حول أمثلة الترتّب :
ثمّ إنّه قدس سره استدلّ علیٰ ما ذهب إلیه فی المقام بوقوعه فی الأحکام الشرعیّة:
منها : أنّه لو فرض أنّ الله تعالیٰ حرّم الإقامة من أوّل الفجر إلیٰ الزوال، ثمّ قال: «إن عصیت وأقمت وجب علیک الصوم».
ومنها : أنّه لو فرض أنّه حرّم الإقامة من الزوال إلیٰ الغروب، ثمّ قال: «إن عصیت وأقمت وجب علیک إتمام الصلاة أربع رکعات».
ومنها : ما لو فُرض أنّه کان مدیوناً فی السنین السابقة، وفرض أنّه ربح فی السنة التی هو فیها، فهو مأمور بأداء الدَّین، وأنّه إن عصیٰ ولم یؤد الدین وجب علیه
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 148
خمس ربحه.
وغیر ذلک من الفروع التی رُتِّب فیها حکمٌ علیٰ عصیانِ حکمٍ آخر، ولا مفرّ عنها للفقیه إلاّ بالالتزام بالترتُّب، وأدلّ الدلیل علیٰ إمکان الشیء وقوعه.
والفرق بین تلک الأمثلة وبین ما نحن فیه : هو أنّ الجمع بین الحکمین فی مقام الامتثال فی الأمثلة ممکن، بخلاف ما نحن فیه، فإنّ المفروض فیه أنّ طلبهما مع قطع النظر عن الترتُّب طلب للجمع بین الضدّین، وقد عرفت أنّ هذا الفرق غیر فارق، وأنّ الترتُّب إن کان ممکناً فلا فرق فیه بین الموردین.
أقول : یرد علیه :
أوّلاً : أنّ العصیان لیس متأخّراً عن الأمر فی الرتبة ـ کما عرفت، وسنشیر إلیه ـ والترتُّب إنّما هو فیما إذا کان الشرط متأخّراً عن المشروط فیها.
وثانیاً : موضوع القصر والإتمام إنّما هو نفس الإقامة أو العزم علیها؛ لقوله تعالیٰ: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ وَمَنْ کَانَ مِنْکُمْ مَریضاً أَوْ عَلیٰ سَفرٍ» الآیة، ولیس موضوعها عصیان الأمر بالإقامة، کما هو واضح.
وعلیٰ فرض أنّ عصیانَ کلِّ حکمٍ متأخّرٌ عنه فی الرتبة، ففیما نحن فیه موضوع الحکم هو الإقامة أو العزم علیها، ولیسا مُتأخّرَینِ عن النهی عن الإقامة فی الرتبة؛ لعدم وجود ملاک التأخّر الرُّتبی فیه، والنقض موقوف علیٰ صحّة ما ینتقض به ومُسلَّمیَّته، وما ذکره لیس من الترتُّب فی شیء.
وتوهّم : أنّ الإقامة وإن لم تکن متأخّرة عن النهی عنها بالذات، لکن العصیان منتزع عن الإقامة، والإقامة منشأ لانتزاع مفهوم العصیان، فالإقامة متأخّرة عن الحکم فی الرتبة بالعَرض.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 149
فاسد؛ لأنّ العصیان وإن کان مُنتزَعاً عن الإقامة، لکن لا من حیث إنّها إقامة، بل من حیث إنّها مخالَفة للتکلیف بدون عذر، وإلاّ یلزم أن یکون المقیم مطلقاً ـ سواء کانت الإقامة محرّکة أم لا، وسواء کان ملتفتاً إلیٰ التکلیف أم لا، وسواء خالفَ بلا عذر أو مع العذر ـ قد ارتکب محرّماً ومعصیة، وهو کما تریٰ.
وما یقال : کلّ ما بالعَرض لابدّ وأن ینتهی إلیٰ ما بالذات، فالعصیان أمر عرضیّ لابدّ وأن ینتهی ویرجع إلیٰ ذاتیّ، وهو الإقامة، فهو صحیح، لکن ما بالعرض فیما نحن فیه یرجع إلیٰ حیثیّة المخالفة للحکم، لا إلیٰ ذات الإقامة.
وبالجملة : ما ذکره من الأمثلة لیس من الترتُّب أصلاً.
وثالثاً : لو فُرض أنّ الموضوع لوجوب الصوم هو العصیان، وفُرض تسلیم تأخُّر العصیان عن الأمر، فإمّا أن تکون الإقامة من الفجر إلیٰ الزوال، أو من الزوال إلیٰ الغروب، أو من ابتداء العشرة إلیٰ انتهائها، عصیاناً واحداً؛ بحیث یتوقّف تحقُّقه علیٰ مُضیّ تمام المدّة، وأنّه لو بقی من المدّة أقلّ قلیل لم یتحقّق العصیان، أو لا، بل الإقامة فیها فی کلّ آنٍ مفروضٍ معصیة واحدة :
فعلیٰ الأوّل : یلزم وجوب الصوم من الزوال إلیٰ الغروب فی المثال الأوّل، وبعد الغروب فی المثال الثانی، وبعد انقضاء العشرة فی الثالث، والکلّ کما تریٰ غیر واقع فی الشریعة، وذلک کلّه واضح؛ لأنّ الحکم إنّما یتحقّق ویصیر فعلیّاً إذا تحقّق الشرط والموضوع ـ أی العصیان، والمفروض أنّ تحقّقه یحتاج إلیٰ مُضیّ المدّة المذکورة.
وعلیٰ الثانی : فالموضوع والشرط : إمّا هو معصیة واحدة منها، أو جمیع المعاصی فی المدّة الواقعة من الفجر إلیٰ الزوال، أو من الزوال إلی الغروب، أو إلیٰ انقضاء العشرة :
فعلیٰ الثانی الکلام فیه هو الکلام فی الأوّل طابق النعل بالنعل.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 150
وعلیٰ الأوّل : فالعصیان ـ کما عرفت ـ یحتاج فی تحقُّقه إلی مُضیّ مقدار من الوقت، فالمعصیة فی الآن الأوّل تتوقّف علیٰ مُضیّ ذلک الآن، فیلزم وجوب الصوم بعد ذلک الآن من الفجر، وهو ـ أیضاً ـ کما تریٰ.
ورابعاً : قد عرفت أنّ الترتُّب إنّما هو فیما لو کان الأمران فی زمان واحد، وعلیٰ فرض کون الشرط هو العصیان یسقط الأمر بالأهمّ عند فعلیّة الأمر بالمهمّ.
مضافاً إلیٰ أنّ الأمثلة المذکورة ممّا یمکن الجمع فیها بین الحکمین فیها، والترتُّب لیس کذلک.
هذا إذا جعل العصیان الخارجیّ شرطاً للأمر بالمهمّ.
وأمّا إذا جعل الشرط هو العنوان المنتزع ـ کما إذا نهیٰ عن الإقامة، وقال: «إن کنت ممّن یعصی هذا الحکم، أو ممّن یقیم فی المدّة، وجب علیک الصوم» ـ فیرد علیه أنّ تلک الأمثلة دلیل علیٰ نقیض مطلوبه وعدم صحّة الترتُّب وعدم إمکانه؛ لأنّه لو کان ذلک ترتُّباً لزم إمّا أن لا تقع الإقامة مبغوضة، وإمّا أن لا یقع الصوم مطلوباً، کما صرّح قدس سره فی الأمرین المترتّبین : أنّهما بحیث لو أتیٰ بهما المکلّف علیٰ فرض المحال، لم یقعا علیٰ صفة المطلوبیّة، وفی المثال حیث إنّ الأهمّ حکم تحریمیّ، والمهمّ المترتّب علیه حکم إیجابیّ، فبناء علیٰ ما ذکره لو أقام وصام لزم إمّا أن لا تقع الإقامة علیٰ صفة المبغوضیّة، ولم تکن محرّمة، أو لا یقع الصوم علیٰ صفة المطلوبیّة، ولا یکون واجباً، مع أنّه لا إشکال فی أنّ الإقامة وقعت فی الأمثلة مبغوضة، والصوم محبوباً، وهو دلیل علیٰ أنّ الأمثلة لیست من الترتُّب فی شیء.
وأمّا مسألة الخُمس فهی لیست من الترتُّب أصلاً؛ لأنّ موضوع الخُمس هو الغنیمة؛ لقوله تعالیٰ: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ» الآیة، فکلّما
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 151
تحقّقت الغنیمة یتحقّق وجوب الخمس فی آخر تلک السنة بشرائطه، غایة الأمر أنّه لو کان علیه دَیْن وأدّاه فی السنة، لا یجب خمسه؛ لانتفاء موضوعه ـ أی الغنیمة ـ ولیس وجوب الخمس فی الشریعة مترتّباً علیٰ عصیان الأمر بالأداء کما لایخفیٰ.
وقال المحقّق العراقی قدس سره فی المقام ما حاصله : ما ذکره الاُصولیّون من الترتُّب ـ لتصحیح الأمرین المتعلّقین بالضدّین ـ فی غایة المتانة، ولا إشکال فیه، ولکن لا حاجة إلیه فی المقام؛ وذلک لأنّه لو فرض أنّ الأمرین متساویان فی الأهمیّة فلا یصحّ أن یقال: إنّ کلاًّ منهما مشروط بعصیان الآخر لأدائه إلیٰ الاستحالة، وهو تقدّم الشیء علیٰ نفسه؛ حیث إنّ العصیان متأخّر عن الأمر، والمشروط بالمتأخّر ـ أیضاً ـ متأخّر، فإذا فُرض أنّ کلّ واحد منهما مشروط بعصیان الآخر، لزم تقدّم کلٍّ منهما علیٰ الآخر وتأخّره عنه، ولیس کلّ واحد منهما مشروطاً بعدم الآخر أیضاً، لا لأجل ما ذُکر؛ فإنّ الاستحالة غیر لازمة له، ولا لأجل محذور آخر، وهو لزوم طلب الجمع بین الضدّین إذا ترکهما المکلّف کلیهما؛ حیث إنّ شرط کلٍّ منهما متحقّق؛ لأنّه لو أوجد أحدهما ینهدم موضوع الآخر وشرطه، فلا یلزم الاستحالة وطلب الجمع، بل عدم مشروطیّة کلٍّ منهما بعدم الآخر لعدم الداعی والباعث لجعل المطلق مشروطاً، مع إمکان إبقاء الطلبین علیٰ إطلاقهما، کما هو المفروض فیما نحن فیه، غایة الأمر أنّ العقل حاکم بتخییر المکلّف بینهما. هذا فی المهمّین.
وهکذا الکلام فیما إذا کان أحدهما أهمّ من الآخر، فإنّ عدم استلزام الطلبین اللّذین أحدهما أهمّ من الآخر للجمع بین طلب الضدّین إنّما هو لأجل أنّ اقتضاء الأمر بالمهمّ اقتضاء ناقص، واقتضاء الأمر بالأهمّ اقتضاء تامّ، وذلک فإنّ الأمر قد یقتضی سدّ باب جمیع الأعدام المتصوّرة المتوجّهة إلیٰ المأمور به، کالعدم من جهة الشرط أو وجود المانع أو وجود المُزاحم، وحینئذٍ فاقتضاؤه تامّ، وقد لا یقتضی سدّ جمیع الأعدام المتصوّرة بل بعضها، کالأمر بالمهمّ؛ حیث إنّه لا یقتضی سدّ العدم
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 152
المتوجّه إلیه من ناحیة وجود المزاحم، وهو المأمور به بالأمر بالأهمّ، وحینئذٍ فالأمران کلاهما باقیان علیٰ إطلاقهما، ومع ذلک لا یلزم طلب الجمع بدون الاحتیاج إلیٰ جعل الأمر بالمهمّ مشروطاً بعصیان أمر الأهمّ.
ثم استشکل علیٰ نفسه بما أورده صاحب الکفایة قدس سرهـ کما أنّ المیرزا النائینی قدس سره أیضاً أورد هذا الإشکال علیٰ نفسه، وهو أنّه وإن لا یلزم الجمع بین الطلبین فی مرتبة الأهمّ، ولا مطاردة بینهما فی هذه المرتبة، إلاّ أنّ المطاردة بینهما باقیة فی مرتبة الأمر بالمهمّ؛ بداهة فعلیّة الأمر بالمهمّ والأهمّ کلیهما فی تلک المرتبة، ولیس ذلک إلاّ طلباً للجمع بین الضدّین، وهو مُستحیلـ .
وأجاب عنه بما ذکره : من أنّ اقتضاء الأمر بالمهمّ اقتضاء ناقص لا یسدّ باب جمیع الأعدام المتوجّهة إلیه، فمع الأمر بالمهمّ لیس طلباً للجمع بینهما.
وأجاب المیرزا النائینی قدس سره عن الإشکال : بأنّ الأمر بالمهمّ مشروط بعصیان الأهم، فلیس طلباً للجمع بینهما.
أقول : جمیع ما ذکره قدس سره صحیح إلاّ ما ذکره فی مقام الجواب عن الإشکال، فإنّه إن أراد أنّ اقتضاء الأمر بالمهمّ ناقص مادام لم یسقط الأمر بالأهمّ بالعصیان، فإذا عصاه سقط أمره، وصار أمر المهمّ تامّاً، فهو خارج عن الترتُّب؛ لما عرفت من أنّ الأمرین فی الترتّب لابدّ أن یکونا فی زمان واحد، ودفع غائلة اجتماع الطلبین بالتقدّم والتأخّر الرتبیین، وما نحن فیه لیس کذلک.
وإن أراد أنّ اقتضاء الأمر بالمُهمّ یصیر تامّاً قبل سقوط الأمر بالأهمّ ولو
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 153
آناً ما، فیلزم طلب الجمع بین الضدّین فی ذلک الآن بدون أن یترتّب أحدهما علیٰ الآخر، وهو محال.
ومن ذلک یظهر الجواب عمّا ذکره المحقّق النائینی قدس سره أیضاً.
ویظهر ـ أیضاً ـ فساد تقریب آخر ذکروه للترتُّب، وحاصله : أنّ اقتضاء کلّ أمر إنّما هو فی مرتبة ذاته، لا فی مرتبة تأثیره ومعلوله، کما أنّ اقتضاء العلّة للمعلول إنّما هو فی مرتبة ذاتها، لا فی مرتبة المعلول، فاقتضاء الأمر بالأهمّ فی مرتبة ذاته لا فی مرتبة تأثیره، وکذلک اقتضاء الأمر بالمهمّ ـ أیضاً ـ فی مرتبة ذاته، وهی مرتبة تأثیر الأمر بالأهمّ، لا فی مرتبة ذات الأمر بالأهمّ، وحینئذٍ ففی مرتبة اقتضاء الأمر بالمهمّ لیس للأمر بالأهمّ اقتضاء، فیندفع غائلة طلب الضدّین.
وجوابه یظهر ممّا ذکرناه، وحاصله : أنّه لا یخلو إمّا أن یبقیٰ الأمر بالأهمّ واقتضاؤه لأثره فی مرتبة اقتضاء الأمر بالمهمّ وحین فعلیّته، أو لا، بل یسقط الأمر بالأهمّ قبل اقتضاء الأمر بالمهمّ:
فعلیٰ الأوّل فهو لیس إلاّ طلباً للجمع بین الضدّین بدون التقدُّم والتأخُّر الرُّتبیّین، وهو محال.
وعلیٰ الثانی یخرج الفرض عن محطّ البحث؛ فإنّک قد عرفت غیر مرّة أنّ محطّه إنّما هو فیما إذا کان هناک أمران متعلّقان بالضدّین فی زمان واحد، وکان المهمّ منهما متأخّراً عن الآخر فی الرتبة، وإنّ ما ذکره لیس کذلک.
فانقدح من جمیع ما ذکرناه أنّ الإشکال الذی ذکره الشیخ البهائی فی المقام لا یندفع بالترتُّب فإن أمکن دفعه بما ذکرناه سابقاً فهو، وإلاّ فالإشکال باقٍ بحاله، فیلزم فساد الضدّ العبادیّ لو لم نقل بکفایة وجود الملاک فی صحّة العبادة وعدم احتیاجها إلی الأمر.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 154