الفصل الثانی عشر فی مقدّمة الواجب

المبحث الثانی فی الواجب المعلَّق والمنجَّز

المبحث الثانی فی الواجب المعلَّق والمنجَّز

‏ ‏

قال صاحب الفصول ما ملخّصه:‏ انّ الواجب ینقسم باعتبارٍ إلیٰ منجَّز ومعلَّق؛‏‎ ‎‏لأنّ الواجب إن کان معلّقاً علیٰ أمر غیر مقدور للمکلّف فهو الثانی، مثل صلاة الظهر‏‎ ‎‏بالنسبة إلیٰ الدُّلوک، وإلاّ فهو المنجَّز، کتحصیل المعرفة.‏

‏والفرق بین الواجب المعلَّق والمشروط : هو أنّ القید شرط للوجوب فی الثانی،‏‎ ‎‏فلا وجوب قبل حصوله، وشرط للواجب فی الأوّل، فالوجوب فیه فعلیّ، والواجب‏‎ ‎‏استقبالی‏‎[1]‎‏. انتهیٰ.‏

واُورد علیٰ الواجب المعلّق بوجوه :

‏أحدها :‏‏ أنّه یستلزم تخلّف المراد عن الإرادة فی الإرادة الفاعلیّة والتشریعیّة‏‎[2]‎‏.‏‎ ‎وذکر بعض المحقّقین فی توضیحه ما حاصله :‏ أنّ الإرادة عبارة عن الشوق المؤکّد،‏‎ ‎‏فإنّ الشخص إذا اشتاق إلیٰ شیء یشتدّ اشتیاقه شیئاً فشیئاً إلی أن یبلغ حدّاً یصیر‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 32
‏منشأً وعلّةً لتحریک العضلات فی الإرادة الفاعلیّة، أو إلیٰ البعث فی التشریعیّة، فإذا‏‎ ‎‏بلغ الشوق إلیٰ هذا الحدّ ومع ذلک لم تتحرَّک العضلات، لزم تخلُّف المعلول والمراد ـ‏‎ ‎‏وهو تحریک العضلات أو البعث ـ عن علّته التامّة أو الإرادة التی هی الشوق المؤکّد،‏‎ ‎‏وهو مستحیل، فالواجب المعلّق الذی هو مستلزم لذلک مستحیل.‏

فإن قلت :‏ یمکن أن تکون الإرادة مشروطة بدخول الوقت فی تأثیرها.‏

قلت :‏ إن اُرید أنّ دخول الوقت شرط لتکمیل الشوق إلیٰ أن یبلغ الحدّ‏‎ ‎‏المذکور، وقبل حصول القید لم یبلغ إلیٰ ذلک الحدّ الذی هو الإرادة، فلا شوق مؤکّد‏‎ ‎‏قبل حصول القید، فهو صحیح، لکنّه خارج عن الفرض.‏

‏وإن اُرید أنّ دخول الوقت شرط لتأثیره مع بلوغه إلیٰ ذلک الحدّ، ومع ذلک لا‏‎ ‎‏تأثیر له قبل دخول الوقت، فهو محال؛ لاستلزامه تخلّف المعلول عن علّته التامّة.‏

فإن قلت :‏ یمکن أن تتوقّف الإرادة علیٰ مقدّمات مقدورة للمکلّف، وعلیه‏‎ ‎‏فلایمکن البعث نحو فعل فی وقته مع عدم حصول مقدّماته الوجودیّة؛ ضرورة عدم‏‎ ‎‏إمکان الانبعاث نحو ذی المقدّمة إلاّ بعد وجود مقدّماته، والفرض أنّه لا ینبعث نحو‏‎ ‎‏مقدّماته إلاّ عن البعث إلیٰ ذیها.‏

قلت :‏ حیث إنّ تحصیل المقدّمات ممکن، فالبعث والانبعاث إلیٰ ذیها متّصفان‏‎ ‎‏بصفة الإمکان، بخلاف البعث إلیٰ شیء قبل حضور وقته، فإنّ الفعل المتقیّد بالزمان‏‎ ‎‏المتأخّر فی الزمان المتقدّم محال من حیث لزوم الخلف والانقلاب، فهو ممتنع وقوعاً،‏‎ ‎‏بخلاف فعلٍ له مقدّمات غیر حاصلة، فإنّ البعث نحوه ممکن الوقوع.‏

لا یقال:‏ کیف حال المرکّب من اُمور تدریجیّة الوجود، کالصلاة والإمساک فی‏‎ ‎‏مجموع النهار، فإنّ الانبعاث نحو الجزء المتأخّر فی زمان الانبعاث فی زمان الجزء‏‎ ‎‏المتقدّم غیر معقول ومع ذلک فالکلّ مبعوث إلیه ببعث واحد فی أوّل الوقت؟‏

لأنّا نقول :‏ لیس فی الفرض إرادة واحدة بل اشتیاقات یکمل کلّ واحد منها‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 33
‏بالحرکة الجوهریّة تدریجاً فتصیر إرادات متدرّجة الوجود متعلّقة بکلّ واحد من‏‎ ‎‏الأجزاء عند بلوغ أوانها‏‎[3]‎‏. انتهیٰ.‏

وفیه مواقع للنظر :

‏أمّا ‏أوّلاً :‏ فانّ ما ذکره ‏‏قدس سره‏‏ من أنّ الإرادة عبارة عن الشوق المؤکّد فهو غیر‏‎ ‎‏صحیح، فإنّ الاشتیاق انفعال والإرادة فعل من أفعال النفس ولها مقام الباعثیة، فعلیٰ‏‎ ‎‏ما ذکره یلزم أن یکون الفعل انفعالاً.‏

وثانیاً :‏ ما ذکره من أنّ الاشتیاق إلیٰ ذی المقدّمة سبب للاشتیاق إلیٰ المقدّمة‏‎ ‎‏أیضاً غیر صحیح؛ لعدم تعلُّق الشوق بالمقدّمات أبداً؛ لأجل عدم وجود ما یشتاق‏‎ ‎‏بسببه إلیها، بخلاف ذی المقدّمة.‏

‏وما ذکره ناشٍ عن توهّم أنّ الإرادة فی جمیع مواردها مسبوقة بالشوق مع أنّ‏‎ ‎‏الإنسان کثیراً مّا یرید فعلاً بدون الاشتیاق إلیه، بل مع الکراهة أو الإلجاء‏‎ ‎‏والاضطرار، مثل شرب الدواء المرّ لدفع المرض.‏

وثالثاً :‏ ما ذکره من أنّ الاشتیاق یکمل شیئاً فشیئاً بالحرکة الجوهریّة حتّی‏‎ ‎‏یبلغ حدّ النصاب ـ أی الإرادة ـ أیضاً غیر مستقیم، فإنّ الإرادة المحرّکة للعضلات غیر‏‎ ‎‏الإرادة الناشئة عن الاشتیاق، فإنّ الاُولیٰ لا تنفکّ عن المراد؛ أی تحریک العضلات،‏‎ ‎‏وهو لیس مشتاقاً إلیه، وأمّا الثانیة فلیست متعلّقة بتحریک العضلات، وهی علّة‏‎ ‎‏لوجود الاُولیٰ، فبمجرد الاشتیاق إلیٰ ذی المقدّمة وإرادته لا تتحرک العضلات نحو‏‎ ‎‏الفعل، فما ذکره من تدرُّج الاشتیاق حتیٰ یبلغ حدّاً یُحرِّک العضلات خلطٌ بین‏‎ ‎‏الإرادتین: احداهما المحرّکة للعضلات، وهی مبدأ للتحریک، وثانیتهما المتعلّقة‏‎ ‎‏بذی المقدّمة.‏

وأمّا ما قرع سمعک :‏ من أنّ الإرادة علّة تامّة أوجزء أخیر لها لتحریک‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 34
‏العضلات، وأنّه یستحیل انفکاک المعلول عن علّته التامّة، فلم یقم علیه دلیل ولا‏‎ ‎‏برهان، فإنّ غایة ما یمکن أن یقال فی تقریبه هو أنّ القوی النفسانیّة حیث إنّها مراتب‏‎ ‎‏للنفس،فلا تعصی النفس، بل تطیعها؛ لعدم معقولیّة تعصّی الشیء عن نفسه، فلا یمکن‏‎ ‎‏تخلّف المراد عن الإرادة.‏

لکن فیه :‏ أنّه إذا کان الإنسان مفلوجاً لا یمکنه أن یتحرّک نحو الفعل، والنفس‏‎ ‎‏غافلة عن ذلک، فترید تحریکه، لکن لا یمکنه التحرُّک لعلّته، وهو تخلّف المراد عن‏‎ ‎‏الإرادة بالوجدان.‏

وأیضاً لو فرض أربعة : أحدهم‏ : یشتاق إلیٰ الحجّ، لکنّه یعلم بعدم قدرته علیه؛‏‎ ‎‏لعلمه بعدم وجود ما یتوقّف علیه، فهو لا یریده مع اشتیاقه إلیه.‏

وثانیهم :‏ یشتاق إلیه ویریده لعلمه بحصول ما یتوقّف علیه.‏

وثالثهم :‏ لا اشتیاق له إلیه طبعاً، لکن یریده خوفاً من العذاب المتوعّد علیه‏‎ ‎‏فی ترکه.‏

ورابعهم :‏ لا اشتیاق له إلیه أبداً، ولا إرادة أیضاً.‏

‏ففرقٌ بین هذه الأربعة، فإنّ الثانی یرید الحجّ بعد حصول ما یتوقّف علیه، ولم‏‎ ‎‏یتحقّق بعدُ، فیلزم تخلُّف المراد عن الإرادة.‏

‏وعلیٰ فرض الإغماض عن جمیع ذلک، وتسلیم استحالة تخلّف المراد عن‏‎ ‎‏الإرادة فی الإرادة التکوینیّة، لکن قیاس الإرادة التشریعیّة علیها فی غیر محلّه.‏

فقوله :‏ إنّ الداعی إلیٰ البعث هو الانبعاث، وهو موصوف بصفة عدم الإمکان.‏

فیه :‏ أنّ غایة ما ذکر هو لزوم لَغویّة البعث فیما نحن فیه، وهو مسلّم، لکن‏‎ ‎‏الداعی إلیٰ البعث هو الانبعاث فی وقته وزمانه، فالبعث المطلق یلزمه وجوب‏‎ ‎‏الانبعاث المطلق، والبعث إلیٰ الفعل فی زمان متأخّر عنه یلزمه وجوب الانبعاث‏‎ ‎‏أیضاً کذلک.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 35
وأمّا القول‏ بأنّ البعث إنّما هو لایجاد الداعی للمکلّف علیٰ الاتیان بالمکلّف‏‎ ‎‏به ففیه :‏

‏أمّا ‏أوّلاً :‏ فلأنّ البعث لیس لإیجاد الداعی، بل هو لتمهید موضوع‏‎ ‎‏العقاب والثواب.‏

وثانیاً :‏ لو سلّمنا ذلک، لکن إیجاد الداعی تبع للبعث، فإن کان البعث مطلقاً‏‎ ‎‏وفی زمان الحال فهو لإیجاد الداعی کذلک، وإن کان البعث إلیٰ الفعل فی زمان متأخّر‏‎ ‎‏فهو لإیجاد الداعی کذلک.‏

ثانیها :

‏قال المحقّق النائینی ‏‏قدس سره‏‏ فی المقام ما حاصله:‏‏ إنّه لا إشکال فی الواجب المعلّق‏‎ ‎‏من حیث تعلُّق الإرادة بالأمر المتأخّر لإمکانه بالوجدان، بل الإشکال فیه من جهة‏‎ ‎‏اُخریٰ، وهی أنّ الخطابات الشرعیّة: إمّا صادرة من الشارع بنحو القضایا الحقیقیّة، أو‏‎ ‎‏بنحو القضایا الخارجیّة، فعلیٰ الأوّل فاستحالة الواجب المعلّق واضحة؛ لأنّه لابدّ أن‏‎ ‎‏ترجع جمیع القیود إلیٰ المادّة والموضوع فإذا فُرض تعلّق الأمر بالصلاة معلّقاً علیٰ‏‎ ‎‏الدلوک فلابدّ أن یُفرض الموضوع موجوداً ثمّ یبعث إلیه، وحینئذٍ فالقید إمّا حاصل‏‎ ‎‏ومتحقّق، والمفروض أنّ الأمر متوجّه إلیٰ الموضوع بجمیع قیوده، فیلزم تحصیل‏‎ ‎‏الحاصل، وهوالقید، وهو محال، وإمّا غیر حاصل وغیر متحقّق، بل سیحصل بعد ذلک،‏‎ ‎‏فیلزم الأمر بغیر المقدور؛ لأنّ تحصیل القید ـ وهو الدلوک ـ غیر مقدور للعبد، وهو ـ‏‎ ‎‏أیضاً ـ محال. وکذلک لو کانت الخطابات الشرعیّة بنحو القضایا الخارجیّة.‏‎[4]‎‏ انتهیٰ.‏

وفیه ما لا یخفیٰ :

‏أمّا ‏أوّلاً :‏ فلأنّک قد عرفت أنّ القیود بحسب اللُّبّ مختلفة : فبعضها قید للمادّة،‏‎ ‎‏وبعضها راجع إلیٰ الهیئة، ولیست باختیارنا حتّی نرجعها جمیعها إلیٰ المادّة، وکلّ من‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 36
‏الواجب المطلق والمشروط معلّقاً أو منجّزاً، لا ینقلب عمّا هو علیه من الإطلاق‏‎ ‎‏والاشتراط بحصول الشرط وتحقّقه وعدمه، ولا یصیر المشروط مطلقاً بحصول‏‎ ‎‏الشرط، ولا المعلّق منجّزاً بحصول القید المعلّق علیه.‏

‏وأمّا ‏ثانیاً‏ فقوله ‏‏قدس سره‏‏: یلزم تحصیل الحاصل، فیه: أنّه لو فُرض تعلّق الأمر‏‎ ‎‏بالصلاة مع الطهارة، معناه أنَّ الصلاة مع الطهارة مطلوبة، فإذا فرض أنّه مُتطهّر لایجب‏‎ ‎‏علیه التطهّر حتّیٰ یُقال إنَّه تحصیل للحاصل.‏

وثالثاً‏ قوله : یلزم الأمر بغیر المقدور، فیه : أنّه ناشٍ عن توهّم أنَّ الأمر بالمقیّد‏‎ ‎‏أمر بالقید أیضاً، ولیس کذلک؛ لأنَّ الأمر متعلّق بالمقیّد بعد حصول القید لا بالقید.‏

فتلخص :‏ أنَّ الواجب المُعلّق ممکن الوقوع، لکن بعد ما عرفت إثبات الواجب‏‎ ‎‏المشروط وجواز الشرط المُتأخّر وعدم ورود الإشکالات علیه، وبعدما عرفت أنّ‏‎ ‎‏وجوب المقدّمات إنّما هو بملاک التوقّف وحکم العقل، لا من باب المُلازمة، لا یترتّب‏‎ ‎‏علی الواجب المعلّق ثمرة وفائدة؛ فإنَّ الداعی إلی الالتزام بالواجب المعلّق إنّما هو‏‎ ‎‏لأجل أنَّهم لما رأوا وجوب بعض المقدّمات فی الشریعة قبل وجوب ذیها، کغسل‏‎ ‎‏الاستحاضة للصوم قبل الفجر فی شهر رمضان، وأشکل الأمر علیهم؛ بأنَّه کیف یُمکن‏‎ ‎‏وجوب المقدّمة قبل وجوب ذیها؟ التزموا بالواجب المعلّق لدفع الإشکال.‏

‏لکن لمّا عرفت أنَّ وجوب المقدّمة المذکورة ونحوها بملاک التوقّف ـ أی توقف‏‎ ‎‏ما سیجب بعد حصول القید ـ فلا حاجة إلی الالتزام بالواجب المعلّق.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 37

  • )) الفصول الغرویّة : 79 ـ 80.
  • )) نسبهُ المیرزا أبو الحسن المشکینی فی حاشیته علی الکفایة إلی المحقّق النّهاوندی 1: 161.
  • )) نهایة الدّرایة 1 : 184 ـ 187 .
  • )) فوائد الاُصول 1 : 186 ـ 188.