الفصل الثالث عشر فی اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه

وهذا هو المقام الثانی

وهذا هو المقام الثانی‏ . والمراد بالضدّ العامّ هو نقیضه؛ لیترتّب علیه وقوع الصلاة فی‏‎ ‎‏مثال الإزالة منهیّاً عنها؛ لأنّها نقیض وضدّ عامّ لترک الصلاة الواجب مقدّمةً، فنقول:‏

‏إن أراد أنّ الأمر بالشیء عین النهی عن ضدّه العامّ؛ أی أنّ البعث إلیٰ ترک‏‎ ‎‏الصلاة عین الزجر عن فعلها، ففیه: أنّ الأمر لا یدلّ علیٰ الزجر لا بهیئته ولا بمادّته،‏‎ ‎‏فإنّ هیئة الأمر موضوعة للبعث، والمادّة موضوعة للطبیعة، وشیء منهما لا یدلّ علیٰ‏‎ ‎‏النهی عن الضدّ، ولیس للمجموع منها ـ أیضاً ـ وضعٌ علیٰ حِدة، وأیضاً لا یعقل أن‏‎ ‎‏یکون الأمر عین النهی.‏

‏وإن أراد أنّ الأمر بالشیء یدلّ بالتضمّن علیٰ النهی عن ضدّه، فهو ـ أیضاً ـ‏‎ ‎‏غیر معقول؛ لأنّه لا یعقل القول بأنّ الهیئة موضوعة للأمر بشیء والنهی عن ضدّه؛‏‎ ‎‏أی مجموعهما.‏

‏وأمّا ما ذکروه لبیان ذلک ـ من أنّ الأمر موضوع لطلب الفعل مع المنع عن‏‎ ‎‏الترک ـ ففساده أوضح من أن یخفیٰ.‏

‏وأمّا دلالته علیه بالالتزام فقال بعض الأعاظم ‏‏قدس سره‏‏ فی تقریبه : إنّه ینسبق إلیٰ‏‎ ‎‏أذهاننا من الأمر بشیء النهی عن ضدّه العامّ، فیدلّ بالالتزام علیٰ ذلک‏‎[1]‎‏.‏

وفیه :‏ أنّ مجرّد تصوّر ذلک وانسباقه إلیٰ الذهن لا یدلّ علیٰ أنّ الآمر أراد ذلک‏‎ ‎‏أیضاً، ومجرّد التصوّر غیر کافٍ فی ذلک، بل لابدّ من التصدیق بأنّ المولیٰ أراد بأمره‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 113
‏النهی عن ضدّه أیضاً.‏

فتلخّص :‏ أنّ الأمر بالشیء لا یدلّ بواحدة من الدلالات الثلاث علیٰ النهی عن‏‎ ‎‏ضدّه العامّ.‏

‏وأمّا القول بالمُلازمة بین إرادة الأمر بشیء وإرادة النهی عن ضدّه، فهو ـ أیضاً ـ‏‎ ‎‏فاسدٌ؛ لابتنائه علیٰ ما ذکروه: من أنّ الإرادة غیر اختیاریّة لا تحتاج إلیٰ مبادئها، فإنّ‏‎ ‎‏دعویٰ الملازمة علیٰ هذا المبنیٰ ممکنة، وأمّا بناءً علیٰ ما هو التحقیق من أنّها مسبوقة‏‎ ‎‏بالمبادئ ـ أی التصوّر والتصدیق بالفائدة وغیرهما ولو ارتکازاً ـ فلا یستقیم دعواها،‏‎ ‎‏فإنّه لا فائدة فی النهی عن الضدّ بعد الأمر بضدّه، فإنّه کافٍ فی تحقّق الطلب الأکید،‏‎ ‎‏وأنّه لا یرضیٰ بترکه.‏

فتلخّص :‏ أنّ المقدّمات الثلاث المذکورة بأسرها فاسدة، فلا یصحّ القول بأنّ‏‎ ‎‏الأمر بالشیء مُستلزم للنهی عن ضدّه الخاصّ من جهة المقدّمیة.‏

وأمّا استلزامه للنهی عن ضدّه الخاصّ من جهة الملازمة بینهما فی الخارج،‎ ‎‏فتوضیحه یحتاج إلیٰ رسم مقدّمات:‏

إحداها :‏ أنّ الضدّ مع نقیض ضدّه الآخر متلازمان، کالسواد مع عدم البیاض،‏‎ ‎‏فإنّ السواد إمّا أن یصدق علیه البیاض أو اللابیاض، وإلاّ فإن لم یصدق کلّ واحد‏‎ ‎‏منهما علیه یلزم ارتفاع النقیضین، فلابدّ أن یصدق علیه أحدهما، ولا یصدق علیه‏‎ ‎‏البیاض؛ للزوم اجتماع الضدّین، فلابدّ أن یصدق علیه اللابیاض، وهو المطلوب من‏‎ ‎‏ثبوت الملازمة بین أحد الضدّین ونقیض الضدّ الآخر، کما هو مقتضیٰ مصداقیّة‏‎ ‎‏شیء لعنوانین.‏

وثانیتها :‏ أنّ المتلازمین محکومان بحکم واحد، وإلاّ فلو وجب أحد‏‎ ‎‏المتلازمین، وحُرم الآخر، لزم المحال، وکذلک لو جاز ترکه بالجواز بالمعنیٰ الأعمّ فإنّه‏‎ ‎‏ـ أیضاً ـ کذلک فلابدّ أن یکون محکوماً بحکم الآخر ـ أی الوجوب فی المثال ـ ولا‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 114
‏یجوز خلوّه عن الحکم أصلاً، فإنّه یمتنع خلوّ الواقعة عن الحکم، فإذا فُرض وجوب‏‎ ‎‏الإزالة لزم وجوب ترک الصلاة، الذی هو نقیض ضدّها الملازم لها وجوداً.‏

الثالثة من المقدّمات :‏ أنّ الأمر بالشیء یستلزم النهی عن ضدّه العامّ، ولیس‏‎ ‎‏المراد من الضدّ العامّ الترک، کما یظهر من بعض‏‎[2]‎‏، بل المراد منه نقیض المأمور به، وهو‏‎ ‎‏فعل الصلاة.‏

فنقول :‏ مع التلازم بین ترک الصلاة والإزالة، کما هو مقتضیٰ ما ذکر فی المقدّمة‏‎ ‎‏الاُولیٰ، وأنّ ترک الصلاة واجب عند الأمر بالإزالة، کما هو مقتضیٰ المقدّمة الثانیة، وأنّ‏‎ ‎‏فعل الصلاة محرّم بمقتضیٰ المقدّمة الثالثة، یتمّ المطلوب من استلزام الأمر بالشیء النهی‏‎ ‎‏عن ضدّه الخاصّ؛ لکن هذا القول والاستدلال مبنیّ علیٰ تمامیّة المقدّمات الثلاث،‏‎ ‎‏ولکنّها بأسرها مخدوشة :‏

أمّا الاُولیٰ :‏ فلوقوع مُغالطة فیها، وهی توهّم صدق نقیض البیاض ـ أی‏‎ ‎‏اللاّبیاض ـ علیٰ السواد بنحو الموجبة المعدولة المحمول.‏

‏والصحیح أن یقال : لابدّ أن یصدق علیه البیاض أو لا یصدق علیه البیاض،‏‎ ‎‏لا أنّه یصدق علیه اللاّبیاض بنحو المعدولة الموجبة، ولیس نقیض صدق البیاض علیٰ‏‎ ‎‏السواد هو صدق اللابیاض علیٰ السواد بنحو المعدولة لإمکان ارتفاعهما، بل عدم‏‎ ‎‏صدق البیاض علیه بنحو السلب المحصّل.‏

وأمّا المقدّمة الثانیة ففیها :‏ أنّ العدم والعدمیّ لیسا من الوقائع حتّیٰ یقال لابدّ‏‎ ‎‏أن یکون محکوماً بحکمٍ من الأحکام، فإنّ الأحکام إنّما هی للوقائع وأفعال المکلّفین،‏‎ ‎‏والعدم لیس من أفعالهم. وأمّا ما یُتراءیٰ من حکمهم علیٰ العدم ـ مثل وجوب تروک‏‎ ‎‏الإحرام ـ فهو مسامحة فی التعبیر، وإلاّ فالفعل محرّم، لا أنّ الترک واجب.‏

وأمّا ثانیاً :‏ فلأنّا لا نسلّم امتناع خلوّ الواقعة عن حکم؛ فإنّ الممتنع خلوّها‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 115
‏عن الحکم واقعاً لا الحکم الفعلیّ، فإنّه لا یمتنع خلوّها عن الحکم الفعلیّ.‏

وثالثاً :‏ إن اُرید بالإباحة الإباحة الاقتضائیّة؛ لوجود مصلحة مقتضیة لها فی‏‎ ‎‏صیرورة الفعل مباحاً: فإنّ الفعل إمّا فیه مصلحة مقتضیة لفعله بنحو اللزوم فهو‏‎ ‎‏الواجب، أو مقتضیة للترک کذلک فهو المحرّم، أو للفعل لا بنحو اللزوم فهو المستحبّ،‏‎ ‎‏أو مقتضیة للترک کذلک فهو المکروه.‏

‏وإمّا أن لا یوجود فیه اقتضاء للفعل والترک : فإمّا أن توجد مصلحة خارجة‏‎ ‎‏عنه مقتضیة للإباحة فهی الإباحة الاقتضائیّة، وإلاّ فهی الإباحة اللااقتضائیّة، وحینئذٍ‏‎ ‎‏فإن اُرید من تنافی وجوب أحد المُتلازمین مع إباحة الملازم الآخر الإباحةُ الاقتضائیّة‏‎ ‎‏فهو مُسلّم، لکن یمکن أن یحکم بالإباحة اللااقتضائیّة، فإنّه لا تنافی بین وجوب أحد‏‎ ‎‏المُتلازمین وإباحة المُلازم الآخر بهذا المعنیٰ.‏

وأمّا المقدّمة الثالثة :‏ فقد تقدّم الکلام فیها وفی عدم تمامیّتها، وحینئذٍ فلا یتمّ‏‎ ‎‏القول باستلزام الأمر بالشیء النهیَ عن ضدّه الخاصّ بنحو الاستلزام أیضاً.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 116

  • )) اُنظر أجود التقریرات 1 : 252 .
  • )) نهایة الأفکار 1 : 360 .