الفصل الثانی عشر فی مقدّمة الواجب

المقدّمة الموصلة

المقدّمة الموصلة :

‏وأمّا القول الثالث وهو ما اختاره صاحب (الفصول) : من القول بوجوب‏‎ ‎‏المقدّمة الموصلة فقط‏‎[1]‎‏، فله تصویران :‏

أحدهما:‏ أن یقال: إنّ الإیصال والترتُّب شرط للوجوب، وعلّة لاتّصاف المقدّمة‏‎ ‎‏به، فإذا أوجد المقدّمة، ثمّ أوجد بعدها ذا المقدّمة، فبالوصول إلیه تصیر المقدّمة واجبة.‏

‏لکن هذه الصورة مستحیلة، وأنکرها صاحب الفصول‏‎[2]‎‏ أیضاً.‏

الثانیة :‏ أنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة بحسب متن الواقع ونفس الأمر، لکن‏‎ ‎‏لا یعلم حین إیجاد ذاتها أنّها الواجبة إلاّ بعد إیجاد ذی المقدّمة، فیستکشف بإیجاد‏‎ ‎‏ذی المقدّمة اتّصافُها بالوجوب حین إیجادها سابقاً، وهذه الصورة هی مراد‏‎ ‎‏صاحب الفصول.‏

واُورد علیه ‏بأنّه مُستحیل ؛ لوجوه :‏

الأوّل : أنّه مستلزم للدور، وقُرِّر بتقریبات :

‏الأوّل :‏‏ أنّه لو فرض أنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة فذو المقدّمة مقدّمة‏‎ ‎‏لتحقّق الواجب من المقدّمة؛ ضرورة أنّه لا یتحقّق الإیصال إلاّ بوجود ذی المقدّمة‏‎ ‎‏وتحقّقه، فیتوقّف وجود کلّ واحد من المقدّمة وذیها علیٰ وجود الآخر‏‎[3]‎‏.‏

الثانی :‏ ما قرّره فی «الدرر» : من أنّه لا ریب فی أنّه لا مناط للطلب الغیری إلاّ‏‎ ‎‏التوقّف واحتیاج ذی المقدّمة إلیٰ غیره بداهةً، وحینئذٍ فنقول : الإیصال عنوان ینتزع‏‎ ‎‏من وجود ذی المقدّمة، فیتوقّف علیه، فلو توقّف ذو المقدّمة علیٰ الفعل المقیّد‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 73
‏بالإیصال، لزم الدور؛ لأنّ الإیصال یتوقّف علیٰ ذی المقدّمة المتوقّف علیٰ الإیصال‏‎[4]‎‏.‏

الثالث :‏ ما قرّره بعض مقرّری درس المیرزا النائینی : من أنّ وجوب المقدّمة‏‎ ‎‏متوقّف علیٰ وجوب ذی المقدّمة ؛ لأنّه غیری وترشُّحی، فلو کان الواجب هو المقدّمة‏‎ ‎‏الموصلة، فهو یستلزم توقّف وجوب ذی المقدّمة علیٰ المقدّمة؛ لأنّه ـ أیضاً ـ حینئذٍ‏‎ ‎‏مقدّمة للمقدّمة لو اعتبر الإیصال، فیترشّح من وجوب المقدّمة وجوب ذی المقدّمة،‏‎ ‎‏فیتوقّف وجوب کلّ منهما علیٰ وجوب الآخر‏‎[5]‎‏.‏

‏لکن هذه التقریرات کلّها مدخولة :‏

أمّا الأوّل :‏ فلأنّ الموقوف غیر الموقوف علیه؛ فإنّ وجود ذات ذی المقدّمة‏‎ ‎‏موقوف علیٰ وجود المقدّمة الموصلة، واتّصاف المقدّمة بالإیصال موقوف علیٰ وجود‏‎ ‎‏ذی المقدّمة، فلیس وجود المقدّمة متوقّفاً علیٰ وجود ذی المقدّمة، والدور التکوینی‏‎ ‎‏المُستحیل هو أن یتوقّف وجود کلّ واحد منهما علیٰ وجود الآخر، وما نحن فیه لیس‏‎ ‎‏کذلک کما عرفت.‏

أمّا الثانی :‏ فهو ـ أیضاً ـ غیر وارد علیٰ صاحب الفصول، فإنّه لا نسلّم المقدّمة‏‎ ‎‏التی ذکرها للدور، وهی دعویٰ بداهة أنّ المناط فی الطلب الغیری هو التوقّف لا غیر،‏‎ ‎‏فإنّه قائل بوجوب المقدّمة الموصلة فقط، لا مُطلق المقدّمة، والدور المذکور مبنیّ علیٰ‏‎ ‎‏وجوب مطلق المقدّمة.‏

وأمّا التقریب الثالث :‏ فهو واضح الفساد؛ لأنّ الوجوب الغیری للمقدّمة‏‎ ‎‏یتوقّف علیٰ الوجوب النفسی لذی المقدّمة، ولا یتوقّف الوجوب النفسی لذی المقدّمة‏‎ ‎‏علیٰ وجوب المقدّمة، بل المتوقّف علیٰ وجوب المقدّمة هو الوجوب الغیری لذیها،‏‎ ‎‏فالموقوف غیر الموقوف علیه.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 74
الثانی من الوجوه الواردة علیٰ القول بوجوب المقدّمة الموصلة :‏ أنّه مستلزم‏‎ ‎‏للتسلسل؛ وذلک لأنّه لو فرض أنّ الواجب هی المقدّمة الموصلة، فهی تنحلّ إلیٰ ذات‏‎ ‎‏المقدّمة وقید الإیصال؛ لأنّ الواجب عنده هو المقدّمة الموصلة لا مطلق المقدّمة، فذات‏‎ ‎‏المقدّمة ـ أیضاً ـ مقدّمة لوجود ملاک المقدّمیة فیها أیضاً، فلابدّ من قید إیصال آخر فی‏‎ ‎‏وجوبها؛ لما ذکر أنّ مطلق المقدّمة لیست واجبة عنده، فتنحلّ ـ أیضاً ـ إلیٰ ذات‏‎ ‎‏المقدّمة وقید الإیصال، فلابدّ من إیصال آخر، وهکذا یذهب إلیٰ ما لا نهایة له، وکذا‏‎ ‎‏فی جانب الإیصال فإنّه ـ أیضاً ـ مقدّمة، فلابدّ من قید إیصال آخر فیه، وهکذا..‏‎[6]‎‏.‏

وفیه :‏ أنّ هذا التسلسل نظیر التسلسل فی الاعتباریّات، مثل أن یقال:‏‎ ‎‏الزوجیّة لازمة للأربعة، وهذا اللزوم ـ أیضاً ـ لازم، وهکذا ..‏

وجوابه :‏ أنّ هذه اللزومات لیست مُتعدّدة، بل لزوم واحد، فکذا فیما نحن فیه،‏‎ ‎‏فإنّ الأمر متعلّق بذات المقدّمة وقید الإیصال معاً علیٰ مذهبه، فقوله: ـ إنّ ذات‏‎ ‎‏المقدّمة ـ أیضاً ـ مقدّمة، فلابدّ من قید الإیصال أیضاً ـ فیه : أنَّ هذا الإیصال بعینه هو‏‎ ‎‏الإیصال الأوّل لا غیر، فلا إشکال.‏

الثالث من وجوه الإیرادات علیٰ القول بالمقدّمة الموصلة:‏ أنّه بناءً علیه یلزم‏‎ ‎‏اتّصاف ذی المقدّمة ـ الذی هو مطلوب نفساً ـ بوجوبات متعدّدة غیریّة بعدد‏‎ ‎‏المقدّمات فیما لو تعدّدت؛ لأنّ ذا المقدّمة ـ علیه ـ مقدّمة لمقدّمات متعدّدة موصلة،‏‎ ‎‏فیترشّح من کلّ واحدة منها وجوب غیری إلیٰ ذی المقدّمة، فیلزم ما ذکر‏‎[7]‎‏.‏

وفیه :‏ أنّ الواجب من المقدّمة علیٰ مذهب صاحب «الفصول» هی المقدّمة‏‎ ‎‏الموصلة، فهی المتّصفة بالوجوب الغیری الترشّحی، لا مطلق المقدّمة، وذات الواجب‏‎ ‎‏النفسی لیست مقدّمة موصلة لذات المقدّمة، بل هو مقدّمة لاتّصاف المقدّمات‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 75
‏بالإیصال، فلیس ذات الواجب مقدّمة موصلة؛ حتّیٰ یتّصف بالوجوبات الغیریّة‏‎ ‎‏المتعدّدة بعدد المقدّمات. فاتّضح من جمیع ما ذکرنا: أنّ القول بالمقدّمة الموصلة‏‎ ‎‏لیس مستحیلاً.‏

الرابع من الوجوه ما استشکل فی «الکفایة» علیٰ القول بوجوب المقدّمة‎ ‎الموصلة :‏ بأنّه مستلزم لإنکار وجوب مقدّمات کثیرة، بل أکثرها، وانحصار الوجوب‏‎ ‎‏بمقدّمات هی علّة تامّة لترتّب ذیها علیها، کالأفعال التولیدیّة، وأمّا غیرها فهی وإن‏‎ ‎‏کانت مستندة إلیٰ علّة تامّة؛ لاستحالة وجود الممکن بدون العلّة، لکن بعض أجزاء‏‎ ‎‏علّتها من مقدّمات الفعل الاختیاری کالإرادة، لیس اختیاریّاً ومقدوراً للمکلّف، فلا‏‎ ‎‏یمکن أن یتعلّق به الوجوب‏‎[8]‎‏.‏

وفیه :‏ أنّه لیس المراد بالمقدّمة الموصلة العلّة التامّة لیرد علیه هذا الإشکال، بل‏‎ ‎‏المراد منها هی التی یقع بعدها ویترتّب علیها الواجب، سواء کان بلا واسطة أم مع‏‎ ‎‏واسطة أو وسائط، لا مطلق المقدّمة وإن لم یقع ویوجد الواجب بعدها، کما لا یخفیٰ‏‎ ‎‏علیٰ من أعطیٰ حقّ النظر فی کلام صاحب «الفصول» ‏‏قدس سره‏‏ فإنّه مثّل بما إذا قال المولیٰ‏‎ ‎‏لعبده: «اشترِ اللحم»‏‎[9]‎‏، فالذهاب إلی السوق ونحوه من المقدّمات إذا ترتّب علیها‏‎ ‎‏الواجب ووجد بعدها فهی متّصفة بالوجوب، مع أنّها لیست علّة تامّة للاحتیاج إلیٰ‏‎ ‎‏الإرادة أیضاً.‏

‏مضافاً إلیٰ أنّا لا نُسلِّم أنّ الإرادة غیر اختیاریّة، کما تقدّم بیانه، ولو سلّمنا أنّها‏‎ ‎‏غیر اختیاریّة یرد علیٰ صاحب «الکفایة» أنّه لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة فالإرادة‏‎ ‎‏ـ أیضاً ـ من المقدّمات، فیلزم اتّصافها بالوجوب، مع أنّها غیر اختیاریة علیٰ مذهبه،‏‎ ‎‏فما یدفع به هذا الإشکال هو الجواب عن الإشکال الذی ذکره.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 76
واستشکل أیضاً :‏ بأنّه بناءً علیٰ وجوب المقدّمات الموصلة فقط؛ لو أتیٰ بواحدة‏‎ ‎‏منها بدون انتظار الإیصال إلیٰ ذی المقدّمة، أو فُرض حصول المقدّمة قبل تعلّق‏‎ ‎‏الوجوب بها، یلزم أن لا یسقط الأمر مع سقوطه بلا ریب وإشکال، وسقوط الأمر‏‎ ‎‏إنّما هو إمّا بالإطاعة، أو انتفاء الموضوع، کما إذا غرق المیّت، فیسقط التکلیف‏‎ ‎‏بتجهیزه ودفنه، أو بالمخالفة والعصیان، ولیس فی المقام إلاّ الأوّل، فالسقوط هنا إنّما‏‎ ‎‏هو لأجلها‏‎[10]‎‏.‏

والجواب :‏ أنّه لا مانع من القول بعدم سقوط الأمر فی الفرض؛ بناءً علیٰ القول‏‎ ‎‏بوجوب المقدّمة الموصلة فقط.‏

فتلخّص :‏ أنّه لایرد علیٰ هذا القول إشکال عقلی ولا غیره.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 77

  • )) الفصول الغرویّة : 86 .
  • )) نفس المصدر.
  • )) اُنظر فوائد الاُصول 1 : 290 .
  • )) اُنظر درر الفوائد : 118 .
  • )) اُنظر أجود التّقریرات 1 : 237 ـ 238 .
  • )) اُنظر فوائد الاُصول 1 : 290 .
  • )) اُنظر درر الفوائد : 119 .
  • )) اُنظر کفایة الاُصول : 145 ـ 146 .
  • )) الفصول الغرویّة : 88 سطر 6 .
  • )) اُنظر کفایة الاُصول : 146 .