المطلب الثالث المنطوق والمفهوم وفیه فصول

التنبیه الثانی : فی تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء

التنبیه الثانی : فی تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء

‏إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء، مثل : «إذا خَفِی الأذان فقصِّرْ، وإذا خَفیت‏‎ ‎‏الجُدران فقصِّر»، فبناءً علی ظهور الجملة الشرطیّة فی المفهوم یقع التعارض بینهما،‏‎ ‎‏والبحث هنا فی مقامین :‏

المقام الأوّل :‏ أنّ التعارض هل هو بین المنطوقین؛ حیث إنّه یدلّ کلّ واحد‏‎ ‎‏منهما علی الانحصار، فلا یمکن صدقهما معاً، أو بین مفهوم أحدهما ومنطوق الآخر؛‏‎ ‎‏لأنّ مفهوم قوله: «إذا خَفِی الأذان فقصِّر» بناءً علیٰ إفادته الانحصار، أنّه إذا لم یخف فلا‏‎ ‎‏یجب أنْ یُقصِّرْ وإن خَفیت الجُدران، ویدلّ منطوق قوله: «إذا خَفِی الجُدران فقصِّرْ»‏‎ ‎‏علیٰ أنّ خفاء الجُدران موجب للقصر، فالتعارض بین مفهوم الأوّل ومنطوق الثانی.‏

فنقول :‏ إنّ دلالة الشرطیّة علیٰ المفهوم : إمّا بالوضع وأنّ أدوات الشرط‏‎ ‎‏موضوعة للعِلّیّة المُنحصرة، أو لانصرافها إلیٰ العِلّیّة المُنحصرة، مع أنّها موضوعة‏‎ ‎‏للعِلّیّة التامّة، أو لاستفادة الانحصار من مقدّمات الحکمة والإطلاق.‏

‏فعلیٰ الأوّل یقع التعارض بین المنطوقین؛ لأنّ أصالة الحقیقة فی کلّ واحد منهما‏‎ ‎‏تُعارضها فی الآخر، والمفروض أنّه لا مُرجِّح لأحدهما علی الآخر، فیتساقطان.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 286
‏وکذلک علی الثانی؛ أی استفادة الانحصار من الانصراف، فإنّ الانصراف فی‏‎ ‎‏کلّ واحد منهما یُعارض الآخر، وحینئذٍ فإن قلنا: إنّ أدوات الشرط موضوعة للثبوت‏‎ ‎‏عند الثبوت، تبقیٰ العلّیّة التامّة لکلّ واحد منهما، ویرفع الید عن الانحصار، وإلاّ یصیر‏‎ ‎‏الکلام مجملاً، والمرجع ـ حینئذٍ ـ هو الاُصول العملیّة.‏

‏وأمّا بناءً علی الثالث فالتعارض یقع بین أصلین عقلائیّین، وهما أصالة‏‎ ‎‏الإطلاق فی کلّ واحد منهما، وعلیٰ أیّ تقدیر: فلیس التعارض ـ حینئذٍ ـ بین مفهوم‏‎ ‎‏أحدهما ومنطوق الآخر، بل بین المنطوقین.‏

المقام الثانی : فی بیان علاج التعارض:‏ ولابدّ فیه من التصرّف ورفع الید عن‏‎ ‎‏الظهور: إمّا بتخصیص مفهوم کلّ واحد منهما بمنطوق الآخر، ویحکم بانتفاء وجوب‏‎ ‎‏القصر عند انتفاء الشرطین معاً، برفع الید عن المفهوم فیهما فالشرط هو خفاء‏‎ ‎‏أحدهما، أو بتقیید إطلاق الشرط فی کلّ واحد منهما، فالشرط ـ حینئذٍ ـ هو خفاء‏‎ ‎‏الأذان والجُدران معاً، وامّا بجعل الشرط هو القدر الجامع المشترک بینهما . وجوه.‏

والتحقیق أن یقال : إنّه إن قلنا :‏ إنّ أدوات الشرط موضوعة للعِلّیّة المُنحصرة،‏‎ ‎‏وإنّها المتبادِر منها، فأصالة الحقیقة فی کلّ واحد منهما معارِضة لها فی الآخر، فلابدّ من‏‎ ‎‏رفع الید عنها فیهما، فیُرجع إلی الأصل العملیّ.‏

‏وأمّا رفع الید عن الانحصار فقط، وحمل کلّ واحد من الشرطین علی العِلّیّة‏‎ ‎‏التامّة؛ لأنّها أقرب المجازات للمعنیٰ الحقیقی، وهو العِلّیّة المنحصرة. فغیر سدید؛ لأنّه‏‎ ‎‏یعتبر فی الحمل علیٰ أقرب المجازات ـ بعد تعذُّر إرادة المعنیٰ الحقیقی ـ أن تکون‏‎ ‎‏الأقربیّة إلیه بحسب اُنس الذهن الحاصل بکثرة الاستعمال، والعِلّیّة التامّة وإن کانت‏‎ ‎‏أقرب إلی العِلّیّة المنحصرة، لکن لیس لأجل اُنس الذهن؛ کی تحمل علیها.‏

وإن قلنا :‏ إنّ الانحصار مستفاد من الانصراف إلی العِلّیّة المنحصرة یقع‏‎ ‎‏التعارض بین الانصرافین، فلابدّ من رفع الید عن العِلّیّة المنحصرة، وحینئذٍ فإن قلنا:‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 287
‏إنّ أدوات الشرط موضوعة للثبوت عند الثبوت، تبقیٰ العِلّیّة التامّة فی کلّ واحد منهما‏‎ ‎‏ـ أی من الشرطین ـ بحالها، وإلاّ یقع الإجمال، والمرجع ـ حینئذٍ ـ الاُصول العملیّة.‏

وإن قلنا :‏ بأنّ الانحصار مستفاد من الإطلاق ومقدّمات الحکمة: فإن قلنا : إنّ‏‎ ‎‏أدوات الشرط موضوعة للعِلّیّة التامّة وأنّ التمسُّک بالإطلاق إنّما هو لإثبات الانحصار‏‎ ‎‏فقط، فلابدّ من رفع الید عن الانحصار فقط مع بقاء العلّیّة التامّة لکلٍّ منهما؛ لأنّ‏‎ ‎‏التعارض ـ حینئذٍ ـ بین أصالتی الإطلاق فی کلّ واحد منهما؛ لأنّ قوله: «إذا خفی‏‎ ‎‏الجدران فقصّر» معناه: أنّ تمام الموضوع المنحصر لوجوب القصر هو خفاء الجدران،‏‎ ‎‏وقوله: «إذا خفی الأذان فقصّر» أیضاً معناه: أنّ تمام الموضوع المنحصر لوجوبه هو‏‎ ‎‏خفاء الأذان، فیقع التعارض بین الإطلاقین المستفاد منهما الانحصار.‏

‏وأمّا لو فرض استفادة العِلّیّة التامّة ـ أیضاً ـ من الإطلاق، فهنا احتمالان:‏

أحدهما :‏ احتمال دخل الشرطین معاً فی الجزاء، وأنّهما معاً علّة واحدة، وکلّ‏‎ ‎‏واحد منهما جزء العلّة، فیدفع هذا الاحتمال بالتمسُّک بالإطلاق.‏

الثانی :‏ احتمال عدم الانحصار ـ أی عدم کون خفاء الأذان علّة مُنحصرة،‏‎ ‎‏واحتُمل أن یکون له عِدْل ینوب عنه فی ترتُّب الجزاء علیه ـ فیندفع هذا الاحتمال‏‎ ‎‏ـ أیضاً ـ بالإطلاق، فیقع التعارض بین الإطلاقین، فیدور الأمر بین تقیید الإطلاق‏‎ ‎‏الأوّل ورفع الید عنه، ویلزمه رفع الید عن الإطلاق الثانی والانحصار أیضاً؛ لأنّه لا‏‎ ‎‏معنیٰ للانحصار مع عدم العلیّة التامّة، فرفع الید عن الانحصار إنّما هو لأجل رفع‏‎ ‎‏موضوعه، وهو العلّیّة التامّة، وبین تقیید الإطلاق الثانی ورفع الید عن الانحصار فقط‏‎ ‎‏مع بقاء العِلّیّة التامّة؛ للعلم الإجمالی بعدم إرادة أحد الإطلاقین وعدم إرادتهما معاً؛‏‎ ‎‏لمکان التعارض بینهما، فیمکن أن یقال: بأنّ العلم الإجمالی ینحلّ : إلی العلم التفصیلی‏‎ ‎‏برفع الید عن الانحصار، والشکِّ البدوی بالنسبة إلی تقیید الإطلاق الأوّل ورفع الید‏‎ ‎‏عن العلّیّة التامّة، فیُتمسّک فیه بالإطلاق.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 288
‏ونظیر ذلک دوران الأمر بین تقیید الإطلاق وتخصیص العامّ لو اجتمعا‏‎ ‎‏وتعارضا، کما لو قال : «أکرم العلماء»، فإنّ «العلماء» عامّ فی أفراده، والأفراد ـ أیضاً ـ‏‎ ‎‏کلّ واحد منها مطلق بالنسبة إلی حالاته، وعُلم من الخارج إجمالاً: إمّا بتقیید‏‎ ‎‏الإطلاق؛ بخروج زید عن هذا الحکم یوم الجمعة، وإمّا بتخصیص العامّ؛ بخروجه عن‏‎ ‎‏حکم العامّ رأساً، فیقال: إنّ هذا العلم الإجمالی ینحلّ: إلی العلم التفصیلی بتقیید‏‎ ‎‏الإطلاق المذکور، وعدم وجوب إکرام زید یوم الجمعة فقط، والشکّ البدوی فی‏‎ ‎‏تخصیص العامّ بإخراج زیدٍ عنه رأساً، فیُتمسّک فیه بالعموم.‏

‏وکذلک فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، فإنّه ـ بوجه بعید ـ نظیرُ ما نحن‏‎ ‎‏فیه، فإنّ العلم الإجمالی إمّا بوجوب الأقل أو الأکثر ینحلّ: إلی العلم التفصیلی‏‎ ‎‏بوجوب الأقل، والشکّ البدوی فی وجوب الأکثر، فیُتمسّک فی نفی وجوب الأکثر‏‎ ‎‏بأصالة البراءة، ویُؤخذ بالأقلّ؛ لأنّه الواجب علیٰ کلّ تقدیر.‏

واستشکل علیه فی «الکفایة» :‏ بأنّ الانحلال المذکور مستلزم للدور؛ وذلک‏‎ ‎‏لأنّ انحلاله موقوف علی وجوب الأقلّ علیٰ کلّ تقدیر، ومن التقادیر هو تقدیر‏‎ ‎‏وجوب الأکثر، ووجوبه موقوف علیٰ بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله، فانحلاله‏‎ ‎‏موقوف علیٰ عدم انحلاله‏‎[1]‎‏.‏

‏لکن علیٰ فرض صحّة ما ذکره من لزوم الدور فی الأقلّ والأکثر، لیس ما نحن‏‎ ‎‏فیه من هذا القبیل؛ لأنّه لیس المدّعیٰ فیه انحلال العلم الإجمالی إلیٰ العلم التفصیلی‏‎ ‎‏والشکّ البدویّ، فإنّ مورد انحلاله هو ما إذا عُلم تفصیلاً ابتداءً ومن الأوّل، وکان‏‎ ‎‏الإجمال بدْویّاً وفی بادی النظر، وأمّا فیما نحن فیه فالعلم الإجمالی باقٍ بحاله مع العلم‏‎ ‎‏التفصیلی أیضاً.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 289
‏والسرّ فیه : أنّه لیس فیه انحلال إلیهما، بل یتولّد من العلم الإجمالی برفع الید‏‎ ‎‏عن أحد الإطلاقین، علمٌ تفصیلیّ برفع الید عن الإطلاق الثانی والانحصار: إمّا برفعه‏‎ ‎‏بنفسه؛ وإمّا برفعه لرفع موضوعه؛ أی العلّیّة التامّة؛ لأنّه لا یعقل الانحصار مع عدم‏‎ ‎‏العِلِّیّة التامّة، ومقتضیٰ بقاء العلم الإجمالیّ هو عدم جواز التمسُّک بأحد الإطلاقین،‏‎ ‎‏فیصیر مجملاً، فیرجع إلیٰ الاُصول العملیّة. هذا کلّه بالنسبة إلیٰ ملاحظة کلّ واحد من‏‎ ‎‏المفهومین مع الآخر.‏

وأمّا بالنسبة إلی نفی الثالث؛‏ بأن احتُمل دخْلُ شیء فی موضوع وجوب‏‎ ‎‏القصر، وأنّ الموضوع له مرکّب من جزءین، أحدهما خفاء الأذان، أو احتمل العِلّیّة‏‎ ‎‏التامّة لشیء آخر، وأنّه عِدلٌ لخفاء الأذان ـ مثلاً ـ فی ترتُّب وجوب القصر علیه، فهل‏‎ ‎‏یصحّ التمسُّک بإطلاقهما لنفیه فی کلا الاحتمالین ، أو لا؟‏

الحقّ هو التفصیل : وهو أنّه إن قلنا :‏ إنّ أدوات الشرط موضوعة لغةً للعِلّیّة‏‎ ‎‏المنحصرة أو منصرفة إلیها، فلا یصحّ التمسُّک بإطلاقهما لنفی الثالث، سواء احتمل کونه‏‎ ‎‏جزء العلّة، أم علّة مُستقلّة؛ لأنّه بعد رفع الید عن ظهورهما بالتعارض رأساً بالعلم‏‎ ‎‏بالتقیید فی الجملة، لا یبقیٰ ما به یُنفیٰ الثالث، ولیس للظهور مراتب حتّیٰ یبقیٰ بعض‏‎ ‎‏مراتبه بعد رفع الید عن بعضها الآخر.‏

وإن قلنا :‏ إنّ استفادة العِلّیّة المُنحصرة والمفهوم من الإطلاق ومقدّمات الحکمة،‏‎ ‎‏صحّ التمسُّک بإطلاقهما لنفی الثالث.‏

‏وإن علم بتقیید أحدهما إجمالاً کما فی سائر المطلقات، کما لو قال: «أعتق رقبة»،‏‎ ‎‏وعلم باعتبار الإیمان فیها بدلیل خاصّ، وشکّ فی اعتبار وصف آخر، فإنّه یصحّ‏‎ ‎‏التمسّک بإطلاقها لنفی المشکوک اعتباره، وما نحن فیه من هذا القبیل.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 290

  • )) اُنظر کفایة الاُصول : 413 .