المطلب السادس الأمارات المعتبرة عقلاًوشرعاً

عنوان «النسیان»

عنوان «النسیان»

فمنها النسیان :‏ وهو قد یتعلّق بالحکم الشرعی الاستقلالی، وقد یتعلّق‏‎ ‎‏بالحکم الضمنی، وقد یتعلّق بالحکم الوضعی، مثل الجزئیّة والشرطیّة والمانعیّة، أو‏‎ ‎‏العربیّة والماضویّة فی العقد.‏

وقد یتعلّق بالموضوع الخارجی :‏ إمّا بنفس الموضوع، کما لو نسی الإتیان‏‎ ‎‏بالصلاة، وإمّا بجزئه أو شرطه أو مانعه، کما لو نسی السورة أو الطهارة أو أوجد‏‎ ‎‏المانع نسیاناً.‏

‏أمّا نسیان الحکم : فقد تقدّمت الإشارة إلیٰ أنّه فی صورة الغفلة عن الحکم‏‎ ‎‏رأساً رفعه عقلیّ؛ بمعنیٰ رفع المؤاخذة عنه، وأنّه لا یختصّ ذلک بهذه الاُمّة، فلابدّ‏‎ ‎‏فی تصحیح الحکم برفعه شرعاً فی خصوص الاُمّة المرحومة امتناناً علیهم، أن‏‎ ‎‏یفرض ذلک فیما لا یحکم العقل بقبح المؤاخذة علیه، کما فی النسیان الناشئ عن‏‎ ‎‏المسامحة وقلّة المبالاة وترک التحفّظ وتقصیر المکلّف، فإنّه یصحّ ـ حینئذٍ ـ ادّعاء‏‎ ‎‏رفعه شرعاً بانتفاء الآثار المترتّبة علیه فی الشرائع السابقة من المؤاخذة وإیجاب‏‎ ‎‏التحفّظ.‏

‏وأمّا النسیان المتعلِّق بالجزء والشرط وغیرهما، فلابدّ من البحث فیه فی‏‎ ‎‏مقامین:‏

الأوّل :‏ فی شمول حدیث الرفع لجمیع الأقسام أو بعضها أو عدم شموله.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 236
الثانی :‏ فی الإجزاء بعد فرض شمول الحدیث لجمیع الأقسام.‏

‏وهذان المقامان ممّا وقع الخلط بینهما فی کلام المیرزا النائینی‏‎[1]‎‏ والمحقّق‏‎ ‎‏العراقی‏‏ ـ قدس سرهما ـ‏‏ ‏‎[2]‎‏ ولکن لابدّ من التفکیک بینهما فنقول :‏

أمّا المقام الأوّل :‏ فذهب المیرزا النائینی ‏‏قدس سره‏‏ إلی شمول الحدیث لما إذا نسی‏‎ ‎‏الجزئیّة والشرطیّة والمانعیّة وما إذا نسی المانع، دون ما إذا نسی الجزء أو الشرط‏‎ ‎‏لوجوه:‏

الأوّل :‏ ما تقدّم من أنّ الحدیث لا یشمل رفع الاُمور العدمیّة؛ لأنّ رفع العدم‏‎ ‎‏وضع، والحدیث لا یتکفّل الوضع، والمفروض أنـّه لم یأتِ بالجزء أو الشرط، وخُلوّ‏‎ ‎‏صفحة الوجود عنهما.‏

الثانی :‏ أنّ الآثار المترتّبة علی الجزء والشرط لیست إلاّ الإجزاء وصحّة‏‎ ‎‏الصلاة والعبادة، وهما من الآثار العقلیّة له لا الشرعیّة، ویحتاج الرفع التشریعی إلیٰ‏‎ ‎‏الأثر الشرعی.‏

الثالث :‏ أنّه مع الغضّ عن ذلک لا یمکن أن یقال : إنّ رفع السورة المنسیّة إنّما‏‎ ‎‏هو بلحاظ رفع أثر الإجزاء والصحّة، فإنّ ذلک یقتضی عدم الإجزاء وفساد العبادة،‏‎ ‎‏وهو یُنافی الامتنان، ویُنتج عکس المقصود، فإنّ المقصود من التمسُّک بحدیث الرفع‏‎ ‎‏تصحیح العبادة لا فسادها.‏

أقول :‏ قد تقدّم الجواب عمّا ذکره فی وجه اختصاص الحدیث برفع الاُمور‏‎ ‎‏الوجودیّة وعدم شموله للاُمور العدمیّة، ونقول ـ أیضاً ـ : إنّ متعلّق النسیان فی‏‎ ‎‏الفرض هو وجود السورة أو الشرط لا عدمهما، والرفع هنا ادّعائیّ، ولا إشکال فی‏‎ ‎‏صحّة ادّعاء رفع المنسیّ، وهو الجزء والشرط بلحاظ الجزئیّة والشرطیّة، ولم یتعلّق‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 237
‏بالأمر العدمی، وقد عرفت أنّ الرفع فی الحدیث متعلّق بکلّ واحد من العناوین‏‎ ‎‏الکلّیّة ـ ومنها عنوان النسیان ـ لا الأفراد الخارجیّة منها التی تنطبق علیها هذه‏‎ ‎‏العناوین، وحینئذٍ فیندفع جمیع الوجوه التی ذکرها ‏‏قدس سره‏‏ فإنّ ادّعاء رفع السورة بلحاظ‏‎ ‎‏جزئیّتها عند النسیان تقتضی الإجزاء والصحّة، فلا ینتج خلاف المقصود والامتنان،‏‎ ‎‏والجزئیّةُ والشرطیّة ـ أیضاً ـ من الآثار الشرعیّة.‏

نعم هنا إشکال آخر :‏ وهو أنّ الجزئیّة والشرطیّة من العناوین المنتزعة عن‏‎ ‎‏الأمر المتعلّق بالصلاة المرکّبة من أجزاء عشرة ـ مثلاً ـ فینتزع منه جزئیّة کلّ واحد‏‎ ‎‏من الأجزاء، ورفع الجزئیّة والشرطیّة لا یصحّ إلاّ برفع منشأ انتزاعها، وهو الأمر‏‎ ‎‏الکلّی المتعلّق بالمرکّب، ومقتضیٰ رفعه عدم الصحّة والإجزاء، وهو خلاف المقصود‏‎ ‎‏والامتنان.‏

ولکنّه مندفع :

‏أمّا أوّلاً :‏‏ فلأنّ التحقیق أنّ الجزئیّة والشرطیّة من الأحکام الوضعیّة التی هی‏‎ ‎‏مجعولة مستقلاًّ، ولیست من الاُمور المنتزعة.‏

وثانیاً :‏ أنّ حدیث الرفع لیس إلاّ مثل حدیث (‏لاتُعاد...)‎[3]‎‏ وأدلّة نفی العسر‏‎ ‎‏والحرج‏‎[4]‎‏؛ فی حکومة کلّ واحد منها علیٰ الأدلّة المتکفّلة لبیان الأحکام الأوّلیّة،‏‎ ‎‏وتخصیص الأمر الصلاتی المتعلّق بعشرة أجزاء مثلاً بغیر الناسی للجزء أو الشرط،‏‎ ‎‏ومقتضاه صحّة الصلاة وإجزاؤها مع نسیانه.‏

وأمّا الکلام فی المقام الثانی :‏ وهو إجزاء الصلاة المأتیّ بها المفروض نسیان‏‎ ‎‏جزئها أو شرطها:‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 238
فقال المیرزا النائینی والمحقّق العراقی‏ ـ قدس سرهما ـ‏ :‏ إنّ النسیان لو لم یستوعب جمیع‏‎ ‎‏الوقت، وتذکّر قبل خروج الوقت، فلا یقتضی حدیث الرفع عدم وجوب الإعادة بعد‏‎ ‎‏التذکّر وإِجزاء المأتیّ به؛ لأنّ حدیث الرفع لا یدلّ إلاّ علیٰ رفع جزئیّة المنسیّ‏‎ ‎‏ما دام النسیان، وأمّا بعد التذکّر فلا یدلّ علیه، فمقتضیٰ عدم إتیانه بالمرکّب التامّ بعد‏‎ ‎‏التذکّر، وبقاء المصلحة الواقعیّة التامّة الداعیة إلیٰ المرکّب التامّ الغیر المستوفاة، هو‏‎ ‎‏حدوث التکلیفِ بالإعادة والأمرِ بالمرکّب التامّ جدیداً‏‎[5]‎‏. انتهیٰ.‏

وممّا ذکرنا ظهر ما فیه؛‏ حیث عرفت أنّ مقتضیٰ حکومة الحدیث علیٰ الأدلّة‏‎ ‎‏الأوّلیّة المتکفّلة للأحکام الواقعیّة هو الإجزاء وعدم وجوب الإعادة فی الفرض،‏‎ ‎‏ولیس هنا أمران تعلّق أحدهما بعشرة أجزاء بالنسبة إلیٰ الذاکر، وبتسعة أجزاء‏‎ ‎‏بالنسبة إلی الناسی، بل لیس فیه إلاّ أمر واحد، وهو ‏‏«‏أَقِم الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ‎ ‎إلیٰ غَسَقِ اللّیْلِ‏»‏‎[6]‎‏ لجمیع المکلّفین، ویدلّ حدیث الرفع علیٰ أنّ جزئیّة المنسیّ‏‎ ‎‏ساقطة بالنسیان، ومقتضیٰ سقوطها عن الجزئیّة، هو کفایة الإتیان بسائر الأجزاء‏‎ ‎‏وعدم وجوب الإعادة بعد التذکّر، وإلاّ فلیس لجمیع المکلّفین ـ القادرین والعاجزین‏‎ ‎‏والذاکرین والناسین وغیرهم ـ إلاّ أمر واحد متعلّق بطبیعة الصلاة، وکلّ یمتثل ذلک‏‎ ‎‏الأمر.‏

‏نعم لو نسی الإتیان بأصل الصلاة فحدیث الرفع إنّما یرفع المؤاخذة علیه، ولا‏‎ ‎‏یرفع وجوب الإتیان بها فی الوقت ووجوب قضائها خارج الوقت بعد التذکّر؛ لعدم‏‎ ‎‏إتیانه بشیء حتیٰ یحکم بإجزائه؛ لأنّ المفروض أنّه ترکها بالکلّیّة.‏

وظهر ممّا ذکرنا ـ أیضاً ـ ما فی کلام المیرزا النائینی ‏قدس سره‏‏ : من أنّه کما لو نسی‏‎ ‎‏أصل الصلاة لا یقتضی حدیث الرفع الإجزاء، وعدمَ وجوب الإتیان بها فی بقیّة‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 239
‏الوقت بعد التذکّر، کذلک لو ترک جزءً منها‏‎[7]‎‏.‏

‏وذلک لما عرفت من الفرق بینهما، فإنّه لم یأتِ فی الأوّل بشیءٍ حتیٰ یحکم‏‎ ‎‏بالإجزاء، بخلاف الثانی، فإنّ المفروض أنّه أتیٰ بالصلاة، لکن نسی جزءً منها أو‏‎ ‎‏أکثر غیر الأرکان؛ بحیث یصدق علیها الصلاة.‏

وقال المحقّق العراقی فی باب الاشتغال :‏ إنّ المکلّف لم یترک طبیعة الحمد‏‎ ‎‏ـ مثلاً ـ نسیاناً حتّیٰ یقتضی حدیث الرفع الإجزاء، بل المفروض أنّه نسی فرداً منها،‏‎ ‎‏ولا یقتضی نسیانُه الإجزاء‏‎[8]‎‏.‏

‏وفیه : أنّه لاریب فی أنّ الناسی إنّما نسی طبیعة الحمد، لا فرداً منها.‏

وأمّا ما أفاده المیرزا النائینی ‏قدس سره‏‏: من أنّه إن کان المدرک لصحّة الصلاة الفاقدة‏‎ ‎‏لجزء أو شرط نسیاناً هو حدیث الرفع، لزم صحّة الصلاة بمجرّد نسیان الجزء أو‏‎ ‎‏الشرط مطلقاً من غیر فرق بین الأرکان وغیرها؛ لعدم إمکان استفادة التفصیل بینهما‏‎ ‎‏من حدیث الرفع.‏

‏ویؤیّد ذلک : أنـّه لم یُعهد من الفقهاء التمسُّک بحدیث الرفع لصحّة الصلاة‏‎ ‎‏وغیرها من سائر المرکّبات، بل المتمسَّک به لها هو خبر (لاتعاد) المفصِّل بین‏‎ ‎‏الأرکان وغیرها من الأجزاء والشرائط‏‎[9]‎‏.‏

ففیه :‏ أنّه لیس حدیث الرفع ممّا لا یقبل التخصیص، ولیس المراد التمسّک‏‎ ‎‏بحدیث الرفع لصحّة الصلاة مع نسیان مطلق الأجزاء والشرائط بدون استثناء‏‎ ‎‏وتخصیص، فإنّه عامّ یمکن تخصیصه بغیر الأرکان بحدیث (‏لاتعاد...‏)، بل خبر‏‎ ‎‏(لاتعاد) ـ أیضاً ـ مخصَّص بغیر تکبیرة الإحرام.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 240
وأمّا ما ذکره :‏ من عدم معهودیّة التمسّک بحدیث الرفع فی المقام من الفقهاء.‏

ففیه :‏ أنّه تمسّک السیّد المرتضیٰ ‏‏قدس سره‏‏ فی مسألة نسیان السلام بحدیث الرفع،‏‎ ‎‏وحکم بکلّیّة ذلک فی الأحکام‏‎[10]‎‏ ـ علیٰ ما ببالی ـ وکذلک السیّد أبو المکارم ابن‏‎ ‎‏زهرة‏‎[11]‎‏ والعلاّمة‏‎[12]‎‏ والمقدّس الأردبیلی‏‎[13]‎‏ ـ قدّست أسرارهم ـ هذا کلّه فی‏‎ ‎‏العبادات.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 241

  • )) فوائد الاُصول 3 : 353 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 218 .
  • )) الفقیه 1 : 181 / 17، وسائل الشیعة 3 : 227، کتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 9، الحدیث1.
  • )) البقرة (2) : 185 ، الحج (22) : 78 .
  • )) فوائد الاُصول 3 : 355 ، ونهایة الأفکار 3 : 221 .
  • )) الإسراء (17) : 78 .
  • )) فوائد الاُصول 4 : 226 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 429 .
  • )) فوائد الاُصول 3 : 355 .
  • )) المسائل الناصریات، ضمن الجوامع الفقهیة : 235 مسألة 94 سطر 27 .
  • )) الغنیة ، ضمن الجوامع الفقهیة : 504 سطر 13.
  • )) اُنظر منتهی المطلب 1 : 413 سطر 33 .
  • )) مجمع الفائدة والبرهان 3 : 133 .