أدلّة جواز الارتکاب فی الشبهة الغیر المحصورة
فنقول : استدلّ الشیخ الأعظم قدس سره وغیره لجواز الارتکاب بوجوهٍ تبلغ ستّة:
الأوّل : الإجماع المدّعی علی ذلک، بل دعوی الضرورة علیه.
الثانی : أنّ المنع عن الارتکاب مستلزم للعسر والحرج المنفیّین فی الشریعة المقدّسة.
وقد عرفت أنّ البحث فی المقام إنّما هو مع قطع النظر عن ذلک، فلا وجه لهذا الوجه.
الثالث ـ وهو العمدة ـ : الأخبار الدالّة علی ذلک، مثل صحیحة عبدالله بن سنان، وروایة عبدالله بن سلیمان، فإنّهما إمّا تختصّان بالشبهة الغیر المحصورة أو تعمّانها والمحصورة، لکن لابدّ من تخصیصهما بغیر المحصورة؛ لما تقدّم سابقاً.
ومن هنا یظهر : ما فی إشکال الشیخ قدس سره فی المقام ودعواه: أنّ المراد أنّ جعل المیتة فی الجبن فی مکان واحد لایوجب الاجتناب عنه فی غیر ذلک المکان من
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 424
الأماکن، ولا کلام فی ذلک.
ومثل روایة أبی الجارود : قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الجبن، فقلت له: أَخْبَرَنی من رأی أنّه یجعل فیه المیّتة، فقال: (أمِن أجل مکانٍ واحدٍ یجعل فیه المیتة حرّم جمیع ما فی الأرضین؟! إذا علمت أنّه میتة فلا تأکله، وإن لم تعلم فاشترِ وبِع وکلْ، والله إنّی لأعترض السوق، فأشتری بها اللحم والسمن والجبن، والله ما أظنّ کلّهم یسمّون؛ هذه البربر وهذه السودان).
وهذه الروایة ـ مع قطع النظر عن ضعف سندها ـ ظاهرة فی جواز ارتکاب أطراف الشبهة الغیر المحصورة، ودلالتها تامّة.
وأمّا إشکال الشیخ قدس سره فی دلالتها بأنّ المراد من قوله علیه السلام: (أمِن أجل مکانٍ واحدٍ یجعل فیه المیتة ...) هو أنّ جعل المیتة فی مکان خارج عن محلّ الابتلاء، لایوجب الاجتناب عن جبن غیره من الأماکن، ولا کلام فیه، فإنّه حینئذٍ یصیر شبهةً بَدْویّة. انتهی.
لکن الإنصاف أنّه خلاف ظاهر الروایة ؛ حیث إنّ ظاهرها أنّه علیه السلام کان یعلم إجمالاً بعدم رعایة جماعة لشرائط الذبح، ومع ذلک کان یشتری ویأکل من تلک اللحوم.
وکذلک إشکاله قدس سره بأنّ المراد بقوله علیه السلام : (ما أظنّ کلّهم یسمّون) عدم وجوب تحصیل القطع أو الظنّ بالحلّیّة، بل یکفی فی جواز الأکل شراؤها من سوق المسلمین، فإنّه خلاف ظاهر الروایة أیضاً؛ لما عرفت من أنّها ظاهرة فی عدم
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 425
احتماله علیه السلام تسمیة کلّهم، بل کان قاطعاً بعدم تسمیة بعضهم.
ومنها : صحیحة الحلبی قال : قال أبو عبدالله علیه السلام : (کلّ رِباً أکله الناس بجهالة، ثمّ تابوا، فإنّه یقبل منهم إذا عرف منهم التوبة).
وقال علیه السلام : (لو أنّ رجلاً ورث من أبیه مالاً، وقد عرف أنّ فی ذلک المال رباً، ولکن قد اختلط فی التجارة بغیر حلال، کان حلالاً طیّباً فلیأکله، وإن عرف منه شیئاً أنّه رباً فلیأخذ رأس ماله ولیردّ الربا).
فإنّ القدر المتیقّن منها هی الشبهة الغیر المحصورة.
وغیر ذلک من الأخبار الدالّة علی ذلک، وقد نقلها السیّد قدس سره فی الحاشیة علی المکاسب فی مسألة جواز السلطان.
الرابع : ما أفاده شیخنا الاُستاذ الحائری قدس سره : وهو أنّ کثرة الأطراف توجب ضعف احتمال کون الحرام فی طرف خاصّ؛ بحیث لایعتنی به العقلاء، کما لو أخبر بموت واحد من أهل البلد، فإنّه لایضطرب من انتسب إلی بعض أهل ذلک البلد؛ من أبنائه أو إخوانه وغیرهم؛ لاحتمال أنّه من أقربائه.
والحاصل : أنّ کثرة الأطراف توجب الاطمئنان بعدم حرمة خصوص هذا الطرف أو ذاک، والأمارة العقلائیّة قائمة علی جواز الارتکاب.
ویؤیّد ذلک : أنّه قلّما یوجد أحد لیس له هذا النحو من العلم الإجمالی بوجود حرام أو نجس فی أطراف غیر محصورة؛ ممّا هو محلّ ابتلائه، ویفتقر إلیه فی معاشه، کالجبن واللحم والسمن ونحو ذلک، مع عدم اعتناء أحدٍ بذلک العلم الإجمالی، ولیس ذلک إلاّ لأجل ضعف الاحتمال جدّاً فی خصوص طرف من
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 426
الأطراف لکثرتها.
ثمّ أورد علی نفسه : بأنّه کیف یمکن اجتماع الاطمئنان بعدم حرمة کلّ واحد من الأطراف بالخصوص، مع العلم الإجمالی بوجود الحرام فیها وعدم خروجه عنها؟! وهل یجتمع العلم بالموجبة الجزئیّة مع الظنّ بالسلب الکلّی؟!
أقول : ما لا یمکن الاجتماع فیه هو العلم بحرمة واحد منها مع العلم بعدم حرمة کلّ واحد منها بنحو السلب الکلّی، ولکنّه لا ینافی الاطمئنان بعدم حرمة هذا بالخصوص وذاک.
ویمکن الإشکال فیه أیضاً : بأنّه یعلم بمخالفة إحدی هذه الأمارات العقلائیّة للواقع؛ حیث إنّها قائمة فی کلّ واحد من الأطراف مع العلم بحرمة أحدها، وهذا موجب لعدم الاعتماد علی تلک الأمارات.
ولکن یدفعه : أنّ هذا العلم الإجمالی أیضاً له أطراف غیر محصورة؛ بحیث یکون احتمال مخالفة کلّ واحدة منها بالخصوص للواقع ضعیفاً لا یعتنی به.
فالظاهر أنّ هذا الوجه صحیح کالوجه الثالث.
ثمّ إنّ لازم الوجه الأوّل ـ أی الإجماع والضرورة ـ عدم وجوب الموافقة القطعیّة، لا جواز المخالفة القطعیّة .
وأمّا الوجه الثالث المذکور ـ أی الاستدلال بالأخبار ـ فمقتضاه جواز المخالفة القطعیّة أیضاً؛ بارتکاب جمیع الأطراف حتّیٰ مع العزم علیه من الابتداء؛ لما عرفت: من أنّ مقتضی الأخبار رفع الید عن الحکم المعلوم بالإجمال.
فما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره : من جواز ارتکاب جمیع الأطراف لو اتّفق ذلک، لا مع العزم علیه من الابتداء، بل لو قصد ارتکاب ما هو المحرّم واقعاً ، یستحقّ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 427
العقوبة بارتکاب أوّل طرف منها؛ لکونه متجرّیاً، غیرُ مستقیم بناءً علی هذا الوجه، نعم هو صحیح بناءً علی الوجه الأخیر ـ أی الوجه الرابع الذی اخترناه أیضاً ـ لبقاء التکلیف المعلوم بالإجمال حینئذٍ وعدم رفع الید عنه، فلا یجوز العزم علی ارتکاب جمیع الأطراف ابتداءً، ولا العزم علی ارتکاب المحرّم الواقعی المعلوم إجمالاً، ویجوز إذا اتّفق ذلک، لا مع قصد ارتکاب المحرّم الواقعی، ولا مع العزم ابتداءً علی ارتکاب جمیع الأطراف؛ لأنّه عند ارتکاب کلّ واحد من الأطراف یطمأن بأنّ المعلوم غیره، وهکذا الطرف الآخر عند ارتکابه ، وعند ارتکاب الطرف الأخیر یطمأن بأنّه فی الأطراف الاُخر التی ارتکبها قبل ذلک، فیجوز ارتکابه أیضاً.
ثمّ إنّ الضابط فی عدم الحصر یختلف باختلاف الوجوه المتقدّمة لجواز الارتکاب:
فعلی الوجه الأوّل ـ أی الإجماع والضرورة ـ لابدّ من ملاحظة معقد الإجماع، وهو ما یصدق علیه الغیر المحصور عرفاً، وحدَّه بعضهم بما یعسر عدّه، فالمحصور ما لا یعسر عدّه.
وقیّده بعضهم ذلک: بزمان قلیل.
وعن المحقّق الثانی قدس سره : أنّ طریق ضبطه أن یقال : إنّه إذا لُوحظت العلیا من مراتب الأعداد کالألف ـ مثلاً ـ یقطع بأنّها غیر محصورة ، ویعسر عدّها عادةً فی زمان قصیر، فیجعل ذلک طرفاً، ولُوحظت المرتبة السفلی کالثلاثة، فإنّها محصورة قطعاً؛ لسهولة عدّها فی زمان قصیر، وما بینهما من الوسائط کلُّ مایجری مجری الطرف الأوّل یلحق به، ویحکم بأنّه غیر محصور، وما یجری مجری الطرف الثانی یلحق به، ویحکم بأنّه محصور، وما یشکّ فیه من المراتب یعرض علی القوانین
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 428
والنظائر.
وحیث إنّ هذا الوجه ضعیف لا ینبغی التعرّض له والبحث عنه.
وأمّا بناءً علی الوجه الثالث وهو الاستدلال لجواز الارتکاب بالأخبار المتقدّمة: فقد عرفت دلالتها علی جواز ارتکاب أطراف المعلوم بالإجمال مطلقاً، خرج منها ما یعدّ ذلک ترخیصاً وإذناً فی المعصیة. ویحکم بجواز ارتکاب ما سواه للأخبار المتقدّمة.
وأمّا بناءً علی الوجه الأخیر : ـ الذی حکیناه عن الاُستاذ الحائری قدس سره ـ فالضابط فی عدم الحصر علیه هی الشبهة التی یکون احتمال التکلیف فی خصوص کلّ واحدٍ من أطرافها ضعیفاً؛ لا یعتنی به العرف والعقلاء؛ ویُقدمون علی ارتکابه.
وقال المیرزا النائینی قدس سره : الضابط فی الغیر المحصورة أن لایمکن ارتکاب جمیع أطرافها عادةً؛ بأن تبلغ الأطراف حدّاً من الکثرة لایمکن جمعها عادةً فی الارتکاب واستعمالها فی الأکل والشرب، وهذا یختلف حسب اختلاف المعلوم بالإجمال:
فتارةً : یعلم بنجاسة حبّة من الحنطة فی ضمن حُقّة منها، فهی من المحصورة؛ لإمکان استعمال الحنطة بطحنه وجعله خبزاً وأکله.
واُخری : یُعلم بنجاسة إناء من لبن البلد، فهذا من الغیر المحصورة ولو لم تبلغ أوانی البلد ألفاً؛ لعدم التمکّن عادةً من استعمال جمیع الأوانی.
ومنه یظهر حکمها؛ وهو عدم حرمة المخالفة القطعیّة، وعدم وجوب الموافقة القطعیّة؛ لأنّ وجوبها فرع حرمة المخالفة القطعیّة، والمفروض عدمها. انتهی.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 429
أقول : یرد علیه :
أوّلاً : إنّه إن أراد من عدم إمکان الجمع بین الأطراف فی الارتکاب ـ فی ضابط الغیر المحصورة ـ عدم إمکانه دفعةً، فربّ شبهة محصورة کذلک، کالبالغة أطرافها عشرین إناءً مثلاً.
وإن أراد عدم إمکان ذلک ولو تدریجاً، فربّ شبهة غیر محصورة یمکن ارتکاب جمیع أطرافها کذلک.
وثانیاً : إنّ القدرة التی هی شرط للتکلیف عندهم، أو عذر عقلیّ علی ما اخترناه، إنّما هی فیما إذا لم یتمکّن المکلّف من فعل المأمور به أو ترک المنهیّ عنه، وأمّا الفعل الضروری الذی لایمکن ترکه فی الأوّل وفعله فی الثانی، فلا معنی للأمر به أو النهی عنه؛ لأنّه ضروریّ الفعل فی الأوّل، وضروریّ الترک فی الثانی، یفعله قهراً فی الأوّل ویترکه کذلک فی الثانی، کما فیما نحن فیه.
وثالثاً : لیس فیما نحن فیه أمرٌ بالجمع بین الأطراف وعدمه؛ کی یقال بعدم إمکان الجمع بین الأطراف، فلا تکلیف بحرمة المخالفة القطعیّة، بل التکلیف متعلّق بالخمر الواقعی، والعقل یحکم بوجوب اجتناب الأطراف؛ لئلاّ یقع فی محذور المخالفة للحرام الواقعی.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 430