المطلب السادس الأمارات المعتبرة عقلاًوشرعاً

التمسّک بالاستصحاب لإثبات وجوب باقی الأجزاء

التمسّک بالاستصحاب لإثبات وجوب باقی الأجزاء

‏وربّما یتمسّک لإثبات وجوب الباقی الفاقد للجزء أو الشرط المتعذّرین‏‎ ‎‏بالاستصحاب، وقرّر بوجوه لا یخلو جمیعها عن الإشکال :‏

الأوّل :‏ استصحاب أصل الوجوب الجامع بین النفسی والغیری بعد تعذّر‏‎ ‎‏الجزء أو الشرط، فإنّ الوجوب کان متیقّناً قبل عروض العجز عن الجزء، وبعد طروّه‏‎ ‎‏وإن علم بارتفاع هذا الفرد من الوجوب الغیریّ المتعلّق بالباقی، لکن یشکّ فی‏‎ ‎‏حدوث وجوب نفسیّ آخر للباقی مقارناً لارتفاع الأوّل، فیستصحب أصل الوجوب‏‎ ‎‏الجامع مع قطع النظر عن کونه نفسیّاً أو غیریّاً، فیجب الإتیان بالباقی‏‎[1]‎‏.‏

الثانی :‏ استصحاب بقاء الوجوب الضمنی المتعلّق بالباقی؛ للعلم به قبل‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 542
‏عروض التعذّر فی ضمن وجوب الکلّ، وهو وإن ارتفع قطعاً بارتفاع الوجوب‏‎ ‎‏النفسی المتعلّق بالکلّ بعد عروض التعذّر، لکن یحتمل حدوث وجوب نفسیّ آخر‏‎ ‎‏متعلّق بالباقی حین ارتفاع الأوّل، والمراد استصحاب أصل الوجوب، لا الوجوب‏‎ ‎‏النفسی الخاصّ‏‎[2]‎‏.‏

ولکن یرد علی هذین الوجهین‏ من الاستصحاب ما تقدّم سابقاً : من أنّه یعتبر‏‎ ‎‏فی الاستصحابات الموضوعیّة ترتُّب أثرٍ شرعیٍّ علی المستصحب، أو کون‏‎ ‎‏المستصحب نفسه حکماً شرعیّاً، والجامع بین الوجوب النفسی والغیری أو الضمنی‏‎ ‎‏والنفسی لیس کذلک، فإنّه لیس أمراً مجعولاً شرعیّاً؛ لأنّ المجعول هو الوجوب‏‎ ‎‏النفسی أو الغیری، لا الکلّی الجامع بینهما، فإنّه أمر انتزاعیّ منتزع من أفراده‏‎ ‎‏المجعولة، ولایترتّب علیه أیضاً أثر شرعیّ، مضافاً إلی أنّ الجامع الحقیقیّ بین‏‎ ‎‏المعانی الحرفیّة غیر معقول ـ کما حُقّق فی محلّه ـ بل الجامع بینها معنیً عرضیّ‏‎ ‎‏اسمیّ منتزع من هذا وذاک.‏

‏مع أنّه علی فرض تسلیم ثبوت الوجوب الغیریّ للأجزاء، فهو لکلّ واحدٍ من‏‎ ‎‏أجزاء المرکّب، لا لمجموع الأجزاء؛ لتوقّف المرکّب علی کلّ واحدٍ منها، فلیس‏‎ ‎‏لمجموع هذه الأجزاء وجوب غیریّ حتّی یستصحب ، وأمّا استصحاب وجوب هذا‏‎ ‎‏وذاک فهو مقطوع الارتفاع، والمراد إثبات الوجوب النفسی للباقی.‏

الثالث :‏ استصحاب شخص الوجوب النفسی المتعلّق بالصلاة ـ مثلاً ـ‏‎ ‎‏بدعوی أنّ الموضوع ـ أی الأجزاء العشرة ـ وإن لم یکن باقیاً عقلاً بتعذّر بعض‏‎ ‎‏الأجزاء، لکنّه باقٍ عرفاً، فیقال: إنّ هذه الأجزاء التسعة هی التی تعلّق بها الوجوب،‏‎ ‎‏فالأصل بقاؤه؛ للشکّ فیه من جهة احتمال دخالة الجزء المتعذّر فی الوجوب، کما‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 543
‏هو الشأن فی جمیع موارد الاستصحابات، کما فی استصحاب عدالة زید‏‎[3]‎‏.‏

وفیه :‏ أنّ القضیّة المتیقّنة والموضوع فی مثل استصحاب العدالة هو الهویّة‏‎ ‎‏الشخصیّة الخارجیّة، وهی باقیة حقیقةً فی ظرف الشکّ، وإنّما الشکّ لأجل زوال‏‎ ‎‏حالةٍ احتمل دخالتها فیه، وإلاّ فالموضوع لم یتبدّل حقیقةً، بخلاف العناوین‏‎ ‎‏والمفاهیم الکلّیّة، فإنّ عنوان الفرس ـ مثلاً ـ بقید أنّه عربیّ یُغایر الفرس مع قید‏‎ ‎‏الأعجمی ـ مثلاً ـ لعدم انطباق أحدهما علی الآخر، ولذا لو باعه کذلک، فأقبضه ما‏‎ ‎‏لیس فیه هذا القید، فإنّه لایوجب الخیار مع صحة البیع، بخلاف ما لو باع الفرس‏‎ ‎‏الخارجی بشرط العربیّة، فانکشف کونه عجمیّاً، فإنّ له الخیار؛ لبقاء المبیع وصدقه،‏‎ ‎‏وإنّما المتخلّف شرطه وقیده، بخلاف الأوّل، ولذلک یکون جمیع قیود العناوین‏‎ ‎‏الکلّیّة مقوّمات.‏

وبالجملة :‏ فرق بین العناوین الکلّیة وبین الهویّات الشخصیّة الخارجیّة، وما‏‎ ‎‏نحن فیه من قبیل الأوّل، فالصلاة بقید أنّها مع السورة تغایر الصلاة بدونها عقلاً‏‎ ‎‏وعرفاً، والمعلوم وجوبه هو الأوّل، والمشکوک فیه هو الثانی، فلا تتّحد القضیّة‏‎ ‎‏المتیقّنة مع المشکوکة.‏

‏مضافاً إلی أنّ جریان الاستصحاب فی مثل عدالة زید أو کُرّیّة الماء أو‏‎ ‎‏نجاسة الماء المتغیّر بعد زوال التغیّر بنفسه، إنّما هو لأجل احتمال عدم دَخْل الصفة‏‎ ‎‏الزائلة ـ أی التغیّر فی المثال الأخیر ـ فی البقاء ودخلها فی الحدوث فقط، ولهذا لا‏‎ ‎‏إشکال فی جریان الاستصحاب فیها، بخلاف ما نحن فیه؛ لأنّ الإرادة کانت متعلّقة‏‎ ‎‏بعشرة أجزاء ـ مثلاً ـ ومع تعذُّر بعضها لابقاء لها بشخصها، فهی مقطوعة الارتفاع،‏‎ ‎‏والمحتمل هو حدوث حکم آخر للباقی، فهذا الاستصحاب من قبیل استصحاب‏‎ ‎‏القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الکلّیّ، لا القسم الأوّل.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 544
الرابع :‏ أنّ الأمر المتعلّق بالصلاة المرکّبة من الأجزاء المتعدّدة منبسط علی‏‎ ‎‏جمیع أجزائها، فإذا تعذّر بعضها یشکّ فی بقاء الوجوب المتعلّق بالباقی وعدمه‏‎ ‎‏وسقوطه رأساً، فیستصحب ، ولا یحتاج حینئذٍ إلی دعوی التسامح فی بقاء‏‎ ‎‏الوجوب، ولا فی بقاء الموضوع؛ لأنّ المقصود هو استصحاب نفس الوجوب‏‎ ‎‏المتعلّق بالباقی بالانبساط حقیقةً، وبقاء الموضوع أیضاً حقیقة، وإنّما احتمل ارتفاع‏‎ ‎‏وجوب الباقی بارتفاع وجوب الجزء المتعذّر‏‎[4]‎‏.‏

وفیه : أوّلاً :‏ أنّ القول بانبساط الوجوب علی الأجزاء لایرجع إلی معنیً‏‎ ‎‏محصّل صحیح؛ لأنّه إن اُرید منه : أنّ الأمر المتعلّق بالطبیعة یدعو إلی الأجزاء‏‎ ‎‏الکثیرة فهو صحیح، فإنّ المطلوب الملحوظ أمر وحدانیّ؛ أی الأجزاء فی لحاظ‏‎ ‎‏الوحدة، والملحوظ ـ أی ما تعلّق به الأمر ـ وإن کان هو الصلاة لا الأجزاء، لکن‏‎ ‎‏لیست حقیقة الصلاة إلاّ عبارة عن تلک الأجزاء، فالأمر المتعلّق بالصلاة یدعو إلی‏‎ ‎‏أجزائها، وحینئذٍ فلامعنیٰ للاستصحاب المذکور؛ لأنّه لیس هنا إلاّ أمر واحد‏‎ ‎‏ووجوب واحد متعلّق بأمر واحد مرکّب، ینعدم بانعدام کلّ واحد من أجزائه، ولا‏‎ ‎‏یعقل دعوة الأمر بالکلّ إلی الباقی من الأجزاء بعد تعذّر بعضها، ولیس هنا أوامر‏‎ ‎‏متعدّدة ووجوبات عدیدة بعدد الأجزاء، فإنّ الأمر لا یدعو إلاّ إلی ما تعلّق به، وهو‏‎ ‎‏المرکّب، ولا یعقل دعوته إلی غیر ما تعلّق به، وحینئذٍ فالتکلیف الأوّل مرتفع قطعاً‏‎ ‎‏بتعذّر الجزء، والمحتمل حدوث تکلیف آخر متعلّق بالباقی، فهو من قبیل القسم‏‎ ‎‏الثالث من أقسام استصحاب الکلّی.‏

‏ومن هنا یظهر ما فی قیاس المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ ما نحن فیه بالبیاض الشدید؛‏‎ ‎‏حیث إنّه یمکن استصحاب بقاء شخصه مع زوال بعض مراتبه؛ للفرق بینهما‏‎[5]‎‏؛‏‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 545
‏حیث إنّ شخص البیاض موجود فی الخارج بجمیع مراتبه مع تبدّلها، والإرادة‏‎ ‎‏والبعث والطلب لیست کذلک إذا تعلّقت بالمجموع، فإنّها تنتفی بانتفاء بعض‏‎ ‎‏المجموع قطعاً.‏

‏وإن اُرید الانبساط الحقیقی، فانبساط الإرادة علی الأجزاء تابع للإرادة‏‎ ‎‏المتعلّقة بالمجموع، ویدور معها وجوداً وعدماً، ومع عدمها وانتفائها تنتفی الإرادة‏‎ ‎‏المنبسطة علی الأجزاء؛ لعدم استقلالها، فلا یعقل انبساط الإرادة علی الأجزاء مع‏‎ ‎‏انتفاء هذه الإرادة.‏

‏هذا کلّه فی مقتضی الاُصول .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 546

  • )) اُنظر فرائد الاُصول : 294 سطر 6، وکفایة الاُصول : 420، ونهایة الأفکار 3 : 449.
  • )) اُنظر نهایة الأفکار 3 : 449 .
  • )) اُنظر نهایة الدرایة 2 : 297 سطر 19 .
  • )) اُنظر فوائد الاُصول 4 : 559 ـ 560 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 451 ـ 452 .