البحث حول الروایات الواردة فی أطراف العلم الإجمالی
فنقول : روی محمّد بن یعقوب، عن محمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد بن عیسی، عن ابن محبوب، عن عبدالله بن سنان، عن عبدالله بن سلیمان قال: سألت أبا
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 378
جعفر علیه السلام عن الجبن، فقال علیه السلام : (سألتنی عن طعام یعجبنی)، ثمّ أعطی الغلام درهماً، فقال: (یا غلام ابتع لنا جبناً)، ثمّ دعا بالغذاء فتغذّینا معه، فأتیٰ بالجبن فأکل وأکلنا، فلمّا فرغنا من الغداء .
قلت : ما تقول فی الجبن؟
فقال : (أوَ لم ترنی آکله؟!).
قلت : بلیٰ ، ولکنّی اُحبّ أن أسمعه منک .
فقال علیه السلام : (ساُخبرک عن الجبن وغیره : کلّ ما کان فیه حلال وحرام فهو لک حلال حتّی تعرف الحرام بعینه فتدعه).
ونقل فی الوسائل هذه الکبریٰ الکلّیّة فقط عن البرقی فی المحاسن، عن الیقطینی، عن صفوان، عن معاویة بن عمّار، عن رجلٍ من أصحابنا، قال: کنت عند أبی جعفر علیه السلام، فسأله رجل عن الجبن، فقال أبو جعفر: (إنّه طعام یعجبنی، وساُخبرک عن الجبن وغیره: کلّ شیء فیه الحلال والحرام فهو لک حلال حتّیٰ تعرف الحرام، فتدعه بعینه).
ونقلها أیضاً فی أبواب ما یکتسب به عن محمّد بن علی بن الحسین، بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن عبدالله بن سنان، عن أبی عبدالله علیه السلام، قال: (کلّ شیء یکون فیه حلال وحرام فهو لک حلال أبداً حتّیٰ تعرف الحرام منه بعینه فتدعه).
وتحتمل هذه الکبری الکلّیّة وجوهاً ثلاثة :
الأوّل : أنّها ناظرة إلی خصوص أطراف العلم الإجمالی، ولا تشمل الشبهة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 379
البَدْویّة، وأنّ المراد من الشیء ما اختلط فیه الحلال والحرام.
الثانی : أنّها ناظرة إلی خصوص الشبهة البَدْویّة، وأنّ المراد : أنّ الطبیعة التی لها قسمان: أحدهما الحلال وثانیهما الحرام، کطبیعة اللحم الذی له قسمان: قسم حرام کلحم الخنزیر، وقسم حلال کلحم الغنم، فهذه الطبیعة لک حلال حتّی تعرف القسم الحرام بعینه، فما ذکره علیه السلام بیان لمنشأ الشکّ.
الثالث : أنّها شاملة للشبهات البدویّة والمقرونة بالعلم الإجمالی معاً.
وأمّا قوله علیه السلام : (بعینه) ففیه احتمالان :
أحدهما : أنّه تأکید للحرام، والمراد بالعرفان هو الأعمّ من التفصیلی والإجمالی.
وثانیهما : أنّه قید للمعرفة، وحینئذٍ فالمراد بالعرفان المأخوذ غایةً للحکم بالحلّیّة هو التفصیلی فقط.
والاحتمال الثانی المذکور أردأ الاحتمالات؛ حیث إنّ المناسب للشبهة البَدْویّة هو التعبیر بمثل : (الناس فی سعة ما لا یعلمون) أو (کلّ شیء هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام)، لا التعبیر المذکور فی تلک الکبری.
وأمّا الاحتمال الثالث : المراد منه الأعمّ من الشبهات البدویّة والمقرونة بالعلم الإجمالی، والمراد بالمعرفة بناءً علیه هی المعرفة التفصیلیّة بالنسبة إلی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی، والأعمّ منها ومن الإجمالیّة بالنسبة إلی الشبهات البَدْویّة.
ففیه : أنّ هذا التعبیر لا یناسب صدوره من الإمام علیه السلام؛ لأنّ مرجعه إلی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 380
الترخیص فی ارتکاب جمیع أطراف العلم الإجمالی إلی أن یتحقّق العلم التفصیلی بالحرام، والترخیص فی الشبهات البَدْویّة حتّی یحصل العلم بالحرام ولو إجمالاً، فإنّ مقتضی الأوّل الترخیص فی جمیع أطراف العلم الإجمالی، ومقتضی الثانی عدمه، فیلزم التناقض فی مدلول الروایة.
مضافاً إلی أنّ العرفان إنّما یطلق فی الجزئیّات إذا تمیّز الجزئی بجمیع خصوصیّاته الشخصیّة، ولا یطلق علی المردّد بین الفردین أو الأفراد، بل یطلق علیه العلم لا المعرفة، فمعرفة الشیء بعینه هو الذی یشار إلیه بالإشارة الحسّیّة، فالمتبادر من الروایة عرفاً هو إرادة أطراف العلم الإجمالی بالخصوص؛ أی الاحتمال الأوّل من الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة، وأنّ المراد بالمعرفة هی المعرفة التفصیلیّة، وأنّ المراد بالشیء : هو المختلط بالحرام والحلال.
لکن هنا إشکال آخر ـ مع قطع النظر عن مجهولیّة محمّد بن سلیمان؛ لاشتراکه بین الثقة والضعیف ـ وهو أنّ العلم الإجمالی بوجود الحرام فی الجبن إنّما هو لمکان الإنفحة التی اُخذت من المیتة ، والروایات متضافرة من أهل البیت علیهم السلام علی حلّیّته، لکن حیث إنّهم زعموا حرمتها بیّن الإمام علیه السلام جواز أکله بطریق آخر تنطبق هذه القاعدة علیه.
والحاصل : أنّ هذا البیان من الإمام علیه السلام إنّما هو لأجل عدم تسلیم الخصم حلّیّة الإنفحة، کما یظهر ذلک من روایة أبی حمزة عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث: أنّ قتادة قال له: أخبرنی عن الجبن.
فقال علیه السلام : (لا بأس به).
فقال : ربّما جُعِلت فیه إنفحة المیتة.
فقال علیه السلام : (لیس به بأسٌ؛ إنّ الإنفحة لیس لها عروق، ولا فیها دم، ولا لها
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 381
عظم، إنّما تخرج من بین فرث ودم، وإنّما الإنفحة بمنزلة دجاجة میتة اُخرجت منها بیضته، فهل تأکل تلک البیضة؟).
قال قتادة : لا، ولا آمر بأکلها.
قال أبو جعفر : (ولِمَ ؟).
قال : لأنّها من المیتة.
فقال علیه السلام : (فإن حضنت تلک البیضة فخرجت منها دجاجة أتأکلها؟).
قال: نعم.
قال: (فما حرّم علیک البیضة، وحلّل لک الدجاجة ...؟!) إلی آخره، فإنّه یظهر منها إنکارهم لحلّیّة الإنفحة، ولعلّ حکمه علیه السلام بحلّیّة الجبن مع العلم الإجمالی بجعل الإنفحة فی بعضها، لمکان حلّیّة الإنفحة، فمع العلم التفصیلی بجعل الإنفحة فی الجبن یجوز أکله حینئذٍ، فضلاً عن العلم الإجمالی بذلک فی بعض أفراد الجبن، وحینئذٍ فیشکل التمسّک بهذه الروایات لجواز ارتکاب أطراف العلم الإجمالی مطلقاً.
ومنها : ما رواه الکلینی قدس سره بإسناده عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبی عبدالله علیه السلام، قال: سمعته یقول: (کلّ شیء هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام بعینه، فتدعه من قِبل نفسک، وذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریته وهو سرقة، أو المملوک عندک ولعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خُدِع فبیع أو قُهر، أو امرأة تحتک وهی اُختک أو رضیعتک، والأشیاء کلّها علی هذا حتّیٰ یستبین لک غیر ذلک، أو تقوم به البیّنة).
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 382
وهذه الروایة ـ مع قطع النظر عن الأمثلة المذکورة فیها، والإشکال الآتی ـ ظاهرة فی أنّ کلّ مشتبه الحلّیّة والحرمة فهو محکوم بالحلّیّة، حتّی یعلم تفصیلاً أنّ ذلک الشیء بخصوصه حرام، فلا تشمل الغایةُ العلمَ الإجمالی، فإنّ العلم فی المعلوم بالإجمال لم یتعلّق بالشیء بخصوصه، بل العلم فیه متعلّق بأحد الشیئین أو الأشیاء بنحو التردید، فالروایة دالّة علی جواز ارتکاب أطراف المعلوم بالإجمال بالخصوص.
وعلیٰ فرض تسلیم شمولها للشبهات البَدْویّة یرد علیه إشکال لزوم التناقض المتقدّم علی ذلک الفرض فی الروایات الثلاث المتقدّمة.
ویرد علیها أیضاً : أنّ الحکم بالحلّیّة فی الأمثلة المذکورة فیها لیس مستنداً إلی هذه القاعدة، بل إلی مثل قاعدة الید وأصالة الصحّة فی فعل الغیر ونحوها المتقدّمة علی أصالة الحلّیّة، فلیست هی حینئذٍ فی مقام إفادة قاعدة الحلّیّة؛ لعدم انطباقها علی تلک الأمثلة المذکورة فیها.
وقد عرفت أنّه یشمّ من روایة عبدالله بن سلیمان رائحة التقیّة؛ لعدم انطباق قاعدة الحلّ علی موردها، فلم یعلم منها أنّ القاعدة مورد تأیید الإمام علیه السلام وتصدیقه؛ لاحتمال أنّ ذلک منه علیه السلام من جهة إلزام المخالف، فالعمدة فی المقام هی روایة عبدالله بن سنان الصحیحة سنداً، التامّة دلالةً علی الترخیص فی ارتکاب خصوص أطراف المعلوم بالإجمال.
لکن الإشکال فیها وفی الروایات المتقدّمة مضافاً إلی إعراض الأصحاب عنها، حتّیٰ أنّه ذکر صاحب الجواهر قدس سره أنّ أصحابنا لم یعملوا بهذه الأخبار إلاّ نادراً، وکذلک ابن إدریس ؛ حیث إنّه أوَّلَ کلام الشیخ قدس سره ـ الظاهر فی العفو فیما
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 383
إذا ارتکب أطراف العلم الإجمالی فی مسألة الربا ـ بأنّ مراده العفو من حیث الإثم، وأنّ ذلک یُعدّ فی العرف إذناً فی المعصیة وارتکاب الحرام؛ حیث إنّ إطلاق دلیل حرمة الخمر ـ مثلاً ـ یشمل المعلوم منه بالإجمال فی الشبهة المحصورة، وإعراض الأصحاب عنها إنّما هو لذلک؛ أی: لأنّه إذن فی المعصیة عند العرف والعقلاء وإن لم یکن کذلک عقلاً.
نعم لا مانع من شمولها للشبهة الغیر المحصورة، التی یُعدّ کلّ واحد من أطرافها کالشبهة البدویّة، فیجوز ارتکاب أطرافها لهذه الروایات.
هذا فی الشبهات الموضوعیّة کما هی مورد هذه الروایات کالجبن.
وأمّا الشبهات الحکمیة : فقد تکلّف بعضهم الاستدلال لجواز ارتکاب أطرافها بقوله علیه السلام : (کلّ شیء فیه حلال وحرام...) إلی آخره أیضاً، وقد عرفت فساده.
هذه هی الروایات الواردة فی المقام بنحو العموم.
وأمّا الأخبار الواردة فی خصوص بعض الموارد ـ کالواردة فی خصوص اشتباه مال الربا بغیره، أو المأخوذ من بنی اُمیّة والظلمة، ونحو ذلک ـ فلا یستفاد منها قاعدة کلّیّة شاملة لجمیع موارد الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی، بل
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 384
علیٰ فرض العمل بها فی موردها الخاصّ فهو لخصوصیّة فی تلک الموارد اقتضت ذلک، فإنّ فی کلّ واحد منها مباحث ومسائل خاصّة لا یناسب التعرّض لها فی المقام.
فتلخّص : أنّه لا یصحّ التمسّک بأصالة الحِلّ لجواز ارتکاب أطراف الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی.
وأمّا أصالة البراءة فلا تشمل أدلّتها أیضاً لأطراف المعلوم بالإجمال ، مثل: (ماحجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم)، أو قوله علیه السلام: (رفع ما لایعلمون)، أو حدیث السعة، ونحو ذلک من أدلّة البراءة؛ لأنّ المتبادر منها هو الترخیص فی الشبهات البَدْویّة، لا المقرونة بالعلم الإجمالی.
مضافاً إلی قیام الحجّة إجمالاً علیٰ وجوب الاجتناب فی أطراف هذه الشبهة، فعلی فرض شمول تلک الأخبار لأطرافها ـ من جهة الشکّ وعدم العلم ـ فهی لاتقتضی رفع المعلوم بالإجمال؛ لأنّه نظیر تعارض المقتضی مع اللامقتضی.
هذا مع أنّه فرق بین عدم العلم المأخوذ فی «مالایعلمون» ونحوه، وبین عدم العلم فی أطراف المعلوم بالإجمال، فإنّ عدم العلم فی الأوّل هو عدم العلم البسیط، بخلاف أطراف المعلوم بالإجمال، فإنّ المشتبه والمردّد فیه هو المعلوم، وإلاّ فالعلم فیه موجود محقّق.
وبالجملة : أنّ «ما لا یعلمون» عبارة عن العرف والعقلاء عن المشکوک، والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی لیست من قبیل المشکوک، بل تعدّ من المعلوم،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 385
فلا تشملها الأدلّة.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 386