الفصل الخامس عشر فی متعلَّق الأوامر والنواهی

الفصل الخامس عشر فی متعلَّق الأوامر والنواهی

‏ ‏

‏هل الأوامر والنواهی متعلّقة بالطبائع أو بالأفراد؟ وقبل الشروع فی البحث‏‎ ‎‏لابدّ أوّلاً من تصویر محلّ النزاع، ثمّ الکلام فیه.‏

‏فاعلم أنّه یُتصوّر النزاع بصور :‏

إحداها :‏ أن یقال: إنّ هذه المسألة متفرّعة علیٰ النزاع فی وجود الکلی الطبیعی‏‎ ‎‏فی الخارج وعدمه : فعلیٰ الأوّل لابدّ أن نقول بتعلّقهما بالطبائع لا الأفراد، ولکن لا‏‎ ‎‏یخفیٰ ما فیه، فإنّ مسألة وجود الکلی الطبیعی وعدمه مسألة دقیقة عقلیّة فلسفیّة،‏‎ ‎‏وهذه المسألة مسألة عرفیّة عقلائیّة لابدّ فیها من ملاحظة المتفاهم العرفیّ، ولا ارتباط‏‎ ‎‏لإحداهما بالاُخریٰ لتتفرّع علیها.‏

وثانیتها :‏ أن یقال: إنّ هذه المسألة متفرّعة علیٰ أصالة الوجود أو الماهیّة: فعلیٰ‏‎ ‎‏الأوّل لابدّ أن یقال: إنّ متعلّق الأوامر والنواهی هو الأفراد، وعلیٰ الثانی الطبائع.‏

‏وهو ـ أیضاً ـ کما تریٰ؛ لا یصحّ ابتناء هذه المسألة العرفیّة علیٰ تلک المسألة‏‎ ‎‏الفلسفیّة الدقیقة.‏

الثالثة :‏ أن یقال: هذا البحث متفرّع علیٰ البحث فی أنّ المادّة فی الأوامر هل‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 159
‏هی موضوعة للطبیعة المطلقة، أو الأفراد؛ بناءً علیٰ أنّ الوضع فیها عامّ والموضوع له‏‎ ‎‏خاصّ؟‏

وفیه أیضاً :‏ أنّ محلّ النزاع فی المقام : انما هو فی متعلّق الأوامر والنواهی؟ وانّه‏‎ ‎‏ما هو وهو أعمّ من المادّة؛ لوضوح أنّ الأوامر والنواهی قد تتعلّقان بالماهیّة المقیّدة لا‏‎ ‎‏المطلقة، مثل أن یقال : یجب علیک الصلاة فی المسجد ـ مثلاً ـ ونحو ذلک.‏

‏مُضافاً إلیٰ أنّه بناءً علیه لا وجه لتکرار ذلک البحث مرّتین فی الاُصول.‏

الرابع :‏ أن یقال: إنّ النزاع فی المقام إنّما هو فی أنّ هیئة الأوامر موضوعة للبعث‏‎ ‎‏والإغراء إلیٰ نفس الطبیعة، أو إلیٰ إیجادها: فعلیٰ الأوّل لابدّ من القول بتعلُّقها‏‎ ‎‏بالطبائع، وعلیٰ الثانی بالأفراد.‏

وفیه :‏ ما لا یخفیٰ، فإنّ تعلُّق الأمر بالفرد الخارجیّ غیر معقول؛ لأنّه أمر‏‎ ‎‏بتحصیل الحاصل، فاحتماله منفیّ قطعاً.‏

الخامس :‏ أن یقال: المأخوذ فی متعلّق الطلب هل هو نفس الطبائع، أو الأفراد‏‎ ‎‏الخارجیّة مع خصوصیّاتها الشخصیّة؟‏

‏وهو ـ أیضاً ـ کما تریٰ غیر قابل لأن یقع البحث فیه بین الأعلام؛ لأنّه لا مجال‏‎ ‎‏لأحد أن یتوهّم أنّ متعلّقها الموجود الخارجیّ المتحقّق، فإنّه طلب لتحصیل الحاصل.‏

السادس :‏ أن یقال: إنّ متعلّقها الطبائع بما هی هی، أو أنّه هی مع إضافات‏‎ ‎‏وتوابع منضمّة إلیها، کما هو ظاهر «الکفایة»‏‎[1]‎‏.‏

وفیه أیضاً :‏ أنّه إن اُرید بالإضافات هو الخصوصیّات الخارجیّة فمرجعه إلیٰ‏‎ ‎‏الوجه الخامس، وإن اُرید بها الخصوصیّات الذهنیّة بتصوّرها فی الذهن، فإن کانت‏‎ ‎‏دخیلة فی الغرض والمطلوب فهو صحیح، لکنّه غیر قابل للبحث؛ فإنّه لا یتوهّم أحد‏‎ ‎‏تعلُّقها بالطبائع المطلقة المجرّدة.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 160
‏وإن لم تکن دخیلة فی الغرض والمطلوب ففیه : أنّه فاسد؛ لأنّه لا یتوهّم أحد‏‎ ‎‏بتعلُّقها بالطبائع مقیّدةً بما لیس له دخل فی الغرض والمطلوب، کما لا یعقل خروج ما‏‎ ‎‏هو دخیل فی الغرض عن متعلّق الأمر، ولا یعقل حکایة اللفظ الموضوع بإزاء الطبیعة‏‎ ‎‏المُطلقة عن الخصوصیّات الشخصیّة والعوارض الخارجیّة، ولو فرض أنّ الطبائع‏‎ ‎‏المطلقة بما هی هی تمام المطلوب والغرض، فلابدّ من تعلُّقها بها کذلک.‏

‏وتوهّم منافاة ذلک لکونها من حیث هی لیست إلاّ هی لا موجودة ولا‏‎ ‎‏معدومة‏‎[2]‎‏.‏

‏مدفوع : بأنّه لا مساس لإحدیٰ القضیّتین بالاُخریٰ؛ لیتوهّم التنافی بینهما،‏‎ ‎‏ولیس النزاع فی أنّ الهیئة موضوعة للبعث إلیٰ إیجاد الماهیّة، أو إلیٰ الماهیة بنفسها.‏

‏ولا فرق فیما ذکرناه بین الطلب والأمر، فما یظهر من «الکفایة» من الفرق بینهما‏‎ ‎‏ـ بإمکان تعلُّق الطلب بنفس الطبائع من حیث هی، دون الأمر‏‎[3]‎‏ ـ ففیه أنّ الطلب‏‎ ‎‏هو عین الأمر لا فرق بینهما کما واضح.‏

ثمّ إنّ المحقّق العراقی ‏قدس سره‏‏ بعد أن اختار تعلُّق الأوامر بالطبائع قال: إذا تعلّق‏‎ ‎‏بعنوان علیٰ نحو صرف الوجود، فهل یسری إلیٰ أفراده ومصادیقه بنحو التبادل؛ علیٰ‏‎ ‎‏نحوٍ تکون الأفراد بما لها من الحدود الفردیّة والخصوصیّات الشخصیّة متعلَّقةً للطلب،‏‎ ‎‏أو لا؟‏

‏وعلیٰ الثانی هل یسری إلیٰ الحصص المقارنة للأفراد، کما فی الطبیعة الساریة،‏‎ ‎‏أو لا، بل الطلب والأمر یقف علیٰ نفس الطبیعیّ والقدر المشترک بین الحصص؟‏

قال :‏ وتوضیح المرام یحتاج إلیٰ تقدیم مقدّمة : هی أنّه لا إشکال أنّ الطبیعیّ‏‎ ‎‏الذی له أفراد، کلُّ فرد منه مشتمل علیٰ مرتبة من الطبیعیّ غیر المرتبة التی یشتمل‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 161
‏علیها الفرد الآخر، ومن ذلک یتصوّر للطبیعیّ حصص عدیدة حسب تعدّد الأفراد‏‎ ‎‏المغایرة کلُّ حصّة منه ـ باعتبار محدودیّتها بالمشخّصات الفردیّة ـ مع حصّته الاُخریٰ،‏‎ ‎‏کما فی الإنسان؛ حیث إنّ الإنسانیّة الموجودة فی ضمن «زید» بملاحظة تقارنها‏‎ ‎‏لخواصّه، غیر الإنسانیّة الموجودة فی ضمن «عمرو» المقارنة لخواصّه، ولهذا تتحقّق‏‎ ‎‏حصص من الإنسانیّة: حصّة قارنت خواصّ زید، وحصّة قارنت خواصّ عمرو،‏‎ ‎‏وهکذا، ولا ینافی ذلک اتّحاد تلک الحصص بحسب الذات والحقیقة، وکون الجمیع تحت‏‎ ‎‏جنس واحد وفصل فارد؛ من حیث صدق الحیوان الناطق علیٰ کلّ واحد من‏‎ ‎‏الحصص کما لا یخفیٰ، وهذا هو المراد من الکلمة الدارجة بین أهل الفنّ: أنّ نسبة‏‎ ‎‏الطبیعیّ إلیٰ الأفراد کنسبة الآباء إلیٰ الأبناء، وأنّ مع کلّ أب فرداً من الطبیعی غیر ما‏‎ ‎‏یکون للأب الآخر، وتکون الآباء مع اختلافها وتباینها بحسب المرتبة متّحدة ذاتاً؛‏‎ ‎‏بحیث تندرج الجمیع تحت نوع واحد.‏

‏وبما ذکرنا من اختلاف الحصص من جهة المرتبة واتّحادها ذاتاً، اتّضح لک: أنّه‏‎ ‎‏یمکن انتزاع عناوین متعدّدة من کلّ حصّة، بعضها من مقوّمات مرتبة کلّ حصّة،‏‎ ‎‏وبعضها من مقوّمات ذاتها، وکلّ ما هو مقوّم للمرتبة فهو مقسّم لذاتها، وهذا هو من‏‎ ‎‏قولهم‏‎[4]‎‏: إنّ کلّ مقوّم للعالی مقوّم للسافل ولا عکس.‏

إذا عرفت المقدّمة فالتحقیق :‏ یقضی بوقوف الطلب علیٰ نفس الطبیعیّ وعدم‏‎ ‎‏سرایته لا إلیٰ الخصوصیّات الفردیّة، ولا إلیٰ حصص الطبیعیّ الموجودة فی ضمن‏‎ ‎‏الأفراد المقارنة لخواصّها، والدلیل علیٰ ذلک أمران:‏

الأوّل :‏ أنّا نریٰ بالوجدان عند طلب شیء والأمر به أنّه لا یکون المطلوب إلاّ‏‎ ‎‏صرف الطبیعی من دون مدخلیّة للحصص فی ذلک، فضلاً عن الخصوصیّات الفردیّة.‏

الثانی :‏ أنّ الطلب تابع للمصلحة، ولا یتعلّق إلاّ بما تقوم به المصلحة، فمع قیام‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 162
‏المصلحة بصرف الطبیعیّ وعدم سرایتها إلیٰ الخصوصیّات الفردیّة ولا إلیٰ الحصص،‏‎ ‎‏یستحیل سرایة الطلب إلیٰ الحدود الفردیّة أو الحصص المقارنة.‏

‏ثمّ لا یخفیٰ أنّ ما ذکرناه ـ من عدم سرایة الطلب إلیٰ الحصص ـ إنّما هو‏‎ ‎‏بالقیاس إلیٰ الحیثیّة التی بها تمتاز هذه الحصص الفردیّة بعضُها عن البعض الآخر،‏‎ ‎‏المشترک معه فی الجنس والفصل القریبین. وأمّا بالنسبة إلیٰ الحیثیّة الاُخریٰ، والتی بها‏‎ ‎‏تشترک هذه الحصص، وتمتاز بها عن أفراد النوع الآخر المشارک لها فی الجنس‏‎ ‎‏القریب، وهی الحیثیّة التی بها قوام نوعیّتها، فلا بأس بدعویٰ السرایة إلیها، بل لا‏‎ ‎‏محیص عنها؛ من جهة أنّ الحصص ـ بالقیاس إلیٰ تلک الحیثیّة واشتمالها علیٰ مُقوِّمها‏‎ ‎‏العالی ـ لیست إلاّ عین الطبیعی، فلا وجه لخروجها عن المطلوبیّة، فعلیٰ ذلک تکون‏‎ ‎‏الحصص المزبورة کلّ واحدة منها بالقیاس إلیٰ بعضِ حدودِها ـ وهو الطبیعیّ ـ تکون‏‎ ‎‏تحت الطلب، وبالقیاس إلیٰ حدودها الخاصّة تکون تحت الترخیص، وخارجة عن‏‎ ‎‏دائرة المطلوبیّة، لا أنّها علیٰ الإطلاق تحت الطلب، ولا خارجة کذلک عن دائرة‏‎ ‎‏الطلب، ونتیجة ذلک کون التخییر بین الحصص شرعیّاً لا عقلیّاً ... إلیٰ أن قال:‏

إن قلت :‏ إنّ الطلب بعد تعلُّقه بالعناوین والصور الذهنیّة ـ لا بالمُعنونات‏‎ ‎‏الخارجیّة، کما هو المفروض ـ تستحیل سرایته إلیٰ الحصص الفردیّة؛ حیث إنّ‏‎ ‎‏الحصص بقیودها الذهنیّة تُباین الطبیعیّ، وإن کان کلٌّ من الحصص الفردیّة والطبیعیّ‏‎ ‎‏ملحوظاً بنحو المرآتیّة للخارج؛ إذ لازم ذلک تحقّق صورتین ذهنیّتین، ومن الواضح‏‎ ‎‏أنّ الصورتین الممتاز إحداهما عن الاُخریٰ فی وعاء تقرّرهما متباینتان.‏

قلت :‏ إنّ المدّعیٰ هو تعلُّق الطلب بالطبیعی بما هو مرآة للخارج، ولا ریب فی‏‎ ‎‏أنّ وجود الطبیعی فی الخارج لا یمتاز عن وجود الحصص، بل هو الجهة المشترکة‏‎ ‎‏الجامعة بین الحصص، والمرئیُّ بالطبیعی الملحوظ مرآةً للخارج لیس إلاّ تلک الجهة‏‎ ‎‏الجامعة بین الحصص، وهذا مرادنا من سرایة الطلب من الطبیعی إلیٰ حصصه، بل‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 163
‏التأمّل یقضی بأنّ التعبیر بالسرایة فی المقام مسامحی؛ إذ بالنظر الدِّقّی یکون الطلب‏‎ ‎‏المتعلّق بالطبیعی الملحوظ مرآةً للخارج، متوجِّهاً إلیٰ تلک الجهة الجامعة بین‏‎ ‎‏الحصص، فمتعلّق ذلک الطلب فی الحقیقة تلک الجهة الجامعة‏‎[5]‎‏. انتهیٰ.‏

أقول :‏ ما ذکره ـ من أنّ نسبة الطبیعی إلیٰ الأفراد هو نسبة الآباء إلیٰ الأبناء ـ‏‎ ‎‏لیس مجرّد لفظ واصطلاح، بل هو نظیر ما ذکره الرجل الهمدانی من أنّ نسبة الطبیعی‏‎ ‎‏إلیٰ الأفراد نسبة الأب الواحد إلیٰ الأبناء، وأنّ الطبیعی موجود فی الخارج بنعت‏‎ ‎‏الوحدة ـ أی الجامع بین الأفراد ـ ولیس مجرّد لفظ واصطلاح.‏

واستدلّ علیٰ مذهبه :‏ بأنّا ننتزع من الأفراد الخارجیّة مفهوماً واحداً، ومع أنّها‏‎ ‎‏کثیرة یُنتزع منها ذلک المفهوم، مثل انتزاع مفهوم الإنسان من زید وعمرو وبکر‏‎ ‎‏وسائر الأفراد، ولا یمکن انتزاع مفهوم واحد منها بما أنّها کثیرة، فلابدّ لها من جامع‏‎ ‎‏مشترک بینها موجود فی الخارج‏‎[6]‎‏.‏

وفیه :‏ أنّ الخارج ظرف للأفراد بنعت الکثرة، ولا یمکن وجودها فیه بنعت‏‎ ‎‏الوحدة، ولا تنتزع المفاهیم الکلّیّة من الأفراد الخارجیّة؛ بأن یوقَع شیء من الخارج‏‎ ‎‏فی الذهن، فإنّه غیر معقول، بل تنتزع من الأفراد الذهنیّة بلحاظها وتصوُّرها أوّلاً‏‎ ‎‏وإلغاء خصوصیّاتها الفردیّة وما یمتاز کلّ واحد منها عن الآخر.‏

واستدلّ ـ أیضاً ـ‏ بأنّه قد تتوارد العلل المتعدّدة ـ المستقلّة کلّ واحدة منها فی‏‎ ‎‏العلّیّة والتأثیر ـ علیٰ معلول واحد، کقتل واحد بسهمین أو برمحین، وکتسخّن الماء‏‎ ‎‏بالنار والشمس، ورفع اثنین صخرةً لا یقدر کلّ منهما مُستقلاًّ علیٰ رفعها، ونحوها من‏‎ ‎‏الأمثلة، وحینئذٍ فإمّا أن یُؤثِّر کلّ منهما مستقلاًّ، وهو مستحیل، وإمّا أن لا یؤثّر شیء‏‎ ‎‏منهما، وهو ـ أیضاً ـ مُستحیل، وإمّا أن یُؤثّر کلّ واحد منهما تأثیراً ناقصاً، وهو‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 164
‏ـ أیضاً ـ محال، وإمّا أن یؤثّر المجموع، فهو أمر اعتباری لیس غیرَ کلّ واحد منهما،‏‎ ‎‏فلابدّ أن یُؤثِّر الجامع بینهما، ولا یمکن تأثیره إلاّ إذا کان موجوداً فی الخارج، وهو‏‎ ‎‏المطلوب والمراد من وجود الطبیعی فیه.‏

وفیه :‏ أنّه وقع الخلط فی کلامه بین العلّة الإلٰهیّة ـ أی علّة الإیجاد ـ وبین العلّة‏‎ ‎‏الطبیعیّة، فإنّ أثر کلّ علّة لا یمکن انفکاکه عنها وتفویضه إلیٰ علّة اُخریٰ، ومعلول کلّ‏‎ ‎‏علّة إلٰهیّة یتعلّق بها بتمام وجودها تمامَ التعلّق، ولا ارتباط له بغیرها من العلل.‏

‏وأمّا الأمثلة المذکورة فأثّر کلّ علّة عبارة عن حرکة العضلات المسبوقة‏‎ ‎‏بالإرادة ومقدّماتها فی مثال رفع الصخرة، وأمّا قتل واحد بإصابة سهمین ونحوهما،‏‎ ‎‏فقتل الشخص إنّما هو بإزهاق روحه، وهو مُسبَّب عن خروج مقدار من الدم من‏‎ ‎‏عروق بدنه، فإن أصابه سهم واحد فیخرج الدم المذکور فی مدّة معیّنة، وإن أصابه‏‎ ‎‏سهمان فیخرج الدم المذکور فی نصف تلک المدّة، فهذه الأمثلة لا تدلّ علیٰ ما ذهب‏‎ ‎‏إلیه.‏

واستدلّ ـ أیضاً ـ‏ بأنَّه لا ریب فی أنّ طبیعة الإنسان ـ مثلاً ـ طبیعة واحدة، ولا‏‎ ‎‏ریب فی أنّ الطبائع موجودة فی الخارج، فینتج أنّ طبیعة الإنسان موجودة فی الخارج.‏

وفیه :‏ أنَّ المُراد من الوحدة فی قولهم : «طبیعة الإنسان واحدة»‏‎[7]‎‏ هی الوحدة‏‎ ‎‏النوعیّة التی موطنها الذهن، وکذلک الوحدة الجنسیّة للحیوان والفصلیّة للناطق، فإنّ‏‎ ‎‏موطنَ جمیعها ووعاءَها الذهن لا الخارج أی الوحدة الشخصیّة الخارجیّة، وحینئذٍ‏‎ ‎‏فلا یتمّ الاستدلال.‏

‏وصنّف الشیخ الرئیس رسالة فی ردّ ذلک المذهب، وذهب إلیٰ أنّ نسبة الطبیعی‏‎ ‎‏إلیٰ الأفراد نسبة الآباء إلیٰ الأبناء، وأنّ کلّ واحد من الأفراد هو تمام الطبیعی‏‎[8]‎‏،‏‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 165
‏وحیث إنّهم عجزوا عن الجواب عن الرجل الهمدانی، وعن الشیخ الرئیس، جمعوا بین‏‎ ‎‏قولیهما : بأنّ المراد ممّا ذکره الرجل الهمدانی هو نفس الطبیعة بما هی هی، وممّا ذکره‏‎ ‎‏الشیخ الرئیس وأتباعه الحصص ونسبة هذا الجمع إلیٰ المحقّق العراقی کان شائعاً بین‏‎ ‎‏بعض الأساتذة، کالمیر سید علی الکاشانی ‏‏قدس سره‏‏ لکن الجمع بین هذین المذهبین کالجمع‏‎ ‎‏بین الضدّین أو النقیضین مُستحیل.‏

‏ثمّ إنَّ ما ذکره ـ من أنّ الأمر المتعلّق بالطبیعة لا یسری إلیٰ الحصص إنّما هو‏‎ ‎‏بالنسبة إلیٰ الحیثیّة التی بها تمتاز هذه الحصص الفردیّة بعضها عن بعض، وأمّا بالنسبة‏‎ ‎‏إلیٰ الحیثیّة التی... الخ ـ فهو من غرائب الکلام، فإنَّ الحصّة المُقارنة لفرد من نوع لیس‏‎ ‎‏امتیازها عن الحصّة المقارنة لفردٍ آخرٍ من نوع آخر بالفصل فقط، بل به‏‎ ‎‏وبالخصوصیّات الشخصیّة الفردیّة کلیهما، وحینئذٍ نقول: إنَّ المصلحة إذا کانت قائمة‏‎ ‎‏بنفس الطبیعی، لا بخصوصیّات الأفراد، فصرّح هو ‏‏قدس سره‏‏ بأنّه یستحیل سرایة الأمر‏‎ ‎‏منها إلیٰ الأفراد فما ذکره مُخالف لما صرّح به.‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 166

  • )) کفایة الاُصول : 171 .
  • )) الفصول الغرویّة : 108 ، 125 .
  • )) کفایة الاُصول : 171 ـ 172 .
  • )) اُنظر حاشیة ملاّ عبدالله : 52 سطر 5 .
  • )) بدائع الأفکار 1 : 407 ـ 410 .
  • )) اُنظر رسائل ابن سینا : 467 ـ 471 .
  • )) اُنظر شرح المنظومة (قسم الفلسفة) : 111 سطر 8 .
  • )) رسائل ابن سینا 1 : 471 .