مقتضی الأصل الشرعی فی المقام
فانقدح ممّا ذکرنا : أنّ مقتضی الأصل العقلی فی المقام هو البراءة.
وأمّا الأصل الشرعی والبراءة الشرعیّة فمحطّ البحث فی المقام هو ما إذا ثبت إطلاق الأدلّة الدالّة علی الجزئیّة والشرطیّة والمانعیّة وشمولها لحال النسیان؛ کی یحکم بارتفاعها بحدیث الرفع، بخلاف ما هو محطّ البحث فی البراءة العقلیّة.
فنقول : مقتضی القاعدة مع حفظ الإطلاق هو الإعادة أو القضاء بعد التذکّر، وإنّما الکلام فی أنّه هل یمکن رفع الید عن الإطلاق بحدیث الرفع أو لا؟ فالحکم برفع الجزئیّة والشرطیّة یفتقر إلی ثبوت أمرین :
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 507
أحدهما : شمول حدیث الرفع لما نحن فیه من الشبهات فی الأحکام الوضعیّة.
ثانیهما : إثبات أنّ الباقی من الأجزاء مصداق للمأمور به.
ومع عدم إثبات هذین الأمرین فالقاعدة تقتضی الاشتغال ، کما هو قضیّة إطلاق دلیل الجزئیّة والشرطیّة والمانعیّة وشمولها لصورة النسیان؛ سواء کان بلسان الوضع أم التکلیف؛ لعدم موافقة المأتیّ به للمأمور به.
وتوضیح الکلام فی ذلک یفتقر إلی تقدیم اُمور :
الأوّل : أنّ الأوامر المتعلّقة بالطبائع المنحلّة إلی الأجزاء والشرائط کالصلاة، وإن کانت تدعو إلیها ابتداءً، لکن حیث إنّ الصلاة لیست إلاّ عبارة عن تلک الأجزاء، فهی فی الحقیقة تدعو إلیها، کما لو أمر ببناء المسجد، فإنّه أمر بتألیف أجزائه وتحصیلها.
الثانی : لیس معنی حکومة الأدلة الثانویّة ـ کأدلّة نفی الحرج والضرر والرفع سوی «ما لا یعلمون» ـ علی الأدلّة الأولیّة المتکفّلة للأحکام الأوّلیّة، هو رفع الحکم الفعلی الذی تعلّقت به الإرادة الجدّیّة حتّی حال النسیان والخطاء ـ مثلاً ـ فإنّ مرجعه إلی النسخ المستحیل، بل المراد أنّه یکشف بها بعروض هذه الطوارئ عن عدم تعلُّق الإرادة الجدّیّة بالنسبة إلیه، وعدم تطابق الإرادة الجدّیّة مع الاستعمالیّة فی مقام الجعل الکلّی القانونی؛ أی جعل جزئیّة الجزء وشرطیّة الشرط ومانعیّة المانع.
الثالث : قد یحتمل فی حدیث الرفع أنّ المراد من رفع النسیان هو رفع المنسیّ، فإنّ رفع نفس النسیان غیر معقول، فلابدّ أن یراد منه رفع المنسیّ بادّعاء أنّه نفس النسیان؛ لما بینهما من نحو من الاتّحاد والارتباط.
ثمّ إنّ المنسیّ عبارة عن الجزء ـ مثلاً ـ وهو غیر قابلٍ للرفع الحقیقیّ، بل
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 508
رفعه باعتبار رفع حکمه وبلحاظه، مثل : (یا أشباه الرجال ولا رجال)، فهو المرفوع.
والحاصل : أنّ هنا ادّعاءین :
أحدهما : ادّعاء أنّ النسیان هو المنسیّ.
ثانیهما : ادّعاء أنّ رفع حکم المنسیّ هو رفع نفسه .
لا یقال : إنّ استعمال النسیان فی المنسیّ مجازٌ، وإسناد الرفع إلیه باعتبار حکمه، وأنّ تغییر السیاق إنّما هو لأجل المتابعة للآیة الشریفة : «رَبَّنا لاٰ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِینا أوْ أَخْطَأْنا» الآیة، فالمراد بالنسیان هو المنسیّ، وکذلک فی الخطاء، کما فی «ما استُکرهوا علیه».
لأنّ التحقیق : هو أنّ تغییر السیاق فی الحدیث الشریف لنکتة اُخریٰ، وهی أنّ الإکراه قد یتعلّق بالوجود، وقد یتعلّق بالعدم، وکذلک عدم القدرة والطاقة قد یتعلّق بالوجود، وقد یتعلّق بالعدم، وکذا الاضطرار والجهل فی «ما لا یعلمون» قد یتعلّقان بالموضوع، وقد یتعلّقان بالحکم النفسی أو الغیری، کالجزئیّة والشرطیّة والمانعیّة، والموضوع المجهول قد یکون موضوعاً لحکم نفسیّ أو لحکم غیریّ، کالجزء والشرط والمانع، ولذلک عبّر عنه فی الحدیث بالموصول، بخلاف الخطاء والنسیان، فإنّ تعلّقهما بالوجود والعدم لیس علیٰ وتیرة واحدة، فإنّ فی صورة الترک نسیاناً یتعلّق النسیان بنفس الجزء المتروک، فیذهل عن الجزء فیترکه، بخلاف ما لو أوجد شیئاً نسیاناً، کالتکلّم ونحوه فی الصلاة، فإنّ النسیان متعلّق بمنشأ ذلک، فیذهل عن أنّه فی الصلاة، فیتکلّم عن إرادة واختیار، وهکذا فی الخطاء.
وحینئذٍ فلو عبّر عنه : ب «مانسوا» و «ما أخطؤوا» ـ کما فی (ما اضطُرّوا إلیه)
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 509
ـ لم یشمل الإیجاد نسیاناً أو خطاءً؛ لما عرفت من عدم تعلّق النسیان بنفس الوجود، بل بمنشئه، فعبّر علیه السلام فیهما بالنسیان والخطاء، لیشمل القسمین؛ أی نسیان الوجود والعدم ومتعلّق الحکم نفسیّاً أو غیریّاً، فمعنی رفع النسیان رفعه بما له من الآثار التی هو منشؤها ، وفی الحقیقة یتعلّق الرفع بما هو مسبّب عن النسیان بلا واسطة أو مع الواسطة، وحینئذٍ فلا یحتاج إلی ادّعاء أنّ النسیان عین المنسیّ.
الرابع : لو نسی الجزء أو الشرط فترکهما، فهل یتعلّق النسیان بوجود الجزء المنسیّ، فینسیٰ وجوده فیترکه ـ کما هو صریح کلام المحقّق العراقی ـ أو أنّه متعلّق بالعدم ـ کما هو ظاهر کلام المیرزا النائینی قدس سره ـ أو أنّه متعلّق بذات الجزء وطبیعته؟ وجوهٌ.
والحقّ هو الأخیر، فإنّ ترک الجزء مسبّب عن الذهول وغروب الذهن عن طبیعة سورة الفاتحة ـ مثلاً ـ فلا یوجد مصداقها فی الخارج، وکذلک الشرط؛ لأنّ المفروض أن لا وجود خارجیّ له فی صورة النسیان حتّی یتعلّق به النسیان، ومعنی رفع طبیعة الجزء والشرط هو رفع حکمهما؛ أی الجزئیّة والشرطیّة أو الوجوب التکلیفی الذی هو منشأ انتزاعهما، لا باعتبار أظهر الآثار؛ لاحتیاج ذلک إلیٰ مؤونة زائدة وادّعاء آخر، وهو ادّعاء أنّ ذلک الأثر الظاهر هو جمیع الآثار؛ حتّیٰ یصحّ إسناد الرفع باعتباره مع ترتّب سائر الآثار.
ولو سلّمنا ذلک لکن ما هو أظهر الآثار هنا هی الجزئیّة والشرطیّة والمانعیّة؛ لعدم المؤاخذة هنا؛ حتّی یقال: إنّها هی أظهر الآثار.
إذا عرفت ذلک فالحقّ جریان البراءة الشرعیّة فیما نحن فیه أیضاً ؛ حیث إنّ الأمر متعلّق بنفس الطبیعة المنحلّة إلی الأجزاء والشرائط وعدم الموانع، وهو
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 510
بحسب إطلاقه شامل لجمیع حالات المکلَّفین، کما عرفت ذلک فی الأمر الأوّل، وبعد ملاحظة حدیث الرفع وإسناده إلی النسیان، یکشف ذلک عن عدم تعلّق الإرادة الجدّیّة بالجزء المنسیّ حال النسیان؛ حیث إنّ المولی کان عالماً بذلک، ولم نعلم به؛ ولخفاء ذلک علینا حکمنا بالإطلاق والشمول لحال النسیان أیضاً، لکن بعد الاطّلاع علی حدیث الرفع، کشفنا به عن عدم تعلّق الإرادة الجدّیّة فی مقام جعل القانون والحکم الکلّی، الذی هو المصحّح لإسناد الرفع إلیه، وإلاّ فلیس فی الواقع حکم حتّی یسند الرفع إلیه، بل هو کالتخصّص، ولیس المراد رفع الحکم الثابت الذی تعلّقت به الإرادة الجدّیة أیضاً؛ کی یستشکل علیه: بأنّ مرجعه إلی النسخ المستحیل، کما أورده المیرزا النائینی قدس سره فی المقام علی البراءة الشرعیّة؛ وذلک لأنّه کما لایلزم من دلیل نفی الحرج ونحوه النسخ المستحیل، فکذلک لایلزم من حدیث الرفع ذلک.
وبذلک یظهر اندفاع جمیع الإشکالات التی أوردها المحقّق العراقی قدس سره:
ومنها : أنّه لابدّ أن یتعلّق الرفع بما تعلّق به الجعل، ومتعلّق الجعل هو طبیعة الجزء والشرط والمانع، والنسیان لا یتعلّق بالطبیعة، بل بالوجود والفرد الخارجی منها، ولا أثر لوجودها الخارجی ـ حتّی یسند الرفع إلیه بلحاظه ـ إلاّ الصحّة، وإسناد الرفع إلی الجزء المنسیّ بلحاظ أثر الصحّة یُنتج ماهو خلاف المقصود؛ حیث إنّ المقصود تصحیح الصلاة بحدیث الرفع، لا رفع صحّتها. انتهی.
وفیه : أوّلاً : أنّ النسیان أیضاً متعلّق بالطبیعة، فإنّ الناسی یذهل عن طبیعة الجزء والشرط، فیترک ما هو مصداقها الخارجی، کما أنّ متعلّق الجعل أیضاً هی الطبیعة، فمتعلّقهما واحد.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 511
والحاصل : أنّ الوجود والإیجاد یتوقّفان علی لحاظ الطبیعة، فغروب الطبیعة عن الذهن یصیر منشأً لعدم إیجاد فردها ومصداقها الخارجی.
وثانیاً : سلّمنا أنّ النسیان متعلّق بالوجود والمصداق الخارجی للجزء، لکن الفرد الخارجی عین الطبیعة مع الخصوصیّات، فیصحّ رفعه بلحاظ آثار الطبیعة، وأمّا الصحّة فلایمکن الرفع بلحاظها ؛ حیث إنّها من الآثار العقلیّة؛ لأنّها عبارة عن موافقة المأتیّ به للمأمور به، ولابدّ فی الأثر ـ الذی بلحاظه یُسند الرفع إلی ذیه ـ قابلیّته للوضع والرفع، والصحّة لیست کذلک.
ومن الإشکالات ما ذکره هو قدس سره أیضاً : وهو أنّ المرفوع لابدّ أن یکون قابلاً للإتیان به، وقدرةُ المکلّف علیه مع قطع النظر عن حدیث الرفع، وحینئذٍ فإن اُرید فی المقام رفع الجزء والشرط فی صورة النسیان من حیث دخلهما فی الملاک والمصلحة، فهو أمر تکوینیّ غیر قابل للرفع، وإن اُرید رفع الحکم التکلیفی ـ أی وجوب الجزء والشرط حال النسیان ـ فهو غیر قابل لذلک؛ حیث إنّ المکلّف لایتمکّن من الامتثال والإتیان به؛ لامتناع تکلیف الغافل. انتهی.
وفیه : أنّه منافٍ لما ذکره قُبیل هذا فی بیان عدم الفرق ـ فی استفادة الحکم الوضعی وانتزاعه ـ بین القول : بأنّ الحکم الوضعیّ مجعولٌ بنفسه بمثل: (لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب)، وبین القول بانتزاعه من الحکم التکلیفی من مثل «صلِّ مع الطهارة، أو السجود»، ومعه لا إشکال فی صحّة إسناد الرفع إلی الجزء بلحاظ آثاره الشرعیّة؛ لإمکان استفادة الجزئیّة منه حال النسیان.
ومنها ـ وهو المهمّ من الإشکالات فی المقام ـ ما ذکره هو والمیرزا النائینی ـ قدس سرهما ـ: وهو أنّ وجوب الصلاة تکلیف واحد لتعلُّق أمرٍ واحدٍ بها، لا تکالیف عدیدة، وغایة ما یستفاد من حدیث الرفع: هو رفع التکلیف الفعلی عن المجموع من
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 512
حیث المجموع، ولکن لایستفاد منه وضع الباقی ووجوبه؛ لأنّ الرفع لا یتکفّل الوضع، فحیث إنّه لایثبت ذلک بحدیث الرفع، فمقتضی المصالح النفس الأمریّة وملاکات الأحکام الشرعیّة، هو وجوب الإتیان بها ثانیاً وإعادتها تامّة الأجزاء بعد الذکر وزوال النسیان. انتهی.
واندفاع هذا الإیراد والإشکال أیضاً یظهر ممّا تقدّم؛ حیث إنّ حدیث الرفع لایرفع التکلیف الفعلی الذی تعلّقت به الإرادة الجدّیّة؛ لما عرفت من أنّه نسخ محال، بل الرفع متعلّق بالجعل القانونی، فهو کاشف عن عدم تعلّق الإرادة الجدّیة بالنسبة إلی الناسی، ولذلک قال: إنّه دفع فی الحقیقة لا رفع، وحینئذٍ فمع الحکم بعدم جزئیّة الجزء المنسیّ أو شرطیّته بالحدیث، یصیر الباقی مأموراً به بالجعل الأوّل، لا بحدیث الرفع؛ کی یقال: إنّ الحدیث لا یتکفّل الوضع.
وأمّا قیاس المیرزا النائینی قدس سره ما نحن فیه بما إذا لم یصلِّ أصلاً نسیاناً، وأنّه کما تجب الإعادة هناک، کذلک فی ما نحن فیه؛ أی ترک الجزء أو الشرط نسیاناً، فهو من الغرائب والأعاجیب؛ للفرق الواضح بین المقیس والمقیس علیه، فإنّه فی صورة الترک رأساً نسیاناً لم یأتِ بشیء حتّی یحکم بالإجزاء، بخلاف ما نحن فیه.
فتلخّص : أنّ الحقّ هو جریان البراءة الشرعیّة فی المقام.
هذا تمام الکلام فی النقیصة السهویّة.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 513