المطلب السادس الأمارات المعتبرة عقلاًوشرعاً

الفصل الأوّل أدلّة عدم حجّـیّة خبر الواحد

الفصل الأوّل أدلّة عدم حجّـیّة خبر الواحد

‏ ‏

‏واستدلّ الأوّلون بالأدلّة الأربعة :‏

فمن الکتاب :‏ قوله تعالیٰ : ‏‏«‏إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإنّ الظَّنَّ لایُغنی مِنَ الْحَقِّ‎ ‎شَیْئاً‏»‏‎[1]‎‏، وقوله تعالیٰ: ‏‏«‏وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ‏»‏‎[2]‎‏، وقوله تعالیٰ فی ذیل‏‎ ‎‏آیة النبأ : ‏‏«‏أنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ‏»‏‎[3]‎‏؛ حیث إنّ خبر الواحد لا یفید إلاّ الظنّ،‏‎ ‎‏والعمل به عمل بغیر علم وعمل بجهالة، فتشمله الآیات المذکورة.‏

والتحقیق فی الجواب :‏ أنّ الاستدلال بها مستلزم للمحال، وأنّه یلزم من‏‎ ‎‏الاستدلال بها عدم صحّة الاستدلال بها؛ وذلک لأنّ قوله تعالیٰ : ‏‏«‏إِنَّ الظَّنَّ‎ ‎لایُغْنی‏»‏‏ .‏

‏وغیره ـ کالقضیّة الحقیقیّة ـ یشمل جمیع أفراد الظنون، ومنها ظواهر هذه‏‎ ‎‏الآیات، فلا یصحّ الاستدلال بها.‏

فإن قلت :‏ یمکن أن یقال بخروج الظنّ الحاصل من هذه الآیات عن عمومها‏‎ ‎‏أو إطلاقها؛ تخلّصاً عن الإشکال وفراراً عن لزوم الاستحالة المذکورة، وتبقیٰ سائر‏‎ ‎‏أقسام الظنون ـ التی منها خبر الواحد ـ تحتها .‏

قلت :‏ لا ینحصر طریق التخلّص عن الاستحالة بما ذکرتَ، بل یمکن‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 151
‏التخلُّص عنها بالقول بخروج بعض الظنون ـ الذی قام الدلیل الخاصّ علیٰ حجّیّته،‏‎ ‎‏مثل الظواهر وخبر الواحد ـ عن مفاد الآیات.‏

فالتخلّص عن الإشکال :‏ إنّما هو فی أنّ الآیات لا تشمل مثل الظواهر وخبر‏‎ ‎‏الواحد وأصالة الصحّة فی فعل الغیر ونحوها، التی استقرّ بناء العقلاء فی جمیع‏‎ ‎‏الأعصار والأمصار علیٰ العمل بها، وبقاءُ نظامهم واُمور معاشهم وسوقهم مبنیٌّ علیٰ‏‎ ‎‏ذلک، ولا یعتنون باحتمال الخلاف فیها، فإنّهم کثیراً مّا یشترون من السوق ما‏‎ ‎‏یحتاجون إلیه، ولا یخطر ببالهم احتمال کونه سرقة، ولیس ذلک إلاّ لأجل أنّ الید‏‎ ‎‏أمارة علیٰ الملکیّة، مع أنّها لاتفید إلاّ الظنّ.‏

‏ویشهد لذلک : أنّه لم تتغیّر عاداتهم وبناؤهم علیٰ ذلک بعد نزول هذه الآیات،‏‎ ‎‏ولم یختلّ سوقهم وسائر ما بنوا علیه؛ من العمل بخبر الواحد وأصالة الصحّة فی‏‎ ‎‏فعل الغیر ونحوهما من الظنون، بل استمرّوا علی العمل بهذه الظنون الخاصّة کما‏‎ ‎‏کانوا یعملون بها قبل نزول هذه الآیات، ولیس ذلک إلاّ لعدم تبادر هذه وأمثالها من‏‎ ‎‏الظنّ وغیر العلم الذی اُخذ فی موضوع هذه الآیات.‏

وما أجاب به عنها بعض :‏ بأنّها راجعة إلیٰ الاُصول الاعتقادیّة، لا الفروع‏‎ ‎‏الفقهیّة‏‎[4]‎‏.‏

‏فیه : أنّه وإن صحّ فی مثل قوله تعالیٰ : ‏‏«‏إنَّ الظَّنَّ لایُغنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً‏»‏‎ ‎‏بقرینة سیاقها، لکنّه لا یصحّ فی مثل قوله تعالیٰ: ‏‏«‏وَلا تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ‏»‏‎ ‎‏ونحوه ممّا یعمّ الظنّ فی الفروع لو لم نقل باختصاصها بها.‏

ثمّ إنّه ذکر المحقّق الخراسانی والاُستاذ الحائری‏ ‏‏ـ قدس سرهما ـ‏‏ فی مقام الجواب عن‏‎ ‎‏الاستدلال بالآیات: أنّ الدلیل علیٰ حجّیّة خبر الواحد: إمّا الروایات، وإمّا السیرة‏‎ ‎‏العقلائیّة:‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 152
‏أمّا الروایات فهی حاکمة علیٰ هذه الآیات؛ لأنّ هذه الآیات لا تُعیِّن‏‎ ‎‏موضوعها؛ وأنّ هذا ظنّ دون ذاک، ومقتضیٰ الروایات هو إلغاء احتمال الخلاف فی‏‎ ‎‏خبر الواحد وجعله عِلْماً فی عالم التشریع.‏

‏وأمّا السیرة العقلائیّة فیمکن ورودها علیٰ الآیات ، ولا أقلّ من حکومتها‏‎ ‎‏علیها‏‎[5]‎‏.‏

‏وزاد المیرزا النائینی ‏‏قدس سره‏‏ أنّه لا یمکن أن یقال : إنّ هذه الآیات رادعة عن‏‎ ‎‏السیرة العقلائیّة؛ لاستلزامه الدور؛ لأنّ الردع بها یتوقّف علیٰ عدم مخصِّصیّة السیرة‏‎ ‎‏للآیات، وهو موقوف علیٰ ردع الآیات عنها، وهو محال‏‎[6]‎‏. انتهیٰ ملخّصاً.‏

أقول :‏ وفیما ذکروه إشکال؛ لأنّ الأخبار الواردة فی حجّیّة خبر الواحد هی‏‎ ‎‏مثل (‏العَمری وابنُهُ ثقتان؛ فما أدّیا الیک عنّی فعنّی یؤدّیان)‎[7]‎‏ ونحوها التی هی فی‏‎ ‎‏مقام توثیق بعض الرواة ـ کما تقدّمت إلیه الإشارة ـ لا فی مقام إیجاب العمل بأخبار‏‎ ‎‏الآحاد.‏

‏سلّمنا ذلک، لکنّها معارَضَة بالآیات ومخصِّصة لها، لا أنّها حاکمة علیها؛ لأنّ‏‎ ‎‏الحکومة: عبارة عن أن یکون أحد الدلیلین ناظراً إلی الدلیل الآخر ومفسِّراً له،‏‎ ‎‏ولیس لسان هذه الأخبار أنّ خبر الواحد علمٌ تعبّداً؛ لتکون حاکمة علی الآیات.‏

‏وأمّا السیرة العقلائیّة فلا نُسلّم ورودها علی الآیات ـ أیضاً ـ ولا حکومتها :‏

‏لأنّ الورود : عبارة عن خروج شیء عن موضوع دلیل حقیقةً تعبّداً، کما لو‏‎ ‎‏قیل : «لاتقفُ ما لیس لک فیه حجّة» ـ کما لا تبعد إرادة ذلک من العلم فی الآیة‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 153
‏الشریفة ـ ودلّ دلیل آخر علیٰ حجّیّة خبر الواحد تعبّداً، فإنّ الدلیل الثانی ـ حینئذٍ ـ‏‎ ‎‏وارد علی الأوّل؛ حیث إنّه أخرج خبر الواحد عن موضوع الأوّل بجعله حجّةً واقعاً‏‎ ‎‏تعبّداً، والسیرة المذکورة لیست کذلک بالنسبة إلی الآیات.‏

‏وأمّا الحکومة فقد عرفت أنّها تحتاج إلی اللسان والشرح والتفسیر لفظاً‏‎ ‎‏للدلیل الآخر، والسیرة من الاُمور اللُّبّیّة التی لا لسان لها، فإنّهم اعترفوا بأنّ المراد‏‎ ‎‏من الظنّ وعدم العلم المأخوذ فی موضوع الآیات هما الاصطلاحیّان، وحینئذٍ فلا‏‎ ‎‏یتحقّق هناک ورود ولا حکومة.‏

وأمّا ما أفاده المیرزا النائینی ‏قدس سره‏‏ من لزوم الدور ففیه : أنّ عدم مخصّصیّة‏‎ ‎‏السیرة للآیات وإن یتوقّف علیٰ ردع الآیات عنها، لکن ردع الآیات عنها لایتوقّف‏‎ ‎‏علیٰ عدم تخصیصها لها، فإنّ الآیات المذکورة قطعیّة السند، ولها ظاهر مستقلّ فی‏‎ ‎‏الدلالة لا تحتاج فی دلالتها إلی شیء، فالحقّ فی الجواب هو ما ذکرناه من انصراف‏‎ ‎‏الآیات عن مثل هذه الظنون بالتفصیل المتقدّم، أو تخصیص الآیات بأدلّة حجّیّة خبر‏‎ ‎‏الواحد.‏

ویمکن الجواب بوجهین آخرین‏ تکون أدلّة حجّیّة خبر الواحد واردة علی‏‎ ‎‏الآیات المذکورة بناءً علیهما :‏

أحدهما :‏ أنّه لیس المراد من العلم فی قوله ‏‏«‏لا تقفُ مالَیْسَ لکَ بِهِ عِلْم‏»‏‏ هو‏‎ ‎‏العلم الوجدانی القطعی، بل المراد منه الحجّة، فمعناه: لا تقفُ ما لیس لک به حجّة؛‏‎ ‎‏وذلک لأنّه لو کان الواجب فی الشریعة هو اتّباع العلم الوجدانی، یلزم منه إهمال‏‎ ‎‏کثیر من أحکام الشریعة بل أکثرها؛ لأنّه قلّما توجد مسألة من المسائل الفرعیّة‏‎ ‎‏یحصل القطع بها بالخبر المتواتر ونحوه ممّا یفید العلم، بل أکثرها ثبت بأخبار‏‎ ‎‏الآحاد، ولا یمکن إیجاب تحصیل العلم بها، وکذلک أجزاء الصلاة وشرائطها‏‎ ‎‏ونحوها من العبادات.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 154
‏والقول بالتخصیص ـ أیضاً ـ غیر صحیح؛ لأنّه تخصیص مستهجن، فلا‏‎ ‎‏محیص إلاّ أن یُراد منها الحجّة ، وحینئذٍ فالأدلّة الدالّة علیٰ حجّیّة خبر الواحد‏‎ ‎‏واردة علی الآیات الدالّة علی النهی عن العمل بغیر العلم ـ أی الحجّة ـ وهو معنیٰ‏‎ ‎‏الورود.‏

ثانیهما :‏ أن یُراد من العلمِ فی الآیات العلمُ الوجدانی، وأخبار الآحاد وإن‏‎ ‎‏کانت ظنّیّة السند، لکنّها قطعیّة الحجّیّة؛ بمعنیٰ أنّها یُحتجّ بها عند المخاصمة‏‎ ‎‏واللجاج بین الموالی والعبید قطعاً، ولا یعذر العبد لو ترک العمل بخبر الثقة معتذراً‏‎ ‎‏بأنّه ظنّیّ، وکذلک المولیٰ.‏

والحاصل :‏ أنّ حجّیّتها معلومة مقطوع بها‏‎[8]‎‏؛ لأنّ مستندها هو العلم لا الظنّ،‏‎ ‎‏وحینئذٍ فهی واردة علی الآیات.‏

وأمّا الأخبار التی استدلّوا بها علی المنع عن العمل بأخبار الآحاد فهی علیٰ طوائف :

‏منها :‏‏ ما وردت فی ترجیح أحد الخبرین المتعارضین، وهی عدّة أخبار غیر‏‎ ‎‏مربوطة بالمقام، مثل مقبولة عمر بن حنظلة‏‎[9]‎‏.‏

ومنها :‏ الأخبار الدالّة علیٰ طرح الخبر المخالف للکتاب، مثل خبر السکونی‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 155
‏وهشام بن الحکم وجمیل بن درّاج‏‎[10]‎‏.‏

ومنها :‏ الأخبار الدالّة علی النهی عن العمل بما لا یُوافق کتاب الله کخبری‏‎ ‎‏أیوب بن راشد وأیوب بن الحرّ وغیرهما‏‎[11]‎‏.‏

ومنها :‏ الأخبار الدالّة علیٰ حرمة العمل بما لیس علیه شاهد أو شاهدان من‏‎ ‎‏کتاب الله ‏‎[12]‎‏.‏

ومنها :‏ الأخبار الناهیة عن العمل بخبر الواحد من غیر علم، مثل مکاتبة‏‎ ‎‏محمّد بن عبدالله بن جعفر الحمیری‏‎[13]‎‏، ومثل خبر بصائر الدرجات عن داود بن‏‎ ‎‏فرقد، قال: کتبتُ إلیه عن العلم المنقول عن آبائک وأجدادک قد اختلفوا علینا فیه،‏‎ ‎‏کیف العمل به علی اختلافه ... ؟‏

‏فکتب ‏‏علیه السلام‏‏ بخطّه : (‏ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردّوه‎ ‎إلینا )‎[14]‎‏ إلی غیر ذلک من الأخبار المذکورة فی الباب المذکور.‏

أقول :‏ ولیعلم أنّه لا یصحّ الاستدلال لحجّیّة أخبار الآحاد ولا لعدم حجّیّتها‏‎ ‎‏بأخبار الآحاد إلاّ مع تواتر الخبر، ولا تواتر لفظیّ فی الباب ولا معنویّ؛ لاختلاف‏‎ ‎‏تلک الأخبار لفظاً ومعنیً؛ لما عرفت من أنّها علیٰ طوائف، بل المتواتر من الأخبار‏‎ ‎‏قلیل جدّاً؛ لأنّه یشترط فی التواتر بلوغ جمیع طبقات الرواة فی سند الروایة حدّاً‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 156
‏یمتنع تواطؤهم علیٰ الکذب، ویفید العلم بالصدور وعلی فرض تحقّق هذا الشرط‏‎ ‎‏قبل المشایخ الثلاثة ـ رضوان الله تعالیٰ علیهم ـ فی طبقات الرواة فی بعض الأخبار‏‎ ‎‏لم یتحقّق فی طبقتهم، فإنّ نقل مثل الکلینی والصدوق والشیخ ـ رحمهم الله ـ أو‏‎ ‎‏جمیعهم أخباراً متواترة لا یفیدنا القطع بذلک؛ لأنّه متواتر منقول بخبر الواحد، فهو‏‎ ‎‏نقل التواتر، لا التواتر بالوجدان، غایة الأمر أنّا متعبّدون بالقبول منهم ـ قدّست‏‎ ‎‏أسرارهم ـ لکنّه لا یُفید العلم؛ لاحتمال الخطاء والاشتباه والنسیان منهم، مضافاً إلیٰ‏‎ ‎‏أنّ کثیراً من الأخبار المذکورة فی الکتب الأربعة بطرق متعدّدة، خبرُ واحدٍ ؛ لانتهاء‏‎ ‎‏سند جمیعها إلیٰ راوٍ واحد، مثل ابن أبی عمیر ونحوه.‏

‏نعم یمکن دعویٰ التواتر الإجمالی فیما نحن فیه؛ بمعنیٰ أنّا نعلم إجمالاً‏‎ ‎‏بصدور بعض من الطوائف المذکورة المختلفة، وحینئذٍ فیصحّ التمسُّک بأخصّها‏‎ ‎‏مضموناً، وهو الخبر الدالّ علیٰ طرح المخالف لکتاب الله ، فإنّه ینطبق علیه جمیع‏‎ ‎‏العناوین المذکورة فیها، وحینئذٍ نقول فی معنیٰ المخالفة لکتاب الله احتمالات :‏

الأوّل :‏ أن یُراد منها خصوص المخالفة بنحو التباین لا غیر.‏

الثانی :‏ أن یُراد منها الأعمّ منها ومن المخالفة بنحو العموم من وجه.‏

الثالث :‏ أن یُراد منها الأعمّ منهما ومن المخالفة بنحو العموم والخصوص‏‎ ‎‏المطلق أو الإطلاق والتقیید.‏

‏لا إشکال فی فساد الأخیر والعلم بأنّه لیس المراد منها ذلک المعنیٰ الأعمّ؛‏‎ ‎‏لقوله تعالیٰ: ‏‏«‏وَلَوْ کَانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ الله ِ لَوَجَدُوا فِیه اختلافاً کثیراً‏»‏‎[15]‎‏؛ حیث دلّ‏‎ ‎‏علیٰ أنّه لیس فی القرآن اختلاف لأنّه من عند الله ، مع کثرة وجود المخالفة فیه بنحو‏‎ ‎‏العموم والخصوص المطلق والإطلاق والتقیید ، فعُلم من ذلک أنّه لا یُعدّ ذلک‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 157
‏مخالفة؛ لنفیه تعالیٰ المخالفة فیه مع وجود مثل : ‏‏«‏أَحَلَّ الله ُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا‏»‏‎[16]‎‏.‏

فالتحقیق :‏ أنّه وإن تصدق المخالفة بین العموم والخصوص والمطلق والمقیّد‏‎ ‎‏فی المحاورات العرفیّة والکتب المصنَّفة، لکنّه لایُعدّ ذلک مخالفة فی مقام جعل‏‎ ‎‏القوانین الکلّیّة، فإنّ المرسوم المتعارف فی ذلک المقام هو جعل القوانین الکلّیّة أوّلاً،‏‎ ‎‏ثمّ الإتیان بالمخصِّصات والمقیِّدات تدریجاً بحسب المصالح المقتضیة لذلک، ولا‏‎ ‎‏یُعدّ ذلک مخالفة فیه، ولهذا یلزم فی تعریف التعارض بین الخبرین التقیید بکون ذلک‏‎ ‎‏التعارض فی مقام جعل القوانین.‏

والشاهد علیٰ ما ذکرناه :‏ صدور أخبار کثیرة من الأئمّة المعصومین ‏‏علیهم السلام‏‏ مع‏‎ ‎‏أنّها أخصّ من بعض العمومات الواقعة فی الکتاب المجید، أو مقیِّدة لإطلاقاتها‏‎ ‎‏الواقعة فیه، بل قلّما توجد آیة فی کتاب الله تعالیٰ إلاّ وقد خُصِّصت أو قُیِّدت‏‎ ‎‏بالأخبار، فلاریب فی عدم شمول عنوان المخالفة للمخالفة بنحو العموم‏‎ ‎‏والخصوص المطلقین أو بنحو الإطلاق والتقیید، والقدر المتیقّن منها هی المخالفة‏‎ ‎‏بنحو التباین الکلّی، ویحتمل شموله للمخالفة بنحو العموم من وجه أیضاً.‏

وأمّا الإشکال علیه :‏ بأنّه لا یصحّ حمل المخالفة علیٰ المخالفة بنحو التباین؛‏‎ ‎‏لعدم صدور الأخبار المباینة للکتاب من الکذّابین؛ لعدم قبولها منهم‏‎[17]‎‏.‏

‏ففیه : أنّ غرض الکذّابین ومقصودهم من الدسّ فی الأخبار الصادرة‏‎ ‎‏منهم ‏‏علیهم السلام‏‏: إمّا صَرْف الناس عنهم، وإزالة اعتقادهم والتباس أمرهم عند المسلمین‏‎ ‎‏أو إزالة اعتقادهم بالکتب المشتملة علیٰ أخبارهم ‏‏علیهم السلام‏‏ لئلاّ یتمسّکوا بها، وهذا‏‎ ‎‏المقصود أهمّ المقاصد عندهم، والغرضُ من جعل الأخبار المکذوبة المباینة لکتاب‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 158
‏الله تعالیٰ، نظیر ما نقل فی بعض هذه الأخبار‏‎[18]‎‏ من قرار الأرض علی قرن ثور،‏‎ ‎‏والثور علیٰ ظهر حوت، ونحوها من الأخبار الواضحة الفساد.‏

‏مضافاً إلی أنّ العمل بالخبر الذی علیه شاهد أو شاهدان من الکتاب لیس‏‎ ‎‏عملاً بالخبر، بل هو عمل بالکتاب، فلابدّ من حمل هذه الأخبار علیٰ باب‏‎ ‎‏التعارض.‏

‏وکذلک یحتمل أن یُراد من عدم الموافقة لکتاب الله ـ کما فی طائفة اُخریٰ‏‎ ‎‏من الروایات المشار إلیها ـ هی المخالِفة له، کما هو المتبادِر من مثل قولنا: «فلانٌ‏‎ ‎‏لایُوافقنا فی کذا»، فإنّ المقصود أنّه مخالف.‏

فتلخّص :‏ أنّ الاستدلال بالأخبار لعدم حجّیّة أخبار الآحاد فاسد،‏‎ ‎‏کالاستدلال له بالإجماع المنقول.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 159

  • )) النجم (53) : 28 .
  • )) الإسراء (17) : 36 .
  • )) الحجرات (49) : 6 .
  • )) کفایة الاُصول : 339، فوائد الاُصول 3 : 160 .
  • )) اُنظر حاشیة فرائد الاُصول، المحقق الخراسانی: 72 سطر 3، ودرر الفوائد : 393 ـ 394.
  • )) فوائد الاُصول 3 : 161 ـ 162 .
  • )) الکافی 1 : 265 / 1، وسائل الشیعة 18: 99، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب11، الحدیث 4 .
  • )) ویمکن الإشکال علی ذلک : بأنّ العلم بحجّیّتها موقوف علیٰ العلم بعدم ردع الشارع عن العمل بالظنّ.     وبعبارة اُخریٰ : من مبادئ حصول العلم بحجّیّة أخبار الآحاد العلم بعدم رادعیّة الآیات عن السیرة العقلائیّة، ومع احتمال ذلک لا یحصل العلم بالحجّیّة؛ لأنّ مجرّد استقرار السیرة العقلائیّة علیٰ العمل بأخبار الآحاد غیر کافٍ فی حجّیّتها، بل لابدّ من العلم بإمضاء الشارع لها وعدم ردعه عنها، فمع احتمال الردع عنها بالآیات المذکورة لا یحصل العلم بالحجّیّة. المقرّر حفظه الله .
  • )) الکافی 1 : 54 / 10، وسائل الشیعة 18: 75، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب9 ، الحدیث 1 .
  • )) الکافی 1 : 55 و 56 / 1 و5، وسائل الشیعة 18: 78 و 79 و 84 و86، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 9 ، الحدیث 10 و 15 و 29 و 35.
  • )) الکافی 1 : 55 / 3 و 4، وسائل الشیعة 18: 78 و 79، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 9 ، الحدیث 12 و 14 .
  • )) الکافی 1 : 55 / 2 و 2: 176 / 4، وسائل الشیعة 18: 78 و80، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 9، الحدیث 11 و18 .
  • )) الاحتجاج 2: 568 / 355، وسائل الشیعة 18 : 87 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی، الباب 9، الحدیث 39 .
  • )) بصائر الدرجات : 524 / 26 .
  • )) النساء (4) : 82 .
  • )) البقرة (2) : 275 .
  • )) اُنظر فوائد الاُصول 3 : 163 .
  • )) اُنظر الکافی 8 : 75 / 55، وبحار الأنوار 10 : 12 / 7 .