الفصل الثانی عشر فی مقدّمة الواجب

خاتمة

خاتمة :

‏هل یترتّب الثواب والعقاب علیٰ الواجب الغیری فی صورتی الموافقة والمخالفة‏‎ ‎‏أو لا ؟‏

فنقول :‏ هل الإثابة والمُعاقبة فی یوم الجزاء بمحاکمة العبد، کما فی هذه الدنیا،‏‎ ‎‏وهو ظاهر الآیات القرآنیة؟‏

‏أو أنَّ الثواب والعقاب من لوازم الأعمال بتجسّمهما ولا ینفکّان عنها؟‏

‏ثمَّ إنَّ المثوبة والعقوبة الأخرویتین مجعولتان لکلِّ عملٍ قدر مخصوص‏‎ ‎‏منهما؟ نظیر جعل الحدود والدیّات فی هذه النشأة لبعض الأعمال، کما ذهب إلیه‏‎ ‎‏المحقّق النهاوندی‏‎[1]‎‏.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 51
‏أو أنّهما یترتبان علی الأعمال والأفعال من دون جعل قدر مخصوص لکلّ عمل‏‎ ‎‏منها أولاً؟.‏

‏ثم إنّ بعضهم ذهب إلیٰ أنّ النفس تکتسب بالأفعال الحسنة استعداداً لائقاً وقابلاً‏‎ ‎‏لإفاضة صورٍ بهیّة علیها وبالأفعال السیّئة استعداداً لورود صور ظلمانیة علیها‏‎[2]‎‏.‏

وحینئذٍ نقول :‏ إنّ القول بأنّ المثوبة إنّما هی بالتفضّل لا بنحو الاستحقاق‏‎[3]‎‎ ‎‏بناء علیٰ هذه الوجوه غیر سدید امّا بناء علیٰ أنّها من لوازم الأعمال‏‎[4]‎‏ فواضح انّها‏‎ ‎‏بنحو الاستحقاق، لکنّه استحقاق تکوینی، وکذلک بناء علیٰ ما ذکره المحقّق‏‎ ‎‏النهاوندی؛ لأن معنی الجعل هو الاستحقاق ومعنیٰ التفضّل إمکان عدم ترتّب المثوبة‏‎ ‎‏علیٰ الأفعال الحسنة، مع أنّه بناء علیٰ هذا القول یستحیل تخلّفه تعالیٰ عمّا جعله، وهذا‏‎ ‎‏ممّا لا إشکال فیه.‏

‏وإنّما الإشکال فی أنّه إذا أمر المولیٰ بشیء من دون أن یجعل له عوضاً، فهل‏‎ ‎‏یستحقّ العبد بالإتیان بالمأمور به مثوبة أو لا، بل المثوبة من باب التفضّل؟.‏

‏والظاهر أنّ محلّ النزاع فی المقام هو هذا الفرض، لکن الحقّ أنّها لیست بنحو‏‎ ‎‏الاستحقاق بحیث یقبح ترکها علیه، وذلک لأنّ جمیع القویٰ الکامنة فی الإنسان، وکذا‏‎ ‎‏جمیع ما یحتاج إلیه فی معاشه ومعاده، من مواهب الله تعالیٰ بدون استحقاق العبد لها،‏‎ ‎‏فلو أمره بصرف بعض مواهبه تعالیٰ فی مورد خاصّ، فلا یستحقّ لذلک عوضاً، مثلاً:‏‎ ‎‏لو أعطاه خمسین دیناراً وأمره بإنفاق واحد منها، فهو لا یُنفق إلاّ من مال المولیٰ،‏‎ ‎‏فلایستحق لذلک مثوبةً، وکذا لو اُمر بغضّ البصر عمّا حرّم الله النظر إلیه.‏

‏هذا کلّه مع أنّ الآثار المترتّبة علیٰ الإطاعات وترک المعاصی ترجع إلیٰ العبد‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 52
‏نفسه لا إلیه تعالیٰ؛ لاستغنائه عن جمیع المخلوقات وإطاعاتهم حتّی الأنبیاء والأولیاء‏‎ ‎‏ولو امتثل العبد جمیع أوامر الله وانزجر عن جمیع محارم الله لم یأتِ إلاّ أقلّ قلیل من‏‎ ‎‏حقّ الله الذی یجب علیه، وحینئذٍ فبطلان القول بالاستحقاق أوضح.‏

‏وإذا عرفت أنّ الإثابة فی الواجبات النفسیّة لیست بنحو الاستحقاق، تعرف‏‎ ‎‏أنّه لا وقع للبحث فی استحقاقها فی الواجبات الغیریّة وعدمه.‏

‏والتحقیق أن یقال: إنّ المراد بالاستحقاق هنا هو الاستحقاق العُرفی، نظیر‏‎ ‎‏استحقاق الأجیر للاُجرة علی عمله؛ بمعنی أنّه یثبُت للأجیر حقّ علی المستأجر؛‏‎ ‎‏بحیث یُعدّ منعه ظلماً علیه یقبِّحه العقلاء، وحینئذٍ فإن قلنا: إنّ المثوبة والعقوبة لازمتان‏‎ ‎‏للأعمال بتجسُّمهما فی النشأة الآخرة باکتساب العبد بالأعمال الحسنة استعداداً قابلاً‏‎ ‎‏ولائقاً لإفاضة الصور البهیّة، وبالأعمال السیّئة استعداداً قابلاً لورود صور ظلمانیّة فلا‏‎ ‎‏معنیٰ للقول باستحقاق المثوبة فی امتثال الواجبات الغیریّة بالمعنیٰ المذکور.‏

وإن قلنا:‏ إنّ الثواب والعقاب للأعمال مجعولان، فاستحقاق العقوبة والمثوبة‏‎ ‎‏تابع للجعل، فإن جُعل لامتثال الواجب الغیری مثوبة، فبامتثاله یجب علی الله تعالیٰ‏‎ ‎‏إعطاؤها له؛ لاستحالة تخلّفه تعالیٰ عمّا وعده، فإنّه تعالیٰ أمر العباد بالوفاء بعهودهم‏‎ ‎‏فکیف لایفی هو تعالیٰ بعهده؟! هذا الکلام کلّه فی الاستحقاق وعدمه.‏

وهل یترتّبان علیٰ امتثال الواجبات الغیریّة ومخالفتها لا علیٰ وجه الاستحقاق أو لا؟

‏نقول:‏‏ لا معنیٰ لترتّبهما علیٰ الواجبات الغیریّة؛ لأنّهما متفرّعان علیٰ الإطاعة‏‎ ‎‏وترکها ـ أی المخالفة ـ وامتثال الواجبات الغیریّة لا یُعدّ طاعة وترکها مخالفة، فإنّ‏‎ ‎‏وجوب المقدّمة ـ مثلاً ـ غیریٌّ وبحکم العقل، فلو أمر المولیٰ بمقدّمة فلا یخلو العبد من‏‎ ‎‏أنّه إمّا مرید لامتثال أمر ذی المقدّمة أو لا:‏

‏فعلیٰ الأوّل یحکم العقل بلزوم الإتیان بمقدّمته للتوقّف، فیحرّک عضلاته نحو‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 53
‏إیجادها، فلا داعویّة للأمر بالمقدّمة له إلیٰ إیجادها، فهو یرید المقدّمات بحکم عقله‏‎ ‎‏بإرادة مستقلّة، فلا داعویّة للأمر الغیری له نحو الفعل.‏

‏وعلیٰ الثانی فهو أوضح؛ أی لا داعویّة للأمر بالمقدّمة نحوها، وحینئذٍ فلا‏‎ ‎‏یتحقّق بامتثال أمر المقدّمة وعدمه موضوعُ المثوبة والعقوبة؛ أی الإطاعة والمخالفة.‏

‏فتلخّص : أنّه لا یستحقّ الثواب والعقاب علیٰ امتثال الواجبات الغیریّة‏‎ ‎‏ومخالفتها، ولا یترتّبان علیها بدون الاستحقاق ـ أیضاً ـ من حیث إنّها مقدّمات‏‎ ‎‏وواجبات غیریّة، لکن هل یستحقّهما العبد لحیثیّة اُخریٰ؟ ولیس المراد مجرّد ترتُّب‏‎ ‎‏الثواب والعقاب، بل استحقاقهما؛ بمعنیٰ ثبوت حقٍّ للعبد علیٰ المولیٰ بامتثال الواجب‏‎ ‎‏الغیری عقلاً، فلابدّ من ملاحظة الأوامر الغیریّة من الموالی العُرفیّة بالنسبة إلیٰ‏‎ ‎‏عبیدهم، ثمّ ملاحظة الأوامر الشرعیّة.‏

فنقول :‏ لو أمر المولیٰ عبده بإنقاذ ابنه الغریق وأمره بمقدّماته ـ أیضاً ـ فامتثل‏‎ ‎‏العبد أمر المقدّمات ، لکنّه لم یتمکّن من إنقاذه، فهل تریٰ من نفسک ثبوت حقّ للعبد‏‎ ‎‏علیٰ مولاه بامتثال أمر المقدّمات فقط؛ من حیث تحمّله المشاقّ فی تحصیلها، أو من‏‎ ‎‏حیث إنّ الشروع بإیجاد المقدّمات شروع فی امتثال ذی المقدّمة عرفاً، أو لأجل حیثیّة‏‎ ‎‏اُخریٰ؛ بحیث لو امتنع المولیٰ من أداء حقّه قبّحه العقلاء، ویعدّ ظالماً له بامتناع أداء‏‎ ‎‏حقّه؟! حاشا وکلاّ؛ لعدم إتیانه بما أمره به المولیٰ من إنقاذ ابنه، وما أتیٰ به لم یکن‏‎ ‎‏مأموراً به بالأصالة.‏

‏ولهذا حکم الفقهاء بثبوت اُجرة المِثْل، فیما لو أمر أحدٌ شخصاً بحمل شیءٍ إلیٰ‏‎ ‎‏مکان معیّن، بدون أن یجعل له اُجرة، فحمله إلیٰ ذلک المکان من دون أن یقصد التبرّع،‏‎ ‎‏وبعدم ثبوت شیءٍ له لو لم یحمله إلیٰ ذلک المکان، وإن تحمَّلَ مشاقاً بتحصیل‏‎ ‎‏مقدّمات الحمل.‏

‏وکذا لو کان له عبدان أمرهما بإنقاذ ابنه الغریق فأنقذه أحدهما بمقدّمات‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 54
‏کثیرة، والآخر بدونها، فلا أظنّ أن تزعم أنّ ثواب الأوّل أکثر من الثانی مع اشتراکهما‏‎ ‎‏فی أصل الإنقاذ، وإن تحمَّلَ الأوّل مشاقاً لتحصیل مقدّمات کثیرة.‏

‏فما یظهر من المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ من أنّ الإتیان بالمقدّمات یُعد شروعاً فی امتثال‏‎ ‎‏ذی المقدّمة عرفاً، فتقسّط المثوبة علیٰ المقدّمة أیضاً‏‎[5]‎‏.‏

فمدفوع :‏ أمّا ‏أوّلاً:‏ فلأنّه کیف تقسّط وتنبسط علیٰ المقدّمات مثوبة ذی المقدّمة‏‎ ‎‏مع عدم الشروع فی امتثاله.‏

وثانیاً :‏ سلّمنا ذلک، لکن محلّ الکلام استحقاق المثوبة علیٰ المقدّمة زائدة علیٰ‏‎ ‎‏المثوبة المترتّبة علیٰ ذی المقدّمة، لا انبساط مثوبة ذی المقدّمة علیها، بل لا یستحقّ‏‎ ‎‏المثوبة بمجرّد الشروع فی ذی المقدّمة ـ أیضاً ـ إلاّ مع الإکمال، مع أنّه یصدق أنّه شرع‏‎ ‎‏فی امتثال ذی المقدّمة.‏

‏وکذا ما فی «الکفایة» من أنّه یستحقّ العبد مثوبة زائدة علیٰ المثوبة المترتّبة‏‎ ‎‏علیٰ ذی المقدّمة بموافقة أمر المقدّمة؛ لأنّه ـ حینئذٍ ـ یصیر أفضل الأعمال وأشقّها‏‎[6]‎‏.‏

نعم :‏ لا ریب فی أنّ العبد الممتثل للأوامر الغیریّة ممدوح عند العقلاء لحسن‏‎ ‎‏سریرته، وذلک لأنّه لو فرض ثلاثة اعتقدوا بتوجّه أمر الشارع إلیهم بشیء کالحجّ،‏‎ ‎‏فهمّ اثنان منهم وصارا بصدد الامتثال، دون الثالث، وأخذ الأوّلان فی مقدّماته ونفسِ‏‎ ‎‏الحجّ، دون الثالث وفرض عدم وجوب الحجّ واقعاً، إلاّ علیٰ أحد الأوّلین، فلاریب فی‏‎ ‎‏أنّه فرق بینهم عند العقلاء، فإنّ الممتثل لأمر الحجّ یستحقّ الثواب؛ لامتثاله أمر‏‎ ‎‏المولیٰ، بخلاف الآخر ـ الذی لم یجب علیه الحجّ ـ لعدم الأمر بالنسبة إلیه وإن أتیٰ به‏‎ ‎‏جهلاً، لکن یمدحه العقلاء؛ لانقیاده وحسن سریرته، وأنّه لیس بصدد الُمخالفة للمولیٰ،‏‎ ‎‏ویذمّون الثالث من جهة سوء سریرته وجرأته؛ حیث إنّه مع اعتقاده بتوجّه الأمر إلیه‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 55
‏لم یکن بصدد الامتثال والإطاعة، وإن فرض عدم وجوب الحجّ علیه ـ أیضاً ـ واقعاً،‏‎ ‎‏وکان اعتقاده جهلاً مرکّباً.‏

فتلخّص :‏ أنّه لا یستحقّ العبد فی امتثال الأوامر الغیریّة مثوبة أصلاً؛ لا من‏‎ ‎‏حیث إنّها مقدّمات، ولا من حیثیّة اُخریٰ، لکن یمکن أن یُزاد فی ثواب ذی المقدّمة‏‎ ‎‏لأجل امتثال أمر المقدّمة بتحمّل المشاقّ لتحصیلها، فیمکن أن یستحقّ الآفاقی للحجّ‏‎ ‎‏من المثوبة ما لا یستحقّه غیره، کالمجاورین لمکّة المکرّمة؛ لأجل تحمّل الآفاقی من‏‎ ‎‏المشاقّ من طیّ المسافات الطویلة، دون الثانی.‏

إذا عرفت ذلک نقول:‏ قد اُورد فی الطهارات الثلاث بوجوه :‏

الأوّل :‏ أنّک قد عرفت عدم استحقاق العبد للثواب والعقاب فی امتثال‏‎ ‎‏الواجبات الغیریّة ومخالفتها، مع ترتُّب الثواب علیٰ الطهارات الثلاث بمقتضیٰ الأخبار،‏‎ ‎‏مع أنّ الطهارات الثلاث مقدّمات للصلاة ونحوها، وعرفت أنّ امتثالها لا یعدُّ طاعة‏‎ ‎‏وترکها مخالفة، مع أنّ الثواب والعقاب فرع تحقّق عنوانی الموافقة والمخالفة أو‏‎ ‎‏الطاعة والعصیان‏‎[7]‎‏.‏

وفیه :‏ أنّه لا مانع من أن یجعل الشارع لامتثال بعضها مثوبة، والطهارات‏‎ ‎‏المذکورة کذلک.‏

‏وما أجاب به المحقّق العراقی : من انبساط المثوبة لذی المقدّمة علیٰ المقدّمة‏‎ ‎‏أیضاً، وأنّ الآخذ فی المقدّمة یعدّ آخذاً فی ذی المقدّمة‏‎[8]‎‏، فقد عرفت ما فیه سابقاً.‏

الثانی :‏ أنّه لاریب فی أنّ الطهارات المذکورة ـ بما هی عبادة ـ مقدّمة،‏‎ ‎‏فلابدّ فیها من قصد العبادیّة وإتیانها بداعی امتثال الأمر، لا بأیّ وجههٍ اتّفق؛ لأنّها‏‎ ‎‏کذلک لیست مقدّمة، فالعبادیّة مأخوذة فی مقدّمیّتها وفی متعلّق أمرها فی الرتبة‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 56
‏السابقة، وحینئذٍ فمحقّق عبادیّتها إن کان هو الأمر الغیری لزم الدور؛ لأنّ تعلّق الأمر‏‎ ‎‏الغیری بها یتوقّف علیٰ عبادیّتها؛ لما عرفت من أنّها ـ بما هی عبادة ـ مقدّمة‏‎ ‎‏ومتعلّقة للأمر الغیری، والمفروض أنّ عبادیّتها متوقّفة علیه. وإن کان هو الأمر‏‎ ‎‏النفسی الندبی فهو فاسد:‏

‏أمّا ‏أوّلاً :‏ فلأنّه کثیراً ما یفعلها المکلّف بداعی التوصّل بها إلیٰ الصلاة وبقصد‏‎ ‎‏أمرها الغیری، مع الغفلة عن أنّها مطلوبةٌ نفساً وعبادةٌ متعلّقة للأمر النفسی،‏‎ ‎‏وعلیٰ فرض عدم الغفلة ـ أیضاً ـ لا یمکنه قصد امتثال الأمر النفسی بها، إلاّ بنحو‏‎ ‎‏الداعی علیٰ الداعی، فإنّ الداعی إلیٰ فعل الصلاة الصحیحة یدعوه إلیٰ إتیانها بداعی‏‎ ‎‏أمر نفسها.‏

‏وأمّا ‏ثانیاً :‏ فلأنَّه لا یُعقل اجتماع الاستحباب النفسی مع الوجوب الغیری؛ لأنّ‏‎ ‎‏مرجعه إلیٰ تعلُّق الطلب الأکید والغیر الأکید معاً بفعل واحد، وهو غیر متصوّر.‏‎ ‎‏مضافاً إلیٰ قیام الإجماع علیٰ أنّ التیمُّم لیس مطلوباً نفسیّاً، وإن یظهر عبادیّته ـ أیضاً ـ‏‎ ‎‏من بعض الأخبار‏‎[9]‎‏، بل الوضوء علیٰ قولٍ ـ أیضاً ـ کذلک لیس بنفسه مستحبّاً‏‎[10]‎‏.‏

أقول :‏ ویمکن التفصّی عن هذا الإشکال باختیار الشِّقّ الأوّل، وأنّ للطهارات‏‎ ‎‏الثلاث ملاکین للمقدّمیة وتعلّق الأمر الغیری بها: أحدهما فی ذات الوضوء مثلاً،‏‎ ‎‏وثانیهما فی فعله بقصد الأمر وبعنوان العبادة، وإن شئت فقل: ذات الوضوء مقدّمة‏‎ ‎‏لمقدّمة الصلاة، وهو الوضوء الذی هو عبادة، وکما أنّه یتعلّق الأمر الغیری بالمقدّمة‏‎ ‎‏بملاک التوقّف، کذلک یتعلّق أمر آخر غیریّ بمقدّمة المقدّمة بهذا الملاک، فهنا أمران‏‎ ‎‏غیریّان: أحدهما متعلّق بذات الوضوء، وثانیهما بإتیانه بعنوان العبادة، فیندفع‏‎ ‎‏إشکال الدور.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 57
‏وبما ذکرنا أجاب المحقّق العراقی عنه تقریباً؛ حیث قال ما محصّله: أنّا نختار‏‎ ‎‏الشقّ الأوّل، وهو أنّ عبادیّة الطهارات الثلاث إنّما هی بالأمر الغیری، وأنّ الأمر‏‎ ‎‏الغیری المتوجّه إلیٰ المرکّب أو المقیّد ینبسط علیٰ أجزاء متعلّقه الخارجیّة والعقلیّة،‏‎ ‎‏وحینئذٍ فذوات الأفعال فی الطهارات الثلاث مأمور بها بالأمر الضمنی من ذلک الأمر‏‎ ‎‏الغیری، فإذا اُتی بها بداعی ذلک الأمر الضمنی یتحقّق ما هو المقدّمة؛ أعنی الأفعال‏‎ ‎‏الخارجیّة المتقرّب بها، وبذلک یسقط الأمر الضمنی المتوجّه إلیٰ المقیّد بعد فرض أنّه‏‎ ‎‏توصُّلی؛ لحصول متعلّقه قهراً بامتثال الأمر الضمنی المتعلّق بذات الفعل‏‎[11]‎‏.‏

الثالث من الوجوه‏ ـ وهو العمدة ـ : أنّه لاریب فی أنّ الطهارات الثلاث ـ مع‏‎ ‎‏قطع النظر عن الإشکال فی التیمّم ـ عبادة موقوفة علیٰ فعلها بعنوان العبادة وبقصد‏‎ ‎‏أمرها النفسی، مع عدم الإشکال فی صحّة الصلاة معها مع الغفلة عن أنّها مطلوبات‏‎ ‎‏نفسیة، وأنّه لو أتیٰ بها بقصد الأمر الغیری لاجتزی بها وصحّت، کما أفتیٰ به‏‎ ‎‏الفقهاء‏‎[12]‎‏، وهو المرتکز ـ أیضاً ـ فی أذهان المتشرّعة.‏

‏والحاصل : أنّ محقّق عبادیّة العبادة لیس هو قصد الأمر الغیری، ولا یکفی فی‏‎ ‎‏العبادة قصد التوصّل بها إلیٰ شیء آخر بدون قصد عنوان العبادة، مع کفایة ذلک فی‏‎ ‎‏الطهارات الثلاث‏‎[13]‎‏.‏

والجواب عنه :‏ إن اُرید بذلک أنّه یأتی بالطهارات فی الفرض بقصد التوصّل بها‏‎ ‎‏إلی الصلاة ـ مثلاً ـ مع الغفلة عن أنّها ممّا یصلح للعبادیّة، نظیر فعل الستر والاستقبال‏‎ ‎‏ممّا لا یقصد بفعله العبادیّة بوجه من الوجوه، فنحن ننکر صحّتها حینئذٍ، وارتکاز‏‎ ‎‏أذهان المتشرّعة بذلک ـ أیضاً ـ ممنوع.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 58
‏وإن اُرید أنّ الإتیان بها بقصد التوصّل بها إلیٰ الصلاة مع الغفلة عن أنّها‏‎ ‎‏مطلوبات نفسیّة ومتعلّقات للأمر النفسی، مع التوجّه إلیٰ أنّها صالحة للعبادیّة، فهو‏‎ ‎‏کافٍ فی تحقّق عبادیّتها، وحینئذٍ فلا إشکال أصلاً، وهو قریب ممّا أجاب به فی‏‎ ‎‏«الکفایة»‏‎[14]‎‏ فی المقام.‏

‏فما أورده علیه المحقّق العراقی‏‎[15]‎‏: ـ من أنّه کثیراً ما یُؤتیٰ بها بقصد التوصُّل إلیٰ‏‎ ‎‏الصلاة وبداعی الأمر الغیری، مع الغفلة عن عبادیّتها ومطلوبیّتها نفساً ـ محلّ‏‎ ‎‏إشکال ومنع.‏

بل نقول :‏ إنّه لا معنیٰ لتحقّق العبادة بالأمر النفسی ولا بالأمر الغیری هنا، فإنّه‏‎ ‎‏لا داعویّة للأمر النفسی إلیٰ الإتیان بالطهارات فی الفرض، فلیس عبادیّتها بالأمرِ‏‎ ‎‏النفسی، والأمرُ الغیری ـ أیضاً ـ لا یصلح لذلک، بل محقّق عبادیّتها هو صلاحیّة‏‎ ‎‏کونها عبادة، کما یستفاد ذلک من الأخبار‏‎[16]‎‏، ولا یحتاج فی العبادة إلیٰ تعلُّق الأمر بها‏‎ ‎‏وقصده بها، بل الجواب الحقیقی عن الإشکال هو ذلک، والمتقدّمان إقناعیّان، وهو مُغنٍ‏‎ ‎‏عنهما فی دفع الإشکالین الأوّلین.‏

ووجهه :‏ أنّک بعدما عرفت أنّ الطهارات الثلاث ممّا تصلح للعبادیّة والتقرّب‏‎ ‎‏بها إلیه تعالیٰ ـ والمفروض أنّ المکلّف بحسب ارتکازه الذهنی متوجّه إلیٰ ذلک أیضاً‏‎ ‎‏حین فعلها ولو مع قصد المقدّمیّة للغیر؛ لما عرفت من الفرق بحسب الارتکاز فی‏‎ ‎‏أذهان المتشرّعة بینها عند الإتیان بها وبین فعل الستر والاستقبال بقصدهم العبادیّة‏‎ ‎‏فیها ـ اتّضح لک: أنّه لا وقع للإشکال الأوّل؛ فإنّ المثوبة مترتّبة علیٰ فعل العبادی‏‎ ‎‏علیٰ وجه الاستحقاق بناءً علیٰ هذا القول.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 59
وانقدح بذلک :‏ الجواب عن الإشکال الثانی أیضاً، فإنّ توهّم الدور إنّما هو‏‎ ‎‏لزعم أنّ مُحقِّق عبادیّتها هو قصد الأمر الغیری، وقد عرفت أنّه لیس کذلک.‏

وبالجملة :‏ الجواب الصحیح هو ما ذکرناه، واختاره فی «الکفایة»‏‎[17]‎‏ تبعاً‏‎ ‎‏للشیخ ‏‏قدس سره‏‏ فی «کتاب الطهارة»: من أنّ الطهارات الثلاث ممّا تصلح للعبادیّة بنفسها‏‎ ‎‏من دون دخل قصد الأمر مطلقاً فی عبادیّتها، فهی مستحبّة نفساً، وواجبة بالغیر،‏‎ ‎‏نظیر ما إذا نذر الإتیان بصلاة اللیل، فإنّها ـ حینئذٍ ـ مستحبّة ذاتاً، وواجبة بعنوان‏‎ ‎‏المنذور، فیجب فعل هذا المستحبّ بعنوان الوفاء بالنذر‏‎[18]‎‏.‏

أمّا ما ذکرناه:‏ من أنّه لا یعقل اجتماع الوجوب والاستحباب فی عمل واحد.‏

فمدفوع :‏ بأنّه لا مانع منه إذا کان للفعل عنوانان تعلّق بأحدهما الطلب الأکید،‏‎ ‎‏وبالآخر الطلب الغیر الأکید.‏

‏وما یظهرمن تقریرات بحث الشیخ ‏‏قدس سره‏‏: من التردّد فی هذا الجواب، وجزم المقرّر‏‎ ‎‏بخلافه، وأنّ محقّق عبادیّة الطهارات هو قصد الأمر الغیری‏‎[19]‎‏، فقد عرفت ما فیه.‏

ثمّ إنّه اُجیب عن الإشکالات بوجوه اُخر لا تخلو عن الضعف:

‏الأوّل :‏‏ ما حکاه فی «الکفایة»‏‎[20]‎‏، وذکره الشیخ ‏‏قدس سره‏‏ علیٰ ما فی التقریرات: وهو‏‎ ‎‏أنّ المقدّمة : إمّا تکوینیّة معلومة العنوان، کما إذا أمر بالکون علی السطح، فنصب‏‎ ‎‏السُّلَّم المأمور به بالأمر الغیری مقدّمة تکوینیّة، وإمّا شرعیّة، وهی ـ أیضاً ـ إمّا‏‎ ‎‏معلومة العنوان، فیؤتیٰ بها بهذا العنوان، وإمّا مجهولة العنوان، ومُردّدة بین عنوان‏‎ ‎‏وعنوان آخر، وتلک کالطهارات، فحیث إنّ المکلّف لا یعلم عنوانها فهو یأتی بها‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 60
‏بقصد الأمر الغیری، فیکون آتیاً بها بعنوانها الواقعی المجهول؛ حیث إنّ الأمر المذکور‏‎ ‎‏لایدعو إلاّ إلیٰ ذلک، فتتحقّق عبادیّتها بذلک القصد.‏

‏وبالجملة : للطهارات المذکورة عنوان واقعی هو الموقوف علیه، وحیث إنّه‏‎ ‎‏مجهول یتحقّق هذا العنوان الواقعی بقصد الأمر الغیری، وتصیر به عبادة‏‎[21]‎‏.‏

ویرد علیه أوّلاً :‏ ما أورده علیه فی «الکفایة»، وهو أنّه غیر وافٍ بدفع إشکال‏‎ ‎‏ترتّب المثوبة علیها‏‎[22]‎‏؛ لأنّها بناءً علیٰ ما ذکر مقدّمات توصُّلیّة، ویلزمه أنّه لو فعلها‏‎ ‎‏ریاءً لوقعت صحیحة کافیة، ولا یمکن الالتزام به.‏

وثانیاً :‏ لو سلّمنا ذلک لکن قصد الأمر الغیری لا یصحِّح عبادیّتها؛ لأنّ‏‎ ‎‏المفروض فعلها للتوصّل بها إلیٰ الصلاة، لا التقرُّب بها إلی الله تعالیٰ المعتبر فی العبادة.‏

الثانی من الوجوه :‏ ما حکاه فی «الکفایة» ـ لکن لم أعرف قائله ـ وهو أنّ‏‎ ‎‏لزوم وقوع الطهارات الثلاث عبادة إنّما هو لأجل أنّ الغرض من الأمر النفسی‏‎ ‎‏بغایاتها ـ أی بالطهارات کما لا یحصل بدون قصد التقرّب بموافقته، کذلک لا یحصل إلاّ‏‎ ‎‏إذا اُتی بها کذلک؛ لا باقتضاء الأمر الغیری.‏

‏وبالجملة : وجه لزوم الإتیان بها بعنوان العبادة: إنّما هو لأجل أنّ الغرض منها‏‎ ‎‏لایحصل إلاّ بإتیان خصوص الطهارات ـ بین المقدّمات ـ بقصد الإطاعة‏‎[23]‎‏، والفرق‏‎ ‎‏بینه وبین الوجه الأوّل واضح؛ فإنّ ذوات الطهارات عبادة بناءً علیٰ هذا الوجه،‏‎ ‎‏بخلاف الأوّل.‏

‏وأورد علیه فی «الکفایة» : بأنّه ـ أیضاً ـ غیر وافٍ بدفع إشکال ترتُّب المثوبة‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 61
‏علیها أیضاً‏‎[24]‎‏.‏

‏لکن مرجع هذا الوجه إلیٰ ما ذکره وذکرناه، فإنّه لو فُرض أنّ الطهارات ممّا‏‎ ‎‏تصلح ذاتاً للعبادیّة والتقرّب بها إلیه تعالیٰ، لا لمحض التوصّل بها إلیٰ غایاتها فقط،‏‎ ‎‏والمکلّف ـ أیضاً ـ ملتفت إلیٰ ذلک حین الفعل، مع قصد التوصُّل أیضاً، فلا یرد‏‎ ‎‏علیه واحد من الإشکالات، ولو فرض عدم صلاحیّتها للتقرّب والعبادیّة، فلا معنیٰ‏‎ ‎‏لفعلها کذلک.‏

الثالث من الوجوه :‏ ما حکاه فی «الکفایة»‏‎[25]‎‏ ـ أیضاً ـ المنسوب إلیٰ الشیخ ‏‏قدس سره‏‎ ‎‏بالتزام بعضٍ فیها بأمرین لتصحیح اعتبار قصد الإطاعة فیها: تعلّق أحدهما بذات‏‎ ‎‏الطهارة، والثانی بإتیانه بداعی امتثال الأمر الأوّل‏‎[26]‎‏.‏

وفیه :‏ أنّ هذا الجواب إنّما یفید دفع إشکال الدور فقط، وأمّا الإشکال الأوّل‏‎ ‎‏والثالث فهما باقیان بحالهما.‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 62

  • )) تشریح الاُصول : 180 سطر 2 .
  • )) الأسفار 9 : 293 ـ 296 .
  • )) الأسفار 9 : 174 السطر الأخیر.
  • )) أجود التقریرات 1 : 172.
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات العراقی) 1 : 375 ـ 376 .
  • )) کفایة الاُصول : 138 ـ 139 .
  • )) مطارح الأنظار : 70 .
  • )) اُنظر بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) 1 : 375 ـ 376.
  • )) الوسائل 2 : 991 / 1 باب 21 من أبواب التیمّم.
  • )) اُنظر فوائد الاُصول 1 : 227، ونهایة الأفکار 1: 329.
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) 1 : 381.
  • )) سیأتی قریباً.
  • )) مطارح الأنظار : 70 .
  • )) کفایة الاُصول : 139 ـ 140 .
  • )) اُنظر بدائع الأفکار (تقریرات العراقی) 1 : 380 .
  • )) الکافی 3 : 72 ح10، الوسائل 1 : 264 باب 8 ح3 .
  • )) کفایة الاُصول : 139 ـ 140 .
  • )) کتاب الطهارة : 87 ـ 88.
  • )) مطارح الأنظار : 70 سطر 20 .
  • )) کفایة الاُصول : 141 .
  • )) اُنظر مطارح الأنظار : 71 سطر 13 .
  • )) کفایة الاُصول : 140 .
  • )) نفس المصدر : 141 .
  • )) نفس المصدر : 141 .
  • )) نفس المصدر : 140 .
  • )) مطارح الأنظار : 71 سطر 9 .