له ولو بعد الانحلال أیضاً.
اللهمّ إلاّ أن یرید ما ذکرناه : من أنّه ینکشف خطأ الاحتمال المذکور.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 375
وعلی أیّتقدیر فهذا الذی ذکراه فی الجواب عن الإشکال صحیحٌ لا غبار علیه.
الوجه الثانی : إنّ هذا الدلیل أخصّ من المدّعیٰ؛ لأنّ المُدّعیٰ هو عدم جواز التمسُّک بالعامّ إلاّ بعد الفحص عن المخصِّص فی کلّ عامّ، والعلم الإجمالی بالمخصِّصات والمقیّدات فیما بأیدینا من کتب الأخبار وإن اقتضیٰ ذلک قبل الفحص، إلاّ أنّه بعد انحلال العلم الإجمالی ـ بالفحص والعثور علیٰ المقدار المتیقَّن منها ـ یصیر المراد: صیرورة وجود المخصّص ضمن الأکثر شبهةً بدویّة، والأکثر هو الباقی من الأخبار التی بأیدینا بعد الظفر بالقدر المتیقّن من المخصّصات من بینها شبهة بَدْویّة، کما فی کلّ علمٍ إجمالیٍّ تردّدت أطرافه بین الأقلّ والأکثر، فإنّه بالعثور والاطّلاع علیٰ المقدار المتیقّن الذی هو الأقلّ، ینحلّ العلم الإجمالی، ویصیر الأکثر شبهة بدویّة فلا مانع من إجراء الاُصول اللّفظیة فیه، ولا یقتضی هذا الدلیل وجوب الفحص عن المخصِّص فی جمیع العمومات حتّیٰ بعد انحلال العلم الإجمالی، کما هو المدّعیٰ.
وأجاب عنه المحقّق العراقی قدس سره : بأنّه وإن ظُفِر بالمقدار المعلوم کمّاً، والشکّ فی الزائد یصیر بدویّاً، ولکن هذا المقدار إذا تردّد بین محتملات متباینات، منتشرات فی أبواب الفقه من أوّله إلیٰ آخره، یصیر جمیع المحتملات المشکوکة فی جمیع أبواب الفقه طرفاً لهذا العلم، فیمنع من التمسُّک بالعموم قبل الفحص عن جمیعها، ولا یفید الظفر بالمعارض فی هذه الصورة بمقدار المعلوم، فالاحتمال القائم فی جمیع أبواب الفقه الموجب لکونه طرفاً للعلم، منجِّز للواقع بحسب استعداده، فإنّه مثل العلم الحاصل بعد العلم الإجمالی لا یوجب الانحلال، انتهیٰ.
أقول : لو فرض أنّ محتملات المعلوم بالإجمال من المخصِّصات متشتّة فی جمیع أبواب الفقه إجمالاً، وتردّدت بین الأقلّ والأکثر، فلو تفحّص المجتهد فی جمیع أبواب
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 376
الفقه، وظفر بالمقدار الأقلّ المتیقَّن، فلا محالة ینحلّ العلم الإجمالی المذکور.
وأمّا لو تفحص فی بعض أبوابه وظفر بالمقدار المتیقَّن فهو یُنافی العلم بتشتُّت أطرافه فی جمیع أبواب الفقه، فلابدّ إمّا من رفع الید عن دعویٰ العلم بتشتُّت محتملاته فی جمیع أبواب الفقه، وإمّا عن دعویٰ الظَّفَر بالمقدار المتیقَّن؛ لبقاء العلم الإجمالی بوجود مخصِّصات اُخر فی سائر الأدلّة، وإلاّ فلا محالة ینحلّ العلم الإجمالی.
وقال المحقّق النائینی فی الجواب عن الإشکال : بأنّ المعلوم بالإجمال : تارة مرسل غیر مُعلَّم بعلامة یُشار إلیه بتلک العلامة، واُخریٰ مُعلَّم کذلک، وانحلال العلم الإجمالی بالعثور علیٰ المقدار المتیقّن إنّما هو فی القسم الأوّل، وأمّا القسم الثانی فلا ینحلّ بذلک، بل حاله حال دوران الأمر بین المتباینین.
وضابط القسمین : أنّ العلم الإجمالی مطلقاً علیٰ سبیل القضیّة المنفصلة المانعة الخلوّ، المنحلّة إلیٰ قضیّتین حملیّتین، وهاتان القضیّتان:
تارة : إحداهما متیقّنة، والاُخریٰ مشکوکة من أوّل الأمر؛ بحیث نشأ العلم الإجمالی من هاتین القضیّتین بضمّ إحداهما إلیٰ الاُخریٰ، کما لو علم بأنّه مدیون لزید إمّا خمسة دراهم أو عشرة.
واُخریٰ : لا کذلک ـ أی بأن یکون من أوّل الأمر إحداهما متیقّنة والاُخریٰ مشکوکة ـ بل تعلّق العلم بالأطراف علیٰ وجهٍ تکون جمیع الأطراف ممّا تعلّق بها العلم بوجه؛ بحیث لو کان الأکثر هو الواجب لکان ممّا تعلّق به العلم، وتنجّز بسببه، ولیس الأکثر مشکوکاً من أوّل الأمر؛ بحیث لم یصبه العلم الإجمالی بوجه من الوجوه، بل کان الأکثر ـ علیٰ تقدیر ثبوته فی الواقع ـ ممّا أصابه العلم، وذلک فی کلّ ما یکون المعلوم بالإجمال مُعلَّماً بعلامةٍ کان قد تعلّق العلم به بتلک العلامة، فیکون کلّ ما اندرج تحت تلک العلامة ممّا تعلّق به العلم؛ سواء فی ذلک الأقلّ والأکثر، وحینئذٍ لو کان الثابت هو الأکثر فی الواقع فقد تعلّق العلم به؛ لمکان تعلُّقه بعلامته، وذلک کما إذا
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 377
علمتُ أنّی مدیون لزید بما فی الدفتر، فإنّ جمیع ما فی الدفتر من دین زید قد تعلّق العلم به؛ سواء کان دین زید خمسة أو عشرة، فإنّه لو کان دین زید عشرة فقد أصابه العلم؛ لمکان وجوده فی الدفتر وتعلُّق العلم بجمیع ما فی الدفتر، وأین هذا ممّا إذا کان دین زید من أوّل الأمر مردّداً بین الخمسة والعشرة؟! فإنّ العشرة فی مثل ذلک ممّا لم یتعلّق بها العلم بوجهٍ من الوجوه، وکانت مشکوکة من أوّل الأمر، فلا موجب لتنجُّزها علیٰ تقدیر ثبوتها فی الواقع، بخلاف ما إذا تعلّق العلم بها بوجهٍ؛ ولو لمکان تعلّق العلم بما هو من قبیل العلامة لها، وهو کونها فی الدفتر، فإنّها قد تنجّزت علیٰ تقدیر وجودها فی الدفتر.
وإن شئت قلت : کان لنا هنا علمان: علم إجمالی بأنّی مدیون لزید بجمیع ما فی الدفتر، وعلم إجمالی آخر بأنّ دین زید خمسة أو عشرة، والعلم الثانی غیر مقتضٍ للاحتیاط بالنسبة إلیٰ العشرة، والعلم الإجمالی الأوّل مقتضٍ للاحتیاط بالنسبة إلیها؛ لتعلّق العلم بها علیٰ تقدیر ثبوتها فی الواقع، واللامقتضی لا یمکن أن یُزاحم المقتضی.
وما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّ العلم الإجمالی المُعلَّم المقتضی للفحص التامّ، لاینحلّ بالعثور علیٰ المقدار المتیقّن؛ لأنّ العلم قد تعلّق بأنّ فی الکتب التی بأیدینا مقیّدات ومخصِّصات وأحکاماً إلزامیّة، فهو من قبیل العلم بأنّه مدیون لزید بما فی الدفتر، فیکون کلّ مقیّد ومخصِّص وحکم إلزامیّ ثابتاً فیما بأیدینا من الکتب، قد أصابه العلم وتعلّق به، وقد عرفت أنّ مثل هذا العلم الإجمالی لا ینحلّ بالعثور علیٰ المقدار المتیقّن، بل لابدّ فیه من الفحص التامّ فی جمیع ما بأیدینا من الکتب. انتهیٰ.
أقول : یرد علیه :
أوّلاً : النقض بما لو علم أنّه مدیون لزید بما کان فی الکیس الذی صرفه فی مصارفه، أو بما أهداه للمسجد أو غیره، وتردّد ما کان فی الکیس بین الأقلّ والأکثر،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 378
فبناءً علیٰ ما ذکره لا یجوز الرجوع إلیٰ الأصل بالنسبة إلیٰ الأکثر؛ لأنّه معلَّم بعلامة «ما فی الکیس»، مع أنّه قدس سره لا یلتزم به.
وثانیاً : بالحَلّ بأنّ العناوین المتعلَّقة للعلم الإجمالی مختلفة؛ لأنّه قد یکون العنوان المتعلَّق له أمراً بسیطاً مبیَّناً مفهومه، ولکن یُشکّ فی المحصِّل له بین الأقلّ والأکثر، کما لو تعلّق الأمر بعنوان الطهارة، وشُکّ فی أنّ المحصِّل له خمسة أجزاء أو ستّة، ففی مثل ذلک مقتضیٰ القاعدة هو الاشتغال؛ لأنّه شکّ فی المحصِّل، فیجب الأکثر.
وقد یتردّد نفس العنوان بین الأقلّ والأکثر، کما فی المقام، فإنّ متعلّق العلم هو وجود مخصِّصات کثیرة فیما بأیدینا من الکتب، مردّدة بین الأقلّ والأکثر، فإنّه وإن تعلّق العلم بما فی الکتب، لکنّه مثل عنوان «ما فی الکیس» فی المثال المتقدّم، وهو عنوان یُشار به إلیٰ الخارج، وهو فی جنب العلم الإجمالی بین الأقلّ والأکثر من المخصِّصات، کالحجر فی جنب الإنسان، لا أثر له أصلاً، بل المؤثِّر هو العلم الإجمالی بوجود المخصِّصات إجمالاً، المردّدة بین الأقل والأکثر، وبعد انحلاله بالعثور والاطّلاع علی الأقلّ، لا محالة ینحلّ العلم الإجمالی المذکور، ولا موجب ـ حینئذٍ ـ للأکثر، ولا مانع من التمسُّک بالعموم حینئذٍ.
مضافاً إلیٰ أنّ مقتضیٰ ما ذکره عدم جواز التمسّک بالبراءة بعد الفحص ـ أیضاً ـ فی الشبهات البَدْویّة، وهو کما تریٰ.
وأمّا بناء العقلاء علیٰ ما ذکره، ففیه : أنّه مُسلَّم، لکن لا من حیث اقتضاء العلم الإجمالی ذلک، بل من جهة أنّ الفحص فی الشبهات الموضوعیّة خفیف المؤنة؛ لایحتاج إلیٰ مؤنة ومشقّة کثیرة فیما کانت کذلک، کما لو تردّد مائع بین الماء والدم، ویحصل العلم بمجرّد النظر فیه ورؤیته ولو فی الشبهات البدویّة، فیوجبون الفحص فی ذلک، ولا یُبادرون إلیٰ إجراء البراءة، ومثال الدفتر کذلک ومن هذا القبیل. مضافاً إلیٰ قیام الإجماع علیٰ وجوب الفحص فی الشبهات الموضوعیّة وعدم صحّة التمسُّک
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 379
بالبراءة قبله.
فتلخّص من جمیع ما ذکرناه : أنّ الإشکال من الوجه الثانی باقٍ بحاله، وأنّ العلم الإجمالی بوجود المخصِّصات فیما بأیدینا من الأخبار المُودَعة فی الکتب الأربعة وغیرها، غیرُ مؤثّر فی وجوب الفحص فی کلّ عامّ ـ کما هو المُدّعیٰ ـ بعد انحلاله بالظفر بالمقدار المعلوم المتیقّن منها، والشکِّ البدوی بالنسبة إلیٰ الباقی.
وأمّا مقدار الفحص فعلیٰ الفرض الثانی ـ أی فرض وجود العلم الإجمالی بوجود المخصِّصات ـ یجب الفحص بمقدارٍ ینحلّ العلم الإجمالی به، وإن قیل بعدم انحلاله، لکن قد عرفت خلافه.
وأمّا علیٰ ما اخترناه فی محطّ البحث من الفرض الأوّل ـ وهو فرض عدم العلم الإجمالی بها ـ فلابدّ من الفحص التامّ فی کتب الأخبار عنها بمقدار یحصل الیأس من وجودها والاطمئنان بعدمها، فلا یجوز للمجتهد المبادرة إلیٰ التمسُّک بالعمومات، بل کلّ ظاهر ما لم یتفحّص بالمقدار المعتبر، بل لابدّ من التتبّع فی أقوال الفقهاء فی کلّ مسألة، خصوصاً المتقدّمین منهم ـ قُدّست أسرارهم ـ لکن لا بمقدار یحصل العلم الجازم؛ لاستلزامه العسر والحرج.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 380