الفصل الثانی عشر فی مقدّمة الواجب

الأقوال الراجعة إلی وجوب المقدّمة حال الإیصال

الأقوال الراجعة إلی وجوب المقدّمة حال الإیصال :

‏لکن لو فرض ورود الإشکالات المذکورة، وعدم إمکان أخذ قید الإیصال فی‏‎ ‎‏المقدّمة الواجبة، ولم یمکن القول بوجوب مطلق المقدّمة أیضاً، فهل یمکن تصویر‏‎ ‎‏الواجب من المقدّمة بما یکون برزخاً بین القولین؛ بأن لم یکن الواجب من المقدّمة‏‎ ‎‏مقیّداً بالإیصال مع عدم وجوب مطلق المقدّمة؛ بحیث یشترک مع قول صاحب‏‎ ‎‏الفصول فی النتیجة أو لا؟‏

فنقول :‏ قال الاُستاذ الحائری ‏‏قدس سره‏‏ : إنّ الواجب من المقدّمة لیس ذا وذاک، بل‏‎ ‎‏الطلب تعلّق بالمقدّمات فی حال لحاظ الإیصال، لا مقیّداً بالإیصال حتّیٰ یرد علیه‏‎ ‎‏الإشکالات السابقة‏‎[1]‎‏.‏

والمراد :‏ أنّه بعد تصوّر المقدّمات ولحاظها جمیعها مرتّبةً ـ رج کرده ـ یریدها‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 77
‏بذواتها؛ لأنّ تلک الذوات بهذه الملاحظة لا تنفکّ عن المطلوب الأصلی، ولو لاحظ‏‎ ‎‏مقدّمة منفکّةً عمّا عداها من المقدّمات فلا یریدها جُزافاً، فإنّ ذاتها وإن کانت مورداً‏‎ ‎‏للإرادة، لکن لمّا کانت فی ظرف ملاحظة باقی المقدّمات معها لم تکن کلّ واحدة مرادة‏‎ ‎‏بنحو الإطلاق، وهذا مساوق للإیصال.‏

وقال المحقّق العراقی ‏قدس سره‏‏ :‏‏ یمکن تصویر المسألة بصور :‏

إحداها :‏ أنّ الواجب هو المقدّمة بشرط وجود سائر المقدّمات، ولازم ذلک هو‏‎ ‎‏الإیصال إلیٰ ذی المقدّمة.‏

وثانیتها :‏ أنّ الواجب هو المقدّمة المقیّدة بالإیصال، ولازم ذلک وجود سائر‏‎ ‎‏المقدّمات.‏

وثالثتها :‏ أن الواجب هو الحصّة من المقدّمة التوأمة للإیصال‏‎[2]‎‏. وحینئذٍ فهو‏‎ ‎‏ینتج نتیجة مقالة صاحب الفصول، مع عدم ورود الإشکالات المذکورة علیه، ولیس‏‎ ‎‏قولاً بوجوب مطلق المقدّمة أیضاً.‏

وقال بعض الأعاظم :‏ إنّ الوجوب الغیری لم یتعلّق بکلّ واحدة من المقدّمات،‏‎ ‎‏بل بالعلّة التامّة، وهی مجموع المقدّمات، فیتعلّق بکلّ واحدة منها أمر ضمنی‏‎ ‎‏لاغیری مستقلّ‏‎[3]‎‏.‏

‏ومرجع هذه الوجوه شیء واحد تقریباً، وهو أنّ الواجب لیس مطلق المقدّمة،‏‎ ‎‏ولا المقدّمة المقیّدة بالإیصال، بل الواجب هی المقدّمة حال الإیصال وبلحاظ‏‎ ‎‏الإیصال، لکن الوجوه المذکورة مخدوشة.‏

توضیح ذلک :‏ أنّ الظرف إمّا دخیل فی موضوع حکم، کما إذا قیل: «الماء فی‏‎ ‎‏الآنیة الکذائیّة مطلوب»، فلیس مطلق الماء فیه مطلوباً، أو لا دخل له فیه، کما إذا‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 78
‏قیل: «إنّ الذین فی المدرسة عدول»، فإنّ الظرف لا دخل له فی موضوع هذا الحکم،‏‎ ‎‏بل هو عنوان مشیر ومعرّف له.‏

وحینئذٍ نقول:‏ إنّ قید حال الإیصال ولحاظه فی قولهم: «المقدّمة واجبة حال‏‎ ‎‏الإیصال» لا یخلو عن أحد الفرضین اللّذین ذکرناهما: فإن کان بالنحو الأوّل فهو عین‏‎ ‎‏ما ذکره صاحب الفصول‏‎[4]‎‏، وإنّما الفرق بینهما فی التعبیر، وإن کان بالنحو الثانی فهو‏‎ ‎‏لیس إلاّ القول بوجوب مطلق المقدّمة؛ لعدم التقیید فیها حینئذٍ.‏

‏ویرد علیٰ خصوص مقالة المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‎[5]‎‏ مضافاً إلیٰ ما ذکر ـ: أنّ‏‎ ‎‏المُراد بالحصّة المذکورة فی عبارته هی الطبیعة المقیّدة بالإیصال، فهو عین مقالة‏‎ ‎‏صاحب الفصول ‏‏قدس سره‏‏.‏

‏فإذا لم یرد علیٰ مقالة صاحب الفصول إشکال عقلی، فالأمر دائر بین قوله وبین‏‎ ‎‏القول بوجوب مطلق المقدّمة؛ لما عرفت من أنّ الأقوال الاُخر کلّها ـ وکذا ما أفاده‏‎ ‎‏المحقّق العراقی ـ لیست بشیء.‏

واستدلّ فی «الفصول» : تارةً‏ بأنّ الحاکم بوجوب المقدّمة هو العقل الحاکم‏‎ ‎‏بالملازمة، فهو لا یحکم بوجوب غیر الموصلة.‏

‏والظاهر أنّ مراده أنّ القدر المُتیقّن هو ذاک؛ لیمتاز عن الدلیل الثالث الآتی.‏

واُخریٰ:‏ بأنّ الوجدان شاهد علیٰ أنّه یصحّ أن یصرّح المولیٰ: بأنّی لا اُرید جمیع‏‎ ‎‏المقدّمات أو المقدّمات الغیر الموصلة، مع أنّه یقبِّح علیه التصریح بالنهی عن المقدّمات‏‎ ‎‏الموصلة أو جمیع المقدّمات، وهذا دلیل علیٰ أنّ الواجب هو المقدّمات الموصلة.‏

وثالثة :‏ بأنّه لمّا کان وجوب المقدّمة لأجل التوصّل بها إلیٰ الإتیان بذی‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 79
‏المقدّمة، فلابدّ أن یکون الواجب هی هذه الحیثیّة؛ أی المقدّمة من حیث الإیصال‏‎[6]‎‏.‏

‏هذه خلاصة استدلالاته، والعمدة منها هو الأخیر، فإنّ الأوّلین منها مجرّد‏‎ ‎‏دعویٰ یمکن عدم قبولها کما فی «الکفایة»‏‎[7]‎‏.‏

وأمّا الثالث :‏ فأجاب عنه فی «الکفایة» :‏

أوّلاً :‏ بمنع الصغریٰ؛ أی أنّ وجوب المقدّمة إنّما هو للتوصّل، بل وجوبها إنّما هو‏‎ ‎‏لعدم تمکُّن المُکلّف وقدرته علیٰ امتثال أمر ذی المقدّمة بدونها؛ لأنّ التوصُّل إلیٰ ذی‏‎ ‎‏المقدّمة لیس من آثار وجوب المقدّمة وغایتها، بل من الفوائد التی تترتّب علیها‏‎ ‎‏أحیاناً بالاختیار، وبمقدّمات اُخریٰ هی مبادی اختیاره، ولا یکاد یکون مثل هذا‏‎ ‎‏غایة لمطلوبیّتها، وداعیاً إلیٰ إیجادها، وإلاّ یرد علیه إشکال الدور، ولزم أن یکون ذو‏‎ ‎‏المقدّمة واجباً نفسیّاً وغیریّاً.‏

واُخریٰ :‏ أنّه مع فرض تسلیم الصغریٰ، لکن الکبریٰ ممنوعة، ونمنع اعتبار‏‎ ‎‏التوصُّل فیها وإن سُلِّم أنّ الوجوب لأجل التوصُّل. انتهیٰ‏‎[8]‎‏.‏

لکن فیه أوّلاً :‏ أنّه إن أراد أنّ غایة وجوب المقدّمة هو هذا الأمر العدمی ـ أی‏‎ ‎‏عدم إمکان إیجاد ذی المقدّمة بدونه ـ فهو کما تریٰ، ولا أظنّ أن یلتزم به، فلابدّ أن‏‎ ‎‏یرید أنّ الغایة له هو توقّف ذی المقدّمة علیه لا التوصّل إلیٰ ذی المقدّمة.‏

وثانیاً :‏ أنّه علیٰ فرض تسلیمه الصغریٰ ـ أی أنّ وجوب المقدّمة للتوصّل إلیٰ‏‎ ‎‏ذیها ـ لا یُعقل وجوب المقدّمة بدون هذه الحیثیّة؛ ضرورة أنّه إذا تعلّق الحبّ والشوق‏‎ ‎‏أوّلاً وبالذات بحیثیّة کامنة فی الشیء، کحیثیّة التوصّل إلیٰ ذی المقدّمة فی المقدّمة، فلا‏‎ ‎‏محالة یتعلّق إرادته ـ أیضاً ـ بتلک الحیثیّة، ولا یُعقل تعلُّقها بحیثیّة اُخریٰ، کما هو‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 80
‏واضح، ولا فرق فی ذلک بین الواجب النفسی والغیری.‏

نعم :‏ لو جهل المُکلَّف بغایة الشیء المأمور به، کنَیل الدرجات العالیة فی مثل‏‎ ‎‏وجوب الصلاة، یمکن أن یفعلها لا لأجل ذلک.‏

وقال بعض المحقّقین :‏ یمکن توجیه مقالة صاحب الفصول بوجهین :‏

أحدهما :‏ أن یرید بما ذکره واختاره : أنّ الإرادة متعلّقة بکلّ واحد من السبب‏‎ ‎‏الفعلی والشرط الفعلی أو المعدّ الفعلی، ولا ریب أنّ کلّ واحد منها مع قید الفعلیّة‏‎ ‎‏یلازم الإیصال إلیٰ ذی المقدّمة.‏

الثانی :‏ أنّ الإرادة متعلّقة بالعلّة التامّة لذی المقدّمة، وهی عبارة عن مجموع‏‎ ‎‏المقتضی والشروط والمعدّ، ولا ریب فی أنّها مستلزمة للوصول إلیٰ المعلول.‏

ثمّ استشکل :‏ بأنّ الإرادة من أجزاء العلّة التامّة، ولا یمکن تعلّق الإرادة بها؛‏‎ ‎‏لأنّها لیست بالاختیار.‏

وأجاب :‏ بأنّا لا نُسلِّم عدم إمکان تعلّق الإرادة والشوق بها، بل الممتنع هو‏‎ ‎‏البعث إلیها‏‎[9]‎‏ انتهیٰ.‏

أقول :‏ یرد علیٰ ما ذکره أوّلاً : ما أوردناه علیٰ ما فی «الکفایة»: من أنّه لو‏‎ ‎‏فرض أنّ حیثیّة التوصُّلیّة علّة لوجوب المقدّمة فالواجب هو هذه الحیثیّة لا غیرها،‏‎ ‎‏فإنّ مرجع الحیثیّات التعلیلیّة فی الأحکام العقلیّة إلیٰ الحیثیّات التقییدیّة.‏

‏هذا إذا أراد أنّ حیثیّة المُوصِلیّة علّة لتعلُّق الإرادة بالمقدّمة.‏

‏وإن أراد أنّ حیثیّة السببیّة التامّة والشرطیّة الفعلیّة والمعدّ الفعلی علّة لتعلّق‏‎ ‎‏الإرادة بالمقدّمة، فهو خلاف الوجدان.‏

‏ویرد علیٰ ما ذکره ثانیاً ـ مضافاً إلیٰ هذا الإشکال الوارد علیٰ الأوّل ـ: أنّ‏‎ ‎‏مجموع المقتضی والشرط والمعدّ لیس شیئاً واحداً؛ لیتعلّق به الإرادة سویٰ الإرادة‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 81
‏المتعلّقة بکلّ واحد من المقتضی والشرط والمُعِدّ، فهل تریٰ من نفسک تعلُّق إرادتک‏‎ ‎‏بمجموع المقدّمات من حیث المجموع، سویٰ الإرادة المتعلّقة بالأجزاء؛ أی أجزاء العلّة‏‎ ‎‏کلّ واحد منها؟!‏

‏ولا یتوهّم إرادة ذلک المحقّق أنّ مراد صاحب الفصول ذلک؛ کیف وهو أورد‏‎ ‎‏علیٰ مذهبه الإیرادات المتقدّمة؟! فکیف یمکن أن یرید ذلک مع إشکاله علیه؟!‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 82

  • )) درر الفوائد : 119 .
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقق العراقی) 1 : 392 .
  • )) اُنظر أجود التقریرات 1 : 240 ـ 241 .
  • )) تقدّم تخریجه.
  • )) تقدّم تخریجه.
  • )) اُنظر الفصول الغرویّة : 86 سطر 19 .
  • )) اُنظر کفایة الاُصول : 147 ـ 148 .
  • )) اُنظر نفس المصدر : 149 ـ 150 .
  • )) اُنظر نهایة الدرایة 1 : 205 ـ 206 .