المقصد السابع فی الشکّ

ذکر وتعقیب

ذکر وتعقیب

‏قال المحقّق الأصفهانی: إرادة الإباحة الواقعیة الشرعیة من المطلق، وإرادة ‏‎ ‎‏صدور النهی الواقعی من ورود النهی غیر معقول، فقال فی وجهه ما حاصله: أنّ ‏‎ ‎‏ورود النهی إمّا غایة للإباحة الواقعیة، أو محدّداً للموضوع، وحیث إنّ الإباحة ‏‎ ‎‏الواقعیة ناشئة عن لا اقتضائیة الموضوع، فلا یعقل ورود الحرمة فی موضوعها؛ ‏‎ ‎‏للزوم الخلف من فرض اقتضائیة الموضوع المفروض أنّه لا اقتضاء فیه. و لا ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 435
‏مجال لأن یقال:إنّ اللا اقتضائیة من حیث ذاته لا تنافی عروض عنوان علیه ‏‎ ‎‏یقتضی الحرمة؛ لأنّ ذلک خلاف ظاهر الروایة، فإنّ ظاهرها کون الإباحة مغیّاة ‏‎ ‎‏بورود النهی فی موردها، وهو الذات، فلا یصحّ أن یجعل ورود النهی غایة ‏‎ ‎‏للإباحة الواقعیة.‏

‏وأمّا جعل ورود النهی محدّداً للموضوع ومقیّده؛ بأن یکون المراد أنّ ما لم ‏‎ ‎‏یرد فیه نهی مباح، وما ورد فیه نهی فلیس بمباح، فهو إن کان بنحو المعرّفیة ‏‎ ‎‏والإشارة إلی موضوع واقعی، فلا محالة یکون حمل الخبر علیه حملاً علی ما ‏‎ ‎‏هو کالبدیهی. وبالجملة: یکون کالإخبار بأمر بدیهی الذی لا یناسب شأن ‏‎ ‎‏الإمام علیه السلام. وإن کان بمعنی تقیید موضوع أحد الضدّین بعدم الضدّ حدوثاً أو ‏‎ ‎‏بقاءً، فهو غیر معقول؛ لأنّ عدم الضدّ لیس شرطاً لوجود ضدّه، لا حدوثاً‏‎ ‎‏ولا بقاءً.‏

‏ولا معنی لتقیید موضوع الإباحة بعدم ورود النهی حقیقة إلا شرطیته‏‎[1]‎‏.‏

‏فنتکلّم علی الفروض التی ذکره قدّس سرّه.‏

‏أمّا قوله: إنّ الإباحة الواقعیة ناشئة عن لا اقتضائیة الموضوع... إلی آخره، ‏‎ ‎‏فإن أراد أنّه کذلک فی جمیع الموارد، ففیه: أنّه لو کان کذلک لما صحّ جعل ‏‎ ‎‏الإباحة؛ فإنّ جعل الحکم الشرعی ومنه الإباحة لا بدّ وأن یکون لاقتضاء هناک، ‏‎ ‎‏فعند عدم الاقتضاء لا تکاد تکون الإباحة مجعولة، بل یکون إرشاداً إلی عدم ‏‎ ‎‏الاقتضاء.‏

‏ومن هنا حصل الاشتباه فی أخذ بعض الشروط فی ضمن عقد لازم، کترک ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 436
‏التسرّی وترک الإزدواج وغیرهما من الاُمور المباحة، التی لم یجز أخذها فی ‏‎ ‎‏ضمن عقد لازم؛ لأنّه شرط مخالف للکتاب والسنّة. مع أنّه یجوز أخذ بعض ‏‎ ‎‏الاُمور المباحة فی ضمن العقد اللازم.‏

‏وقد صعب علی بعضهم ذلک ولم یفهموا حقیقة الحال، وقد صرّح المحقّقون ‏‎ ‎‏منهم علی هذه المزعمة؛ وأنّ الإباحة علی قسمین: ‏

‏1. الإباحة الناشئة عن اقتضاء الموضوع لها؛ ‏

‏2. والإباحة التی لم تکن کذلک، بل تکون إرشاداً إلی عدم وجود الاقتضاء ‏‎ ‎‏فی الموضوع. والإباحة الاقتضائیة غیر قابلة للتبدیل، فلا یصحّ جعلها شرطاً فی ‏‎ ‎‏عقد، وأمّا الإباحة الناشئة عن اللااقتضاء فتصحّ.‏

‏فظهر: أنّ قوله قدّس سرّه: إنّ الإباحة ناشئة عن لا اقتضاء الموضوع لا یتمّ فی جمیع ‏‎ ‎‏موارد الإباحة، وإنّما هی فی بعض الموارد، فتدبّر هذا أوّلاً.‏

‏وثانیاً: أنّه لو سلّم أنّ الإباحة الواقعیة ناشئة دائماً عن لا اقتضاء الموضوع، ‏‎ ‎‏ولکن لا یتمّ إشکاله بعدم معقولیة ورود الحرمة علیها؛ و ذلک لأنّ المسلّم عند ‏‎ ‎‏العدلیة هو أنّ الأحکام المجعولة لها مصالح أو مفاسد إمّا فی نفس الموضوعات ‏‎ ‎‏أو لأجل أمر خارجی. ولم ترد آیة ولا روایة ولا دلیل من العقل علی أنّه لابدّ ‏‎ ‎‏وأن تکون المصلحة أو المفسدة فی نفس المتعلّق وذاته، بل قلّما تکون کذلک، ‏‎ ‎‏وإنّما یکون بلحاظ الاُمور والجهات الخارجیة. وذلک مثل نجاسة الکفّار ‏‎ ‎‏والخمر؛ فإنّه لا ینبغی الارتیاب فی أنّ النجاسة و الطهارة لیستا أمرین مجهولتی ‏‎ ‎‏الکنه لم نطّلع علیها؛ فإنّ النجاسة عبارة عمّا یستقذره العرف، فإذا أصابت الثوب ‏‎ ‎‏أو البدن یستقذر منهما، ویصیر الثوب والبدن قذراً بالعرض، ورفعه بطهر المحلّ.‏

‏نعم ربّما لم یترتّب علی بعض ما یستقذره العرف حکماً کالنخامة؛ فإنّ العرف ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 437
‏یستقذر منها، إلا أنّ الشارع لم یجعلها مانعة للصلاة. و ربّما یکون بالعکس، ‏‎ ‎‏فربّما لا یکون الشی ء قذراً عرفاً، ولا یستقذر منه العرف والعقلاء، إلا أنّ الشارع ‏‎ ‎‏حکم بنجاسته، وأوجب الاجتناب عنه. وذلک کالکفّار أو الخمر. فإنّ الکافر ‏‎ ‎‏الذی غسل بدنه و نظّفه بالصابون وغیره، لم یکن فی بدنه قذارة تکوینی، مع ‏‎ ‎‏ذلک حکم الشارع بنجاسته. فلیس الحکم بنجاستهم إلا لجهات ومصالح ‏‎ ‎‏خارجیة، وهی تحفّظ المسلمین من مخالطة الکفّار والمعاشرة معهم، حتّی تصون ‏‎ ‎‏بذلک أخلاقهم وآدابهم ونوامیسهم؛ لئلا تصیر أحوال المسلمین بمثابة التی نراها ‏‎ ‎‏فی عصرنا الحاضر. عصمنا وجمیع المسلمین من شرورهم.‏

فالحقّ: ‏أنّ نجاسة الکفّار نجاسة حکمیة لا حقیقیة. وکذا الخمر لم یکن فیها ‏‎ ‎‏قذارة عرفیة، إلا أنّه لمّا کانت فیها مادّة خبیثة تخمر العقول، وتوجب النکبات ‏‎ ‎‏والمفاسد الأکیدة، حکم الشارع بنجاستها وخباثتها، وشدّد النکیر علیها، بحیث لو ‏‎ ‎‏وقعت قطرة منها فی جبّ أو حُبّ أوجُب الاجتناب عنه.‏

‏فظهر: أنّ حکم الشارع بنجاسة الکفّار أو الخمر مثلاً لیس لمفسدة فی ‏‎ ‎‏أنفسهما، بل لجهات وحیثیات خارجیة أوجبت حکم الشارع بنجاستهما.‏

‏ومن هذا القبیل حکم الشارع بالحلّیة أو الطهارة فی بعض الاُمور، فإنّها لا ‏‎ ‎‏تکون لمصلحة فی نفسها، بل لجهات خارجیة، وإن کانت نفس المتعلّق تقتضی ‏‎ ‎‏الحرمة والنجاسة. وذلک مثل طهارة المخالفین؛ فإنّ الشأن فیهم هو الذی یکون ‏‎ ‎‏فی الکفّار، إلا أنّه ـ مع ذلک ـ لمصالح اُخر؛ وهی حفظ وحدة المسلمین وعدم ‏‎ ‎‏وقوع التفرقة بین الاُمّة الإسلامیة، حکم بطهارتهم إلی أن تظهر الدولة الحقّة ‏‎ ‎‏الإلهیة. فالاعتبار الذی ذکر فی نجاسة الکفّار وإن کان موجوداً فی مخالطة ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 438
‏المخالفین أیضاً، إلا أنه لموانع أو لمصالح لم یحکم علیهم بما حکم علی قرنائهم، ‏‎ ‎‏بل حکم بطهارتهم.‏

‏فظهر وتحقّق أنّه ربّما یکون الشی ء بلحاظ نفسه فیها مصلحة، إلا أنّه بواسطة ‏‎ ‎‏الجهات الخارجیة یصیر ذا مفسدة. وکذا ربّما یکون بلحاظ ذات مفسدة ولکن ‏‎ ‎‏بواسطة الجهات الخارجیة یصیر ذات مصلحة. فإذاً لا ضیر فی أن یکون ما لا ‏‎ ‎‏اقتضاء فیه بلحاظ ذاته محرّماً بلحاظ الاُمور والجهات الخارجیة. ولیست الاُمور ‏‎ ‎‏الخارجیة إلا جهات تعلیلیة، وواسطة فی ثبوت الحکم علی ذات الموضوع.‏

‏فلا یوجب ما ذکرنا خلاف الظاهر، وإنّما یوجب لو تعلّقت الحرمة بما لم ‏‎ ‎‏تتعلّق به الإباحة، وذلک فیما إذا کانت الجهات حیثیة، تقییدها توجب تکثّر ‏‎ ‎‏الموضوع، وقد عرفت: أنّ الموضوع فی الحکم بالإباحة هو الموضوع فی الحکم ‏‎ ‎‏بالحرمة، والجهات الخارجیة وسائط لترتّب الحکم علی الموضوع.‏

‏وثالثاً: أنّه لا یلزم علی تقدیرکون ورود النهی محدّداً للموضوع، إذا اُخذ بنحو ‏‎ ‎‏المعرّفیة والکاشفیة، أن یکون حمل الخبر علیه حملاً علی ما هو کالبدیهی. وإنّما ‏‎ ‎‏یلزم ذلک لو اُرید إثبات عدم الحرمة فیما لا اقتضاء فیه؛ لأدائه إلی أنّ ما لم ینه ‏‎ ‎‏عنه لم یکن حراماً. وأمّا إذا اُرید جعل الإباحة الواقعیة الشرعیة الناشئة عن ‏‎ ‎‏المصلحة فلا یکون واضحاً، ولم یکن جعله لغواً؛ لأنّه فی صورة الشکّ فی ورود ‏‎ ‎‏النهی عن الشارع یمکن استصحاب الحلّیة المجعولة شرعاً، ولها فائدة.‏

‏ورابعاً: أنّه مضی الکلام مستوفاة أنّه لا تضادّ بین الأحکام الخمسة‏‎[2]‎‏، فلا ‏‎ ‎‏یرتبط بالمقام حدیث امتناع أخذ عدم الضدّ شرطاً لوجود الضدّ الآخر، فیمکن ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 439
‏أن یجعل عدم أخذ الأحکام شرطاً لوجود الضدّ الآخر، فتدبّر.‏

‏وخامساً: علی تقدیر کون الأحکام الخمسة متضادّة لم یقیّد موضوع الإباحة ‏‎ ‎‏فی المقام بعدم الحرمة التی هی ضدّ لها. وإنّما قیّد بعدم ورود النهی واقعاً، ولم ‏‎ ‎‏یکن ورود النهی ضدّاً للإباحة، کما لا یخفی‏‎[3]‎‏.‏

‏هذا کلّه فیما إذا اُرید الإباحة الواقعیة من المطلق، والصدور الواقعی من ‏‏«‏حتّی ‎ ‎یرد‏»‏.

‏وأمّا إذا اُرید به الأباحة الظاهریة من المطلق والصدور من الورود، فأفاد ‏‎ ‎‏المحقّق الأصفهانی قدّس سرّه أیضاً أنّ ذلک ممتنع لوجوه:‏

‏منها: تخلّف الحکم عن موضوعه التامّ؛ لأنّ موضوع الإباحة الظاهریة هو ‏‎ ‎‏المشکوک بما هو مشکوک. وهی لو کانت مغیّاة أو محدودة بأمر واقعی یجامع ‏‎ ‎‏الشکّ، یلزم ارتفاع الحکم بالإباحة عن موضوعه التامّ الذی هو المشکوک، ‏‎ ‎‏لأجل ورود النهی واقعاً، فلا یعقل أن یتقیّد إلا بورود النهی علی المکلّف لیکون ‏‎ ‎‏مساوقاً للعلم المرتفع بالشکّ.‏

‏ومنها: أنّ الإباحة الظاهریة إذا کانت مغیّاة بصدور النهی واقعاً، أو محدودة ‏‎ ‎‏بعدم صدوره واقعاً، والغایة أو القید مشکوک الحصول، فلا محالة یحتاج إلی ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 440
‏أصالة عدم صدوره لفعلیة الإباحة. والأصل: إمّا یکون کافیاً وإن لم یکن هذا ‏‎ ‎‏الخبر، أو لا یکون کافیاً إن أردنا ترتیب مضمون الخبر علیه تعبّداً. فعلی الأوّل لا ‏‎ ‎‏استدلال بالخبر، وعلی الثانی لا یصحّ الاستدلال به.‏

‏وبعبارة اُخری: إن کان الأصل لمجرّد نفی الحرمة فلا مانع منه، إلا أنّه لا ‏‎ ‎‏یکون استدلالاً بالحدیث. وإن لم یکن کافیاً، فإن أردنا ترتیب مضمون الحدیث ‏‎ ‎‏علیه تعبّداً ـ وبعبارة اُخری التعبّد بالإباحة الشرعیة، ظاهریة أو واقعیة ـ فلا ‏‎ ‎‏یصحّ الاستدلال بالحدیث؛ لما عرفت من امتناع ذلک مطلقاً، فتدبّر.‏

‏ومنها: أنّ ظاهر الحدیث جعل ورود النهی غایة رافعة للإباحة الظاهریة ‏‎ ‎‏المفروضة، ومقتضی فرض عدم الحرمة إلا بقاءً هو فرض عدم الحرمة حدوثاً، ‏‎ ‎‏ومقتضاه عدم الشکّ فی الحلّیة والحرمة من أوّل الأمر، فما معنی جعل الإباحة ‏‎ ‎‏الظاهریة المتقوّمة بالشکّ فی الحلّیة والحرمة فی فرض عدم الحرمة إلا بقاءً؟ ‏‎ ‎‏ولیست الغایة غایة للإباحة الإنشائیة، حتّی یقال: إنّه یحتمل فی فرض فعلیة ‏‎ ‎‏الشکّ صدور النهی واقعاً، بل غایة لحقیقة الإباحة الفعلیة بفعلیة موضوعها، وهو ‏‎ ‎‏المشکوک. وحیث إنّ المفروض صدور النهی بقاءً فی مورد هذه الإباحة الفعلیة، ‏‎ ‎‏فلذا یرد المحذور المزبور‏‎[4]‎‏.‏

‏وفیه أنّ شیئاً من الإشکالات غیر وارد:‏

‏أمّا إشکاله الأوّل: فلأنّه علی فرض کون الورود محدّداً للموضوع یکون ‏‎ ‎‏الموضوع عبارة عن المشکوک الذی لم یرد فیه نهی واقعاً. ومعلوم أنّه بعد صدور ‏‎ ‎‏النهی واقعاً ینتفی ما هو موضوع الإباحة بانتفاء أحد جزئیه؛ ضرورة أنّ ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 441
‏المشکوک الذی لم یرد فیه نهی واقعاً غیر المشکوک الذی ورد فیه نهی. فلم یبق ‏‎ ‎‏الموضوع بعد ورود النهی واقعاً حتّی یلزم تخلّف الحکم عن موضوعه التامّ.‏

‏وتوهّم: أنّ حمل الخبر علیه حمل له علی ما هو کالبدیهی، فلا یناسب شأن ‏‎ ‎‏الإمام علیه السلام، فقد عرفت دفعه آنفاً فلاحظ.‏

‏وأمّا علی تقدیر کون الورود غایة للإباحة فالموضوع وإن کان هو المشکوک ‏‎ ‎‏بما هو مشکوک، وهو محفوظ مع صدور النهی، ولکن کما أشرنا لا مانع من ‏‎ ‎‏تخلّف الحکم عن موضوعه إذا اقتضت المصلحة الخارجیة لذلک.‏

‏وما ذکره قدّس سرّه من الامتناع ناشٍ من خلط باب التشریع بالتکوین؛ بتخیّل أنّ ‏‎ ‎‏الموضوعات الشرعیة علل تامّة، کما هو المعروف بینهم. وقد تقدّم: أنّه غیر تامّ‏‎[5]‎‏.‏

‏وقد أشرنا آنفاً فی نجاسة الکفّار وطهارة المخالفین فی عصر الغیبة أنّ ‏‎ ‎‏المصالح أو المفاسد الخارجیة لها دخالة فی تعلّق الأحکام‏‎[6]‎‏.‏

‏وعلی هذا یمکن أن یقال: إنّ المشکوک حلال إلی مدّة وحرام إلی زمان ‏‎ ‎‏آخر.‏

‏وإن شئت قلت: إنّ الحوادث والوقائع المقارنة تکون قیداً محدّداً للموضوع، ‏‎ ‎‏وبتغیّرها یتغیّر الحکم، فتدبّر.‏

‏وأمّا إشکاله الثانی: فنختار أنّ الأصل للتعبّد بالإباحة الشرعیة ظاهریة أو ‏‎ ‎‏واقعیة. فقوله قدّس سرّه: إنّه قد عرفت امتناع ذلک مطلقاً، فقد أشرنا صحّته ومعقولیّته، ‏‎ ‎‏فلاحظ.‏

‏ثمّ إنّه کما فی ‏‏«‏‏التهذیب‏‏»‏‏: إنّ الأصل الجاری فی المقام إن کان أصالة عدم ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 442
‏الحرمة فسیوافیک الإشکال فیه. وإن کان أصالة عدم ورود النهی حتّی یثبت ‏‎ ‎‏الحلّیة الواقعیة أو الظاهریة، فسیوافیک أنّه من الاُصول المثبتة؛ لأنّ تحقّق ذی ‏‎ ‎‏الغایة مع عدم حصول غایته من الأحکام العقلیة، والشکّ فی تحقّق ذیها وإن ‏‎ ‎‏کان مسبّباً عن تحقّق نفس الغایة وعدمها، إلا أنّه لیس مطلق السببیة مناطاً ‏‎ ‎‏لحکومة السببی علی المسبّبی ما لم یکن الترتّب شرعیاً.‏

‏وإن کان الأصل أصالة بقاء الإباحة الواقعیة أو الظاهریة فلا مانع منه. والقول ‏‎ ‎‏بأنّ الاستصحاب لا یجری فی الأحکام الظاهریة صحیح، ولکن المقام لیس من ‏‎ ‎‏أفراده؛ لأنّ ذلک فیما إذا کان نفس الشکّ کافیاً فی ترتّب الأحکام؛ لأنّ الحکم ‏‎ ‎‏فی المقام لیس مترتّباً علی نفس الشکّ، بل علیه مغیّاً بعدم ورود النهی الواقعی، ‏‎ ‎‏وهذا لا یکفی فیه الشکّ أصلاً حتّی لا نحتاج إلی الاستصحاب‏‎[7]‎‏.‏

‏وأمّا إشکاله الثالث: فنمنع استلزام عدم الحرمة إلا بعد ورود النهی لعدم ‏‎ ‎‏تحقّق الشکّ؛ بداهة تحقّق الشکّ فی صورة الشکّ فی الورود وعدمه؛ وذلک ‏‎ ‎‏لأنّ المکلّف إذا التفت إلی حرمة شرب التتن وعدمها بلحاظ احتمال ورود النهی ‏‎ ‎‏واقعاً، فلا محالة یتحقّق فی نفسه الشکّ، وهو کافٍ فی جعل الحکم الظاهری؛ ‏‎ ‎‏سواء الحکم الظاهری وجوب الاحتیاط إلی أن یرد الترخیص، أو الترخیص ‏‎ ‎‏والإباحة إلی أن یرد النهی. وقد أشرنا آنفاً عدم لغویة هذا الجعل.‏

‏وبالجملة: لو شکّ المکلّف فی ورود النهی وعدمه فی شرب التتن مثلاً، ‏‎ ‎‏یتحقّق عند ذلک موضوع الحکم بالإباحة؛ ضرورة أنّ موضوعها الشکّ، وهو ‏‎ ‎‏متحقّق عند ذلک بالوجدان. ولا فرق فی ذلک بین کون الأصل فی الأفعال ‏‎ ‎‏الحظر أو الإباحة.‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 443
‏وأمّا حدیث لغویة جعل الإباحة الظاهریة بعد حکم العقل بعدم الحرج مع ‏‎ ‎‏عدم ورود النهی واقعاً، فقد أشرنا: أنّ له فائدة؛ لأنّه فی صورة الشکّ فی صدور ‏‎ ‎‏النهی واقعاً لا یحکم العقل بعدم الحرج، بناءً علی أنّ الأصل فی الأفعال الحظر ‏‎ ‎‏إلی أن یثبت الترخیص؛ فیفید جعل الإباحة الظاهریة عند ذلک. ‏

ما یستفاد من الحدیث فی مقام الإثبات.

‏هذا کلّه فی المحتملات الثبوتیة فی الحدیث. فقد عرفت ضعف ما اُفید فی ‏‎ ‎‏امتناع إرادة بعض المحتملات فی إرادة المطلق والورود، فحان التنبّه إلی ما ‏‎ ‎‏یستفاد من الحدیث فی مقام الإثبات فنقول:‏

‏أشرنا: أنّ الشیخ الأعظم أعلی الله‌ مقامه جعل هذا الحدیث أظهر ما فی الباب ‏‎ ‎‏فی الدلالة علی البرائة‏‎[8]‎‏ وقال فی وجهه: إنّ ظاهره عدم وجوب الاحتیاط؛ لأنّ ‏‎ ‎‏الظاهر إرادة ورود النهی فی الشی ء من حیث هو، لا من حیث کونه مجهول ‏‎ ‎‏الحکم، فإن تمّ ما سیأتی من أدلّة الاحتیاط دلالةً وسنداً وجب ملاحظة ‏‎ ‎‏التعارض بینها وبین هذه الروایة وأمثالها ممّا تدلّ علی عدم وجوب الاحتیاط، ‏‎ ‎‏ثمّ الرجوع إلی ما تقتضیه قاعدة التعارض‏‎[9]‎‏.‏

‏وقال المحقّق العراقی قدّس سرّه فی وجهه کما أفاده الشیخ اعلی الله‌ مقامه: بناءً علی ‏‎ ‎‏کون المراد من النهی النهی الواقعی المتعلّق بالشی ء بعنوانه الأوّلی کما هو الظاهر، ‏‎ ‎‏ومن الورود وصوله إلی المکلّف، لا مجرّد صدوره واقعاً، فإنّه علی ذلک یدلّ ‏‎ ‎‏علی المطلوب بلحاظ ظهور إطلاق الشی ء فی الترخیص وعدم وجوب الاحتیاط ‏‎ ‎‏عند الجهل بالحرمة.‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 444
‏نعم، علی احتمال إرادة ورود النهی واقعاً من الورود لا وصوله إلی المکلّف ‏‎ ‎‏لا یتمّ الاستدلال به للمقام، إلا أنّ احتماله بعید فی نفسه لا یصار إلیه؛ لرجوعه ‏‎ ‎‏إلی توضیح الواضح؛ لأنّه یصیر مفاده علی هذا: أنّ ما لم یرد فیه نهی لا نهی فیه، ‏‎ ‎‏ومثله ممّا یبعد جدّاً عن مساق الروایة الظاهرة فی مقام التوسعة علی العباد‏‎[10]‎‏.‏

‏وأفاد سماحة الاُستاذ دام ظلّه فی وجهه بما حاصله: أنّ الظاهر من قول ‏‎ ‎‏الصادق علیه السلام بعد انقطاع الوحی زمانه علیه السلام وتقییده بلفظة ‏‏«‏یرد‏»‏‏ بجملة استقبالیة، ‏‎ ‎‏تدلّ علی أنّه لیس المراد بالورود الورود من جانب الشارع؛ لانقطاع الوحی ‏‎ ‎‏بموت النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم. فکلّ ما یرد من أئمّة أهل البیت علیه السلام حاکیات عن التشریع، ‏‎ ‎‏والورود الأوّلی. فیکون المراد بالورود الوصول إلی المکلّف، وهذا عرفاً عین ‏‎ ‎‏الحکم الظاهری المجعول فی حقّ الشاکّ إلی أن یظفر بالدلیل.‏

‏وبالجملة: الظاهر أنّ المراد بقوله علیه السلام ‏‏«‏حتّی یرد‏»‏‏ بجملة استقبالیة، والنهی ‏‎ ‎‏المتوقّع وروده زمن الصادق علیه السلام لیست النواهی الأوّلیة المتعلّقة علی ‏‎ ‎‏الموضوعات؛ لأنّ ذلک بید الشارع، وقد تمّ نطاقه بموت النبی صلی الله علیه و آله و سلم وانقطاع ‏‎ ‎‏الوحی، وکلّ ما ورد من أئمّة أهل البیت علیه السلام کلّها حاکیات عن التشریع والورود ‏‎ ‎‏الأوّلی. فعلی هذا یکون المراد بقوله علیه السلام ‏‏«‏حتّی یرد‏»‏‏ الورود علی المکلّف ‏‎ ‎‏والوصول إلیه حتّی یرتفع ذلک الحکم المجعول للشاکّ. وهذا کما تری عین ‏‎ ‎‏الحکم الظاهری. واستظهار هذا المعنی ممّا نقله الطریحی: ‏‏«‏کلّ شی ء لک ‎ ‎مطلق‏»‏‎[11]‎‏... إلی آخره. من الوضوح بمکان؛ لدلالته علی أنّ الإباحة ربّما یکون ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 445
‏لشخص دون شخص، وهذا یلائم إرادة الوصول إلی المکلّف لا الصدور، کما لا ‏‎ ‎‏یخفی‏‎[12]‎‏.‏

‏وحاصل معنی الحدیث: أنّ کلّ شی ء مباح واقعاً ما لم یصدر نهی من الشارع، ‏‎ ‎‏فیکون مفاد الحدیث أجنبیّ عن مفروض البحث.‏

‏ولکن فی استظهار هذا المعنی ممّا نقله الطریحی کما أشرنا وهو: ‏‏«‏کلّ شی ء ‎ ‎لک مطلق‏»‏...‏ إلی آخره، نحو خفاء؛ فإنّ ظاهره بقرینة لفظة ‏‏«‏لک‏»‏‏ یعطی بأنّ ‏‎ ‎‏الإباحة ربما یکون لشخص دون شخص وهذا یلائم إرادة الوصول إلی المکلّف ‏‎ ‎‏لا الصدور کما لا یخفی، فتدبّر.‏

‏إذا تمهّد لک ما ذکرنا: یظهر لک ضعف بعض ما احتمل فی الحدیث.‏

منها: ‏احتمال کون الإطلاق فی الحدیث بمعنی اللاحرج العقلی واللا حظر ‏‎ ‎‏فیکون الحدیث بصدد بیان حکم عقلی ومسألة اُصولیة أو کلامیة أو عقلیة.‏

‏وبالجملة: احتمال اللاحرج العقلی من قوله علیه السلام: ‏‏«‏کلّ شی ء مطلق‏»‏‏، مع إرادة ‏‎ ‎‏ورود النهی واقعاً من قوله: ‏‏«‏حتّی یرد فیه نهی‏»‏.

‏توضیح الضعف: أنّ ظاهر الحدیث کون الإمام علیه السلام بصدد الفتوی ورفع حاجة ‏‎ ‎‏المکلّفین لا بیان مسألة اُصولیة أو کلامیة أو عقلیة.‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 446
‏مضافاً إلی أنّ بیان: ‏‏«‏‏أنّ الأصل فی الأشیاء والأفعال الإباحة العقلیة‏‏»‏‏، لیس ‏‎ ‎‏شأن الإمام المبیّن للأحکام الشرعیة، لا العقلیة.‏

ومنها: ‏احتمال کون المراد بالمطلق الحلّیة الواقعیة قبل الشرع، المستکشف ‏‎ ‎‏بحکم العقل بکون الأفعال والأشیاء علی الإباحة.‏

‏توضیح الضعف: هو أنّ بیان قاعدة الملازمة بین حکم العقل والشرع أیضاً لا ‏‎ ‎‏یناسب شأن الإمام المبیّن للأحکام الشرعیة.‏

ومنها:‏ احتمال إرادة الإباحة الواقعیة مع قطع النظر عن قاعدة الملازمة، مع ‏‎ ‎‏إرادة ورود النهی قبل ذلک؛ بأن یقال: إنّ الإمام علیه السلام فی مقام بیان أنّ الحکم ‏‎ ‎‏الواقعی المجعول للأشیاء قبل ورود الشرع والنواهی والأوامر الشرعیة هو ‏‎ ‎‏الإباحة.‏

‏توضیح الضعف: هو أنّه لا یترتّب علیه أثر عملی، مع أنّ الظاهر أنّ الإمام علیه السلام ‏‎ ‎‏فی مقام الإفتاء، بما یترتّب علیه الأثر العملی، والجری علی وفقه.‏

ومنها: ‏أن یراد بالجمود علی ظاهر قوله علیه السلام: ‏‏«‏حتّی یرد‏»‏‏ بمعناه الاستقبالی، ‏‎ ‎‏الشی ء الذی ادّخر حکمه واستودع عند صاحب الأمر عجّل الله‌ فرجه الشریف. ‏‎ ‎‏فیحکم بإباحته حتّی یرد من قبله علیه السلام بعد ظهوره نهی.‏

‏توضیح الضعف: أنّ الأحکام المودعة المذخورة عنده علیه السلام عدّة قلیلة لا ‏‎ ‎‏یناسبها ظاهر الحدیث؛ لأنّ الظاهر أنّه فی مقام بیان کبری کلّیة.‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۵): تقریر ابحاث روح‏ الله‏ موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 447

  • . نهایة الدرایة 4: 72 ـ 73.
  • . تقدّم فی الجزء الرابع: 95.
  • . قلت: ولا یخفی أنّ ما أفاده دام ظلّه إنّما هو فیما إذا کان ذو الطریق والطریق متعدّداً، وأمّا فیما إذا کانا واحداً فلا، والمقام من قبیل الثانی لأنّ ورود النهی فی الحقیقة عبارة اُخری عن الحرمة. وهذا نظیر ما ردّ به الاُستاذ دام ظلّه مقال المحقّق النائینی قدّس سرّه(أ) من أنّ تطرّق الطریق لیس إلا عملاً بمؤدّی الطریق؛ ولیس التطرّق أمراً وراء العمل بمؤدّی الخبر،(ب) کذا تحصّل لنا عند البحث والمذاکرة، فتدبّر.أ ـ فوائد الاُصول 3: 95 ـ 96.  ب ـ تهذیب الاُصول 2: 372.
  • . نهایة الدرایة 4: 74 ـ 75.
  • . تقدّم فی الجزء الثالث: 42.
  • . تقدّم فی الصفحة 437 ـ 438.
  • . تهذیب الاُصول 3: 79.
  • . تقدّم فی الصفحة 434.
  • . فرائد الاُصول، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25: 43.
  • . نهایة الأفکار 3: 230.
  • . مجمع البحرین 5: 207.
  • . قلت: فی النفس شیء‌ فیما أفاده دام ظلّه؛ لأنّ ما ورد من أئمّة أهل البیت علیهم السلام وإن کان حاکیات عن التشریع الأوّلی، إلا أنّه یطلق علی ما صدر عنهم علیه السلام الصدور عن الشریعة، ولذا یطلق علی الإمامین الهمامین الباقر والصادق: الشارع؛ لکثرة ما ورد عنهما فی الأحکام الشرعیة. فمن القریب أن یراد الورود ما یعمّ الورود من ناحیتهم وإن لم یصل إلی المکلّف فیخرج مفاد الحدیث عن مفروض البحث بین المجتهدین والأخباریین؛ لأنّ ما لا نهی فیه واقعاً لا کلام فی أنّه لا عقوبة فی ارتکابه، ولا یجب فیه الاحتیاط عند الأخباری. ولعلّ إلی مثل هذا البیان نظر من استدلّ بهذا الحدیث علی کون الأصل فی الأشیاء الإباحة لا الحظر. [المقرّر قدّس سرّه]