ذکر وإرشاد
ربّما توهّم: معارضة قاعدة قبح العقاب بلا بیان مع قاعدة عقلیة اُخری، وهی حکم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل؛ فإنّ الشکّ فی التکلیف یلازم الشکّ فی الضرر. بل یقال بورود القاعدة الثانیة علی القاعدة الاُولی؛ لأنّ البیان المأخوذ فی القاعدة الاُولی أعمّ من البیان النقلی والعقلی، فمع حکم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ینتفی موضوع الحکم فی القاعدة الاُولی.
ولکن ردّه المحقّق العراقی قدّس سرّه، وقال بحکومة قاعدة قبح العقاب بلا بیان علی قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، لو اُرید بالضرر المحتمل العقوبة.
وذلک لوضوح أنّه بعد جریان القاعدة نقطع بعدم العقوبة والضرر فی المشتبه، فلا یحتمل الضرر فیها حتّی تجری القاعدة الثانیة.
ولا مجال لدعوی العکس بتوهّم: أنّ حکم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل
کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 461
بیان عقلی، فلا موضوع لقاعدة القبح مع جریان قاعدة دفع الضرر.
وذلک لأنّ حکم العقل بالوجوب إنّما هو فرع وجود موضوعه، وهو احتمال الضرر فی المرتبة السابقة، وإلا فمن المستحیل تحقّق الموضوع من قبل حکمه، وتحقّق احتمال الضرر فرع إبطال قاعدة القبح فی المرتبة السابقة عن الوجوب المزبور، فلو اُرید حینئذٍ إبطال قاعدة قبح العقاب بمثل هذا البیان یلزم الدور.
ولکن فیه: أنّ المراد بالضرر فی موضوع القاعدة إمّا العقوبة الاُخروی أو غیرها.
فعلی الأوّل: لا معنی للحکومة والورود فی المقام؛ لأنّ کلّ واحد من قاعدتی قبح العقاب بلا بیان. ووجوب دفع الضرر المحتمل کبری کلّیة لا یکاد ینتج فی شی ء من الموارد، إلا إذا ضمّت إلیها صغراها، ومع الانضمام ینتجان، فأنّی للحکومة أو الورود؟!
فیقال فی قاعدة دفع الضرر: إنّ العقاب فی ارتکاب محتمل الحرمة أو ترک محتمل الوجوب محتمل، ویجب دفع الضرر المحتمل، فینتج وجوب الإتیان بمحتمل الوجوب والاحتراز عن محتمل الحرمة.
کما یقال فی قاعدة قبح العقاب بلا بیان: إنّ العقاب فی محتمل التکلیف بعد الفحص التامّ وعدم العثور علیه عقاب بلا بیان، والعقاب بلا بیان قبیح یمتنع صدوره من المولی الحکیم العادل. فینتج أنّ العقاب علی محتمل التکلیف ممتنع صدوره.
فعلی هذا: فما یظهر من کلمات القوم من تقدیم إحدی الکبریین علی
کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 462
الاُخری، فقد یظهر من بعضهم تقدیم قاعدة دفع الضرر المحتمل علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، کما یظهر من بعض آخر تقدیم قبح العقاب بلا بیان علی قاعدة دفع الضرر المحتمل.
فغیر صحیح؛ لأنّ النزاع لیس بین الکبریین، بل صحّتهما ممّا لا إشکال فیها، وصدقهما لا یتوقّف علی وجود مصداق لصغراهما؛ لأنّ العقاب بلا بیان قبیح، سواء کان بیان فی العالم أم لا، کما أنّ دفع الضرر المحتمل واجب، سواء کان فی العالم محتمل الضرر أم لا.
فتحقّق البیان فی بعض الموضوعات أو تحقّق احتمال الضرر فی بعضها الآخر غیر مربوط بحکم الکبریین وموضوعهما.
فعلی هذا: لا یکون إحدی الکبریین حاکمة أو واردة علی الاُخری.
نعم قاعدة قبح العقاب بلا بیان مرکّب من صغری وجدانیة وکبری برهانیة، فالنتیجة المتحصّلة منهما قطعیة بتّیة، وأمّا قاعدة دفع الضرر المحتمل فلیست صغراها وجدانیة فعلیة، بل صحّة صغراها تتوقّف علی أحد هذه الاُمور:
إمّا تقصیر العبد فی الفحص عن تکالیفه.
أو کون المولی غیر حکیم أو غیر عادل.
أو کون العقاب بلا بیان.
ولأجل واحد من هذه الاُمور یصیر العقاب محتملاً، والمفروض عدم واحد منها.
فظهر وتحقّق أنّ الصغری فی قاعدة قبح العقاب بلا بیان وجدانیة قطعیة بتّیة، وأمّا الصغری فی قاعدة دفع الضرر معلّقة علی تحقّق واحد هذه الاُمور، والمفروض عدم تحقّقها.
کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 463
فأحد القیاسین تامّ فعلیّ غیر معلّق علی شیء، والقیاس الآخر معلّق علی بطلان القواعد المسلّمة.
ولا شکّ فی تقدیم القیاس المنتظم من المقدّمات الفعلیة علی القیاس المتوقّف علی اُمور لم یحصل واحد منها.
وبعبارة اُخری: صغری قیاس قاعدة القبح رافعة لصغری قیاس قاعدة دفع الضرر المحتمل.
فلعلّ مراد کلمات القوم من تقدیم قاعدة القبح علی قاعدة دفع الضرر هو هذا الأمر الذی أشرنا إلیه، لا ما وهو الظاهر منها وهو حکومة إحدی الکبریین علی الاُخری، فتدبّر.
هذا کلّه علی تقدیر کون المراد بالضرر الضرر الاُخروی الموعود جزاءً للأعمال.
وأمّا علی تقدیر کون المراد بالضرر غیر العذاب الاُخروی.
فإن اُرید منه اللوازم القهریة للأعمال والصور الملازمة للإنسان فی النشأة الآخرة التی یعبّر عنه بتجسّم الأعمال وتجسّد الملکات والصفات، بل قد یظهر من بعضهم: أنّه لا عقوبة ولا مثوبة فی النشأة الآخرة إلا هذه الصور الملازمة للإنسان الناشئة من الأعمال ولا تنفکّ عنها کالاُمور الوضعیة.
وبالجملة: الأعمال القبیحة تستلزم صوراً قبیحة ملازمة للإنسان بعد الارتحال عن هذه النشأة الدنیویة، ظلمانیةً تؤذیه، وإنّ الأعمال الحسنة تستلزم صوراً بهیّة حسنة نورانیة تبشّره.
واستشهد علی مقاله ببعض الآیات، کقوله تعالی: )فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً
کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 464
یَرَهُ * وَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً یَرَهُ( حیث علّق الرؤیة علی نفس العمل وأنّه یراه وهو غیر قابل للرؤیة إلا بتجسّمه، وقوله تعالی: )یَوْمَ تَجِدُ کُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَیْرٍ مُحْضَراً(، إلی غیر ذلک من الآیات والأخبار.
فلا یخفی: أنّ هذا القول وإن کان إفراطاً فی مسألة تجسّم الأعمال وعلی خلاف ظاهر الکتاب والسنّة، حیث أثبتا الثواب والعقاب الاُخروی، ولکن علی فرض إرادة ذلک من الضرر المحتمل یرد علیه:
أوّلاً: النقض بالشبهة الوجوبیة مطلقاً، حکمیة أو موضوعیة، والتحریمیة الموضوعیة، حیث إنّ الأخباری لا یقول بوجوب الاحتیاط فیها، مع أن مقتضی ما ذکره عدم الفرق بین الشبهات، فتدبّر.
وثانیاً: أنّ مقصود القائل بذلک هو أنّ مخالفة الله تعالی بارتکاب المحرّمات وترک الواجبات توجب حزازة ومنقصة فی النفس، وإیجاد نقطة سوداء فی القلب وتزید بتکرّر المخالفة، حتّی تصیر المخالفة ملکة نفسانیة له، تبلغ حدّاً یکذّب معه آیات الله. وتجسّم تلک الملکة یوم القیامة فی صورة قبیحة تؤذیه. وهذا إنّما یتحقّق فی التکالیف المعلومة لا المشکوکة التی محطّ البحث؛ لعدم تحقّق المخالفة فیها، بل ورد: «إنّ الله یحبّ أن یؤخذ برخصه کما یحبّ أن یؤخذ بعزائمه».
وأمّا إن اُرید بالضرر الضرر الدنیوی المترتّب علی ارتکاب المشتبه، فاحتمال
کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 465
مطلق الضرر ولو کان دنیویاً غیر واجب الدفع ما لم یوجب احتمال العقاب.
إن قلت: إنّه مع احتمال الضرر یحکم العقل بقبح الارتکاب وبقاعدة الملازمة بین حکم العقل والشرع تثبت حرمة ارتکابه شرعاً.
قلت: مضافاً إلی أنّ ارتکاب الضرر لیس قبیحاً، بل هو بلا داعٍ عقلائی سفاهة ومع الداعی العقلائی لا سفاهة أیضاً، إنّ لازم ذلک البیان انقلاب الشکّ فی الحکم إلی القطع به فی صورة احتمال الضرر، ولا أظنّ الالتزام به من الخصم.
فإن قیل: إنّ احتمال الضرر مستوجب لاحتمال القبح، وهو مستلزم لاحتمال العقاب، وقد علم بوجوب دفعه.
فیقال له أوّلاً: مضافاً إلی ما أشرنا إلیه آنفاً من أنّ ارتکاب الضرر بلا داعٍ عقلائی سفاهة لا قبیح، ومع الداعی لا سفاهة أصلاً.
إنّ الضرر بوجوده الواقعی لا یؤثّر فی القبح، بل وعلی فرضه لابدّ من العلم به، فالعلم به موضوع للقبح، فمع احتمال الضرر لا یکون قبیحاً جزماً.
وثانیاً: أنّ الشبهة الموضوعیة والوجوبیة یشترکان مع الشبهة التحریمیة فی هذه التوالی المدّعاة. فلو کان للأفعال لوازم قهریة مؤذیة لصاحبها، لکان علی الشارع الرؤوف الرحیم إیجاب الاحتیاط فی مطلق الشبهة، حتّی یصون صاحبها من هذه اللوازم القهریة، مع أنّه وجد الترخیص إجماعاً بل ضرورة، وهو دلیل علی بطلان تلک الزعمة، فتدبّر.
وإن اُرید بالضرر ما یترتّب علیه من المصالح والمفاسد التی هی ملاکات الأحکام علی مذهب العدلیة، حیث یری أنّ الواجبات الشرعیة ألطاف فی الواجبات العقلیة، فیحکم العقل بوجوب دفع احتمال ضرر تفویت المصلحة أو الإلقاء فی المفسدة فی موارد الشبهة الحکمیة. فإن اُرید أنّ ارتکابه قبیح عقلاً
کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 466
فیحرم شرعاً، فالظاهر أنّه لا دلیل علیه؛ لأنّ القدر المسلّم من مذهب العدلیة أنّ تشریع الأحکام الشرعیة لیست جزافیة، بل ناشئة فی الجملة عن المصالح والمفاسد النفس الأمریة.
ومع عدم حکم العقل بذلک، فمجرّد احتمال تفویت المصلحة أو الوقوع فی المفسدة فی ارتکاب المشتبه لا یوجب تحقّق العقاب، حتّی یکون وارداً علی حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، فتدبّر.
فقد تحصّل وتحقّق بحمد الله تمامیة الأدلّة فی إثبات البراءة فی الشبهات التحریمیة والوجوبیة موضوعیة کانت أو حکمیة.
وفیما ذکرناه کفایة فی إثبات المطلوب. فحان وقت عطف النظر إلی ما استدلّ به الأخباریون لوجوب الاحتیاط فی الشبهات البدویة التحریمیة.
کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 467
کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 468