المقصد السابع فی الشکّ

ذکر وإرشاد

ذکر وإرشاد

‏ربّما توهّم: معارضة قاعدة قبح العقاب بلا بیان مع قاعدة عقلیة اُخری، وهی ‏‎ ‎‏حکم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل؛ فإنّ الشکّ فی التکلیف یلازم الشکّ ‏‎ ‎‏فی الضرر. بل یقال بورود القاعدة الثانیة علی القاعدة الاُولی؛ لأنّ البیان المأخوذ ‏‎ ‎‏فی القاعدة الاُولی أعمّ من البیان النقلی والعقلی، فمع حکم العقل بوجوب دفع ‏‎ ‎‏الضرر المحتمل ینتفی موضوع الحکم فی القاعدة الاُولی.‏

‏ولکن ردّه المحقّق العراقی قدّس سرّه، وقال بحکومة قاعدة قبح العقاب بلا بیان علی ‏‎ ‎‏قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، لو اُرید بالضرر المحتمل العقوبة.‏

‏وذلک لوضوح أنّه بعد جریان القاعدة نقطع بعدم العقوبة والضرر فی المشتبه، ‏‎ ‎‏فلا یحتمل الضرر فیها حتّی تجری القاعدة الثانیة.‏

‏ولا مجال لدعوی العکس بتوهّم: أنّ حکم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 461
‏بیان عقلی، فلا موضوع لقاعدة القبح مع جریان قاعدة دفع الضرر.‏

‏وذلک لأنّ حکم العقل بالوجوب إنّما هو فرع وجود موضوعه، وهو احتمال ‏‎ ‎‏الضرر فی المرتبة السابقة، وإلا فمن المستحیل تحقّق الموضوع من قبل حکمه، ‏‎ ‎‏وتحقّق احتمال الضرر فرع إبطال قاعدة القبح فی المرتبة السابقة عن الوجوب ‏‎ ‎‏المزبور، فلو اُرید حینئذٍ إبطال قاعدة قبح العقاب بمثل هذا البیان یلزم الدور‏‎[1]‎‏.‏

‏ولکن فیه: أنّ المراد بالضرر فی موضوع القاعدة إمّا العقوبة الاُخروی أو ‏‎ ‎‏غیرها.‏

‏فعلی الأوّل: لا معنی للحکومة والورود فی المقام؛ لأنّ کلّ واحد من قاعدتی ‏‎ ‎‏قبح العقاب بلا بیان. ووجوب دفع الضرر المحتمل کبری کلّیة لا یکاد ینتج فی ‏‎ ‎‏شی ء من الموارد، إلا إذا ضمّت إلیها صغراها، ومع الانضمام ینتجان، فأنّی ‏‎ ‎‏للحکومة أو الورود؟!‏

‏فیقال فی قاعدة دفع الضرر: إنّ العقاب فی ارتکاب محتمل الحرمة أو ترک ‏‎ ‎‏محتمل الوجوب محتمل، ویجب دفع الضرر المحتمل، فینتج وجوب الإتیان ‏‎ ‎‏بمحتمل الوجوب والاحتراز عن محتمل الحرمة.‏

‏کما یقال فی قاعدة قبح العقاب بلا بیان: إنّ العقاب فی محتمل التکلیف بعد ‏‎ ‎‏الفحص التامّ وعدم العثور علیه عقاب بلا بیان، والعقاب بلا بیان قبیح یمتنع ‏‎ ‎‏صدوره من المولی الحکیم العادل. فینتج أنّ العقاب علی محتمل التکلیف ممتنع ‏‎ ‎‏صدوره.‏

‏فعلی هذا: فما یظهر من کلمات القوم من تقدیم إحدی الکبریین علی ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 462
‏الاُخری، فقد یظهر من بعضهم تقدیم قاعدة دفع الضرر المحتمل علی قاعدة قبح ‏‎ ‎‏العقاب بلا بیان، کما یظهر من بعض آخر تقدیم قبح العقاب بلا بیان علی قاعدة ‏‎ ‎‏دفع الضرر المحتمل.‏

‏فغیر صحیح؛ لأنّ النزاع لیس بین الکبریین، بل صحّتهما ممّا لا إشکال فیها، ‏‎ ‎‏وصدقهما لا یتوقّف علی وجود مصداق لصغراهما؛ لأنّ العقاب بلا بیان قبیح، ‏‎ ‎‏سواء کان بیان فی العالم أم لا، کما أنّ دفع الضرر المحتمل واجب، سواء کان فی ‏‎ ‎‏العالم محتمل الضرر أم لا.‏

‏فتحقّق البیان فی بعض الموضوعات أو تحقّق احتمال الضرر فی بعضها ‏‎ ‎‏الآخر غیر مربوط بحکم الکبریین وموضوعهما.‏

‏فعلی هذا: لا یکون إحدی الکبریین حاکمة أو واردة علی الاُخری.‏

‏نعم قاعدة قبح العقاب بلا بیان مرکّب من صغری وجدانیة وکبری برهانیة، ‏‎ ‎‏فالنتیجة المتحصّلة منهما قطعیة بتّیة، وأمّا قاعدة دفع الضرر المحتمل فلیست ‏‎ ‎‏صغراها وجدانیة فعلیة، بل صحّة صغراها تتوقّف علی أحد هذه الاُمور:‏

‏إمّا تقصیر العبد فی الفحص عن تکالیفه.‏

‏أو کون المولی غیر حکیم أو غیر عادل.‏

‏أو کون العقاب بلا بیان.‏

‏ولأجل واحد من هذه الاُمور یصیر العقاب محتملاً، والمفروض عدم واحد ‏‎ ‎‏منها.‏

‏فظهر وتحقّق أنّ الصغری فی قاعدة قبح العقاب بلا بیان وجدانیة قطعیة بتّیة، ‏‎ ‎‏وأمّا الصغری فی قاعدة دفع الضرر معلّقة علی تحقّق واحد هذه الاُمور، ‏‎ ‎‏والمفروض عدم تحقّقها.‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 463
‏فأحد القیاسین تامّ فعلیّ غیر معلّق علی شیء، والقیاس الآخر معلّق علی بطلان ‏‎ ‎‏القواعد المسلّمة.‏

‏ولا شکّ فی تقدیم القیاس المنتظم من المقدّمات الفعلیة علی القیاس ‏‎ ‎‏المتوقّف علی اُمور لم یحصل واحد منها.‏

‏وبعبارة اُخری: صغری قیاس قاعدة القبح رافعة لصغری قیاس قاعدة دفع ‏‎ ‎‏الضرر المحتمل.‏

‏فلعلّ مراد کلمات القوم من تقدیم قاعدة القبح علی قاعدة دفع الضرر هو هذا ‏‎ ‎‏الأمر الذی أشرنا إلیه، لا ما وهو الظاهر منها وهو حکومة إحدی الکبریین علی ‏‎ ‎‏الاُخری، فتدبّر.‏

‏هذا کلّه علی تقدیر کون المراد بالضرر الضرر الاُخروی الموعود جزاءً ‏‎ ‎‏للأعمال.‏

‏وأمّا علی تقدیر کون المراد بالضرر غیر العذاب الاُخروی. ‏

‏فإن اُرید منه اللوازم القهریة للأعمال والصور الملازمة للإنسان فی النشأة ‏‎ ‎‏الآخرة التی یعبّر عنه بتجسّم الأعمال وتجسّد الملکات والصفات، بل قد یظهر ‏‎ ‎‏من بعضهم: أنّه لا عقوبة ولا مثوبة فی النشأة الآخرة إلا هذه الصور الملازمة ‏‎ ‎‏للإنسان الناشئة من الأعمال ولا تنفکّ عنها کالاُمور الوضعیة.‏

‏وبالجملة: الأعمال القبیحة تستلزم صوراً قبیحة ملازمة للإنسان بعد الارتحال ‏‎ ‎‏عن هذه النشأة الدنیویة، ظلمانیةً تؤذیه، وإنّ الأعمال الحسنة تستلزم صوراً بهیّة ‏‎ ‎‏حسنة نورانیة تبشّره.‏

‏واستشهد علی مقاله ببعض الآیات، کقوله تعالی: ‏‎)‎فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً ‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 464
یَرَهُ * وَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً یَرَهُ‎(‎‎[2]‎‏ حیث علّق الرؤیة علی نفس العمل وأنّه ‏‎ ‎‏یراه وهو غیر قابل للرؤیة إلا بتجسّمه، وقوله تعالی: ‏‎)‎یَوْمَ تَجِدُ کُلُّ نَفْسٍ ما ‎ ‎عَمِلَتْ مِنْ خَیْرٍ مُحْضَراً‎(‎‎[3]‎‏، إلی غیر ذلک من الآیات والأخبار.‏

‏فلا یخفی: أنّ هذا القول وإن کان إفراطاً فی مسألة تجسّم الأعمال وعلی ‏‎ ‎‏خلاف ظاهر الکتاب والسنّة، حیث أثبتا الثواب والعقاب الاُخروی، ولکن علی ‏‎ ‎‏فرض إرادة ذلک من الضرر المحتمل یرد علیه:‏

‏أوّلاً: النقض بالشبهة الوجوبیة مطلقاً، حکمیة أو موضوعیة، والتحریمیة ‏‎ ‎‏الموضوعیة، حیث إنّ الأخباری لا یقول بوجوب الاحتیاط فیها، مع أن مقتضی ‏‎ ‎‏ما ذکره عدم الفرق بین الشبهات، فتدبّر.‏

‏وثانیاً: أنّ مقصود القائل بذلک هو أنّ مخالفة الله‌ تعالی بارتکاب المحرّمات ‏‎ ‎‏وترک الواجبات توجب حزازة ومنقصة فی النفس، وإیجاد نقطة سوداء فی ‏‎ ‎‏القلب وتزید بتکرّر المخالفة، حتّی تصیر المخالفة ملکة نفسانیة له، تبلغ حدّاً ‏‎ ‎‏یکذّب معه آیات الله‌. وتجسّم تلک الملکة یوم القیامة فی صورة قبیحة تؤذیه. ‏‎ ‎‏وهذا إنّما یتحقّق فی التکالیف المعلومة لا المشکوکة التی محطّ البحث؛ لعدم ‏‎ ‎‏تحقّق المخالفة فیها، بل ورد: ‏‏«‏إنّ الله‌ یحبّ أن یؤخذ برخصه کما یحبّ أن یؤخذ ‎ ‎بعزائمه‏»‏‎[4]‎‏.‏

‏وأمّا إن اُرید بالضرر الضرر الدنیوی المترتّب علی ارتکاب المشتبه، فاحتمال ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 465
‏مطلق الضرر ولو کان دنیویاً غیر واجب الدفع ما لم یوجب احتمال العقاب.‏

‏إن قلت: إنّه مع احتمال الضرر یحکم العقل بقبح الارتکاب وبقاعدة الملازمة ‏‎ ‎‏بین حکم العقل والشرع تثبت حرمة ارتکابه شرعاً.‏

‏قلت: مضافاً إلی أنّ ارتکاب الضرر لیس قبیحاً، بل هو بلا داعٍ عقلائی سفاهة ‏‎ ‎‏ومع الداعی العقلائی لا سفاهة أیضاً، إنّ لازم ذلک البیان انقلاب الشکّ فی ‏‎ ‎‏الحکم إلی القطع به فی صورة احتمال الضرر، ولا أظنّ الالتزام به من الخصم.‏

‏فإن قیل: إنّ احتمال الضرر مستوجب لاحتمال القبح، وهو مستلزم لاحتمال ‏‎ ‎‏العقاب، وقد علم بوجوب دفعه.‏

‏فیقال له أوّلاً: مضافاً إلی ما أشرنا إلیه آنفاً من أنّ ارتکاب الضرر بلا داعٍ ‏‎ ‎‏عقلائی سفاهة لا قبیح، ومع الداعی لا سفاهة أصلاً.‏

‏إنّ الضرر بوجوده الواقعی لا یؤثّر فی القبح، بل وعلی فرضه لابدّ من العلم ‏‎ ‎‏به، فالعلم به موضوع للقبح، فمع احتمال الضرر لا یکون قبیحاً جزماً.‏

‏وثانیاً: أنّ الشبهة الموضوعیة والوجوبیة یشترکان مع الشبهة التحریمیة فی ‏‎ ‎‏هذه التوالی المدّعاة. فلو کان للأفعال لوازم قهریة مؤذیة لصاحبها، لکان علی ‏‎ ‎‏الشارع الرؤوف الرحیم إیجاب الاحتیاط فی مطلق الشبهة، حتّی یصون صاحبها ‏‎ ‎‏من هذه اللوازم القهریة، مع أنّه وجد الترخیص إجماعاً بل ضرورة، وهو دلیل ‏‎ ‎‏علی بطلان تلک الزعمة، فتدبّر.‏

‏وإن اُرید بالضرر ما یترتّب علیه من المصالح والمفاسد التی هی ملاکات ‏‎ ‎‏الأحکام علی مذهب العدلیة، حیث یری أنّ الواجبات الشرعیة ألطاف فی ‏‎ ‎‏الواجبات العقلیة، فیحکم العقل بوجوب دفع احتمال ضرر تفویت المصلحة أو ‏‎ ‎‏الإلقاء فی المفسدة فی موارد الشبهة الحکمیة. فإن اُرید أنّ ارتکابه قبیح عقلاً ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 466
‏فیحرم شرعاً، فالظاهر أنّه لا دلیل علیه؛ لأنّ القدر المسلّم من مذهب العدلیة أنّ ‏‎ ‎‏تشریع الأحکام الشرعیة لیست جزافیة، بل ناشئة فی الجملة عن المصالح ‏‎ ‎‏والمفاسد النفس الأمریة.‏

‏ومع عدم حکم العقل بذلک، فمجرّد احتمال تفویت المصلحة أو الوقوع فی ‏‎ ‎‏المفسدة فی ارتکاب المشتبه لا یوجب تحقّق العقاب، حتّی یکون وارداً علی ‏‎ ‎‏حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، فتدبّر.‏

‏فقد تحصّل وتحقّق بحمد الله‌ تمامیة الأدلّة فی إثبات البراءة فی الشبهات ‏‎ ‎‏التحریمیة والوجوبیة موضوعیة کانت أو حکمیة.‏

‏وفیما ذکرناه کفایة فی إثبات المطلوب. فحان وقت عطف النظر إلی ما ‏‎ ‎‏استدلّ به الأخباریون لوجوب الاحتیاط فی الشبهات البدویة التحریمیة.‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 467

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 468

  • . نهایة الأفکار 3: 336.
  • . الزلزلة (99): 7 ـ 8.
  • . آل عمران (3): 30.
  • . المحکم والمتشابه: 36 ـ 37؛ وسائل الشیعة 1: 107، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 25، الحدیث 1.