الأمر الثالث : فی شمول الحدیث للموضوعات الخارجیة والشبهات الحکمیة
أنّ «ما لا یعلمون» الذی هو محلّ الاستدلال فی المقام هل یختصّ بالموضوعات الخارجیّة، أو أنّه مختصّ بالشبهات الحکمیّة، أو أنّه یعمّهما؟ وجوه.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 229
فذکر الشیخ الأعظم والمحقّق الخراسانی ـ قدس سرهما ـ أنّه مختصّ بالموضوعات الخارجیّة؛ لوجوه :
الأوّل : أنّه بعدما فرض أنّ المقدّر هو خصوص المؤاخذة لابدّ أن یُراد من الموصول فی «ما لا یعلمون» هو خصوص الموضوعات؛ لأنّه لا معنیٰ للمؤاخذة علیٰ نفس الحکم.
الثانی : أنّه لاریب فی أنّ المراد من «ما اضطُرّوا إلیه» و أخواته هو الموضوع الخارجی ـ أی فعل المکلّف ـ لعدم معقولیّة الإکراه والاضطرار علیٰ نفس الحکم، فهو قرینة علی أنّ المراد من «ما لا یعلمون» ـ أیضاً ـ هو الموضوعات.
الثالث : ما ذکره فی «الکفایة» من أنّ إسناد الرفع إلیٰ الموضوعات إسناد إلیٰ غیر ما هو له، وإسناده إلی الأحکام إسناد إلیٰ ما هو له، وحیث إنّ إسناده فی غیر «مالایعلمون» إسناده إلیٰ غیر ما هو له ـ أی الموضوعات ـ فمقتضیٰ وحدة السیاق أنـّه فی «ما لا یعلمون» ـ أیضاً ـ کذلک، ولا یمکن إرادتهما معاً؛ لاستلزامه استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً واحد فی استعمال واحد، وهو محال.
أقول : أمّا الوجه الأوّل : فهو مبنیّ علیٰ لزوم التقدیر، وأنّ المقدّر هو خصوص المؤاخذة، وحیث إنّک قد عرفت عدم الاحتیاج فی الحدیث إلیٰ التقدیر، وأنّ الرفع فیه ادّعائیّ لا حقیقیّ، فلا وجه لما ذکراه، ولا موقع له.
وأمّا الوجه الثانی : فالتحقیق فی الجواب عنه ما ذکره شیخنا الحائری قدس سره: وهو أنّ مقتضیٰ وحدة السیاق هو إرادة الأعمّ ـ من الموضوعات والأحکام ـ من
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 230
الموصول فی «ما لا یعلمون»؛ لأنّ عدم تحقّق الإکراه والاضطرار فی الأحکام وعدم تصوُّره، لایوجب تخصیص «ما لا یعلمون» بالموضوعات، ولیس هو مقتضیٰ السیاق ، فإنّ عموم الموصول وعدمه إنّما هو بملاحظة سعة متعلّقه وضیقه، فقوله: (ما اضطُرّوا إلیه) یعنی کلّ ما اضطرّ إلیه المکلّف فی الخارج، غایة الأمر أنّه لا یتصوّر الاضطرار ولا یتحقق بالنسبة إلی الأحکام، فمقتضیٰ وحدة السیاق هو أن یُراد من الموصول فی «مالایعلمون» کلّ فردٍ فردٍ من هذا العنوان؛ ألا تریٰ أنّه لو قیل : «کلّ ما یؤکل وما یُریٰ» لا یوجب انحصارُ أفراد الأوّل فی الخارج ببعض الأشیاء تخصیصَ الثانی ـ أیضاًـ بذلک؟!.
أضف إلیٰ ذلک : أنّ المرفوع فی الحدیث هو عنوان «ما اضطُرّوا إلیه»، والموصول فی «ما لا یعلمون» ـ أیضاً ـ کذلک؛ ینطبق علیٰ جمیع أفراد الجهل؛ من غیر فرق فی ذلک بین الأحکام والموضوعات، ولیس الموصول مستعمَلاً فی الأفراد حتیٰ لا یمکن الجمع بینهما، فمنشأ الاشتباه: هو عدم الفرق بین استعمال اللفظ فی شیء وبین انطباق المستعمل فیه علیه، والموصول فی الحدیث لیس مستعملاً فی الأفراد الخارجیّة ـ کما ذکرناه آنفاً ـ بل هو مستعمل فی معناه المبهم؛ سواء اُخذ فیه الإشارة أم لا، وهو منطبق علیٰ الأفراد طبعاً.
وهذا الاشتباه صار منشأً لما ذکروه من أنّ الخاصّ والمقیّد أظهر دلالة علیٰ مدلولهما من العامّ والمطلق، مع أنّ کلّ واحد من مفردات ألفاظ قولنا: «أکرم کلّ عالم، ولا تکرم العالم الفاسق» مستعمل فی معناه الموضوع له مادّة وهیئةً، فإنّ مادّة الإکرام فی «أکرم» هی التی فی «لا تکرم»، وهیئة الأمر لا تفید إلاّ البعث، کما أنّ هیئة النهی لا تفید إلاّ الزجر، والعالم ـ أیضاً ـ مستعمل فی معناه فی کلیهما، والفاسق ـ أیضاً ـ مستعمل فی معناه، فلیس فی الخاصّ ما یوجب أظهریّته من العامّ، وهکذا
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 231
الکلام فی المطلق والمقیّد ومنشأ الاشتباه هو کثرة أفراد العامّ بالنسبة إلیٰ أفراد الخاصّ، فالعامّ مستعمل فی مفهومه کالعلماء، کما أنّ الخاصّ ـ مثل العلماء الفسّاق ـ أیضاً مستعمل فی مفهومه، غایة الأمر أنّ العامّ منطبق علیٰ أفراد کثیرة، والخاصّ علیٰ أفراد أقلّ بالنسبة إلیٰ أفراد العامّ، فیتوهّم من ذلک أظهریّة الخاصّ من العامّ.
وأمّا الوجه الذی ذکره فی «الکفایة» : فإمّا أن یرید ممّا ذکر ـ من أنّ إسناد الرفع إلی الحکم إسناد إلیٰ ما هو له ـ أنّ الحکم مرفوع واقعاً وحقیقة بالنسبة إلی الشاکّ، فلیس له حکم أصلاً، فلا أظنّ أن یلتزم هو قدس سره به.
وإن أراد رفعه ادّعاءً، لا حقیقة وواقعاً، بل مسامحة باعتبار انتفاء آثاره، فهو إسناد إلیٰ غیر ما هو له، ولیس إسناد الرفع إلیه بهذا النحو إسناداً إلیٰ ما هو له؛ حتّیٰ یخالف السیاق، فما أفاده فی هذا الوجه غیر مستقیم.
وذهب بعضهم إلیٰ اختصاص «ما لا یعلمون» بالشبهات الحکمیّة لوجهین:
الوجه الأوّل : ما ذکره المیرزا النائینی فی مقام الجواب عن الوجه الثانی والثالث اللذین ذکروهما لاختصاص حدیث الرفع بالموضوعات، وهو أنّ المرفوع فی جمیع هذه الأشیاء التسعة هو الحکم الشرعی، وإضافة الرفع فی غیر «ما لا یعلمون» إلیٰ الأفعال الخارجیّة، إنّما هو لأجل أنّ الإکراه والاضطرار ونحوهما إنّما تعرض الأفعال، لا الأحکام کما ذکر، وإلاّ فالمرفوع فیها هو الحکم الشرعی، کما أنّ المرفوع فی «ما لایعلمون» ـ أیضاً ـ هو الحکم الشرعی ـ وهو المراد من الموصول ـ ومجرّد اختلاف منشأ الجهل ـ وأنّه فی الشبهات الحکمیّة إجمال النصّ أو فقدانه أو تعارض النصّین، وفی الشبهات الموضوعیّة اختلاطُ الاُمور الخارجیّة ـ لا یوجب الاختلاف فیما اُسند إلیه الرفع. انتهیٰ.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 232
وذکر المحقّق العراقی قدس سره ذلک فی الجواب عن الوجه الثانی.
أقول : إنّ ما أفاداه فی المقام لا ارتباط له بما ذکروه، فضلاً عن أن یکون جواباً عن الوجهین؛ وذلک لأنّ وحدة السیاق إنّما هی فی مقام الاستعمال والإرادة الاستعمالیة، ولاریب فی أنّ الرفع اُسند بحسب الاستعمال فی «ما اضطُرّوا إلیه» و «ما استُکرِهوا علیه» إلی الموضوع الخارجی، وهو فعل المکلّف لا غیر، غایة الأمر أنّ المرفوع بحسب الجدّ واللُّبّ هو الحکم والأثر، وکونه بحسب الجدّ کذلک غیر مربوط بقضیّة السیاق الذی ذکراه؛ لما عرفت من أنّ قضیّة السیاق إنّما هی فی الإرادة الاستعمالیة، وحاصل ما ذکروه : هو أنّه کما أنّ الموصول فی «ما استُکرهوا» وأخواته مستعمل فی رفع الموضوعات الخارجیّة بحسب الإرادة الاستعمالیّة، واُسند الرفع إلیهما، فمقتضیٰ السیاق استعماله فی «مالایعلمون» ـ أیضاً ـ کذلک، ولا یدفع ذلک ما أفاداه: من أنّ المرفوع بحسب الجدّ هو الحکم فی الجمیع.
وأجاب المحقّق العراقی عن الوجهین الأخیرین لاختصاص «مالایعلمون» بالموضوعات : بأنّا لا نُسلِّم وحدة السیاق أوّلاً، ویشهد له إسناد الرفع فی الثلاثة الأخیرة إلیها، وهی لیست من الأفعال.
وثانیاً : علیٰ فرض وحدة السیاق فهی تقتضی أن یُراد من «ما لایعلمون» خصوص الحکم التکلیفی، لا الموضوع الخارجی؛ لأنّ مقتضیٰ إسناد الرفع إلیٰ ما یتعلّق به الاضطرار أو الإکراه ـ أوّلاً وبالذات حقیقةً ـ هو إسناده فی «مالایعلمون» ـ أیضاً ـ إلیٰ ما یتعلّق به الجهل أوّلاً وبالذات، وهو الحکم، فإنّه المجهول حقیقةً وبالذات، لا شرب المائع المردّد بین الخمر والخلّ، فإنّ الشرب لیس مجهولاً إلاّ بسبب إضافته إلیٰ الموضوع الخارجی المجهول أوّلاً وبالذات، وهو المائع، فمقتضیٰ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 233
وحدة السیاق هو أن یُراد من «ما لا یعلمون» هو خصوص الحکم. انتهیٰ.
ویرد علیه :
أوّلاً : بأنّ الحسد والطِّیَرة والوسوسة وإن لم تکن من الأفعال الجوارحیّة، لکنّها من الأفعال الجوانحیّة، ولذا یحرم بعض أقسام الحسد، وهکذا الطِّیَرة والوسوسة، لولا حدیث الرفع.
وثانیاً : أنّ الفعل الخارجی ـ کشرب المائع المردّد بین الخمر والخلّ ـ وإن لم یتّصف بالمجهولیّة استقلالاً، بل بتبع مجهولیّة ما یُضاف إلیه، لکن اتّصافه بالمجهولیّة لیس بالعرض ـ بل هو متّصف بالمجهولیّة حقیقة بتبع اتّصاف المائع الخارجی بالمجهولیّة، وذلک کالنور والجسم المتنوّر به، فإنّ الجسم المتنوّر وإن لم یتّصف بذلک استقلالاً، لکنّه متنوّر حقیقةً بسبب النور وبتبعه، وهکذا ما نحن فیه، فالجهل بالمائع الخارجی واسطة لثبوت الجهل للشرب حقیقة، لا أنّه واسطة فی العروض.
الوجه الثانی ـ لبیان اختصاص الرفع فی «مالا یعلمون» بالشبهات الحکمیّة ـ ما أفاده بعض الأعاظم: وهو أنّ المشکوک فی الشبهات الموضوعیّة لیس هو الحکم؛ لأنّ الحکم الکلّی فیها معلوم متعلّق بالطبیعة، والاشتباه فیها إنّما هو لاختلاط الاُمور الخارجیّة، وکالاشتباه الواقع بین الإناءین ـ مثلاً ـ ولیس للأفراد الخارجیّة حکم شرعیّ حتّیٰ یتعلّق به الرفع، وحینئذٍ فالرفع فی «ما لا یعلمون» مختصّ بالشبهات الحکمیّة. انتهیٰ.
ویرد علیه النقض أوّلاً : ب «ما اضطُروا إلیه» و «ما استُکرهوا علیه»، فإنّه لاریب فی أنّ المراد بالموصول فیهما هو الموضوع الخارجی.
وثانیاً : بالحلّ بأنّ الرفع لیس متعلِّقاً برفع خصوص المائع المردّد الخارجی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 234
حتّیٰ یورد علیه بعدم ثبوت حکم له، بل حدیث الرفع مثل قاعدة الطهارة والحِلّ، متعلّق بنفس العناوین، فهو حاکم علیٰ الأدلّة المتکفّلة لبیان الأحکام الأوّلیة الواقعیّة، فکما أنّ مفاد قاعدة الطهارة وأمثالها جعلُ حکمٍ ظاهریّ فی الموارد المشکوکة، کذلک حدیث الرفع، وأنّ مفاده : أنّ البیع والطلاق ونحوهما علیٰ قسمین: قسم یقع بالإکراه أو الاضطرار، وهذا القسم لا أثر ولا حکم له، وقسم یقع بالاختیار، فتترتّب علیه الآثار، فهو حاکم علیٰ مثل «أَحَلَّ الله ُ الْبَیْعَ» ونحوه.
و «ما لا یعلمون» ـ أیضاً ـ کذلک، فالرفع فیه متعلّق بعنوان «ما لا یُعلم» المنطبق علیٰ الأحکام والموضوعات معاً، ومفاده بالنسبة إلیٰ الموضوعات تخصیص الحکم بحرمة الخمر بما إذا عُلم أنّه خمر.
نعم فرق بین الموضوعات والأحکام من حیث إنّه لا یمکن تقیید الأدلّة ـ المتکفّلة للأحکام الواقعیّة الأوّلیّة ـ بغیر الجاهل، وأنّ معنیٰ الرفع بالنسبة إلیها عدم فعلیّتها، کما ذکره فی «الکفایة»، أو معنیً آخر؛ بحیث لا ینافی ثبوت الأحکام الواقعیّة المشترکة بین العالم والجاهل، وهذا التقیید ممکن بالنسبة إلی الموضوعات، فإنّه یمکن تقیید حرمة الخمر بما إذا عُلم أنّه خمر، لکن حیث إنّه لم یقُلْ به أحد نحن ـ أیضاً ـ نقتفی آثارهم لذلک، لا لأجل استحالته.
وثالثاً : بالتزام انحلال الأحکام عرفاً وتعدّدها بتعدّد موضوعاتها، فإنّ العرف یریٰ أنّ لکلّ فرد من أفراد الخمر حکماً مستقلاًّ من الحرمة تختصّ به، لا الانحلال الخطابی الذی أنکرناه سابقاً.
فظهر بذلک : أنّه لا وجه لتخصیص «ما لا یعلمون» بالشبهات الحکمیّة، کما أنّه لا وجه لتخصیصه بالشبهات الموضوعیّة، بل یعمّهما.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 235