جواب الشیخ الأعظم قدس سره عن شبهة «ابن قبة» بناءً علی السببیة
ثمّ إنّ الشیخ الأعظم قدس سره تصدّیٰ لدفع الإشکال؛ بناءً علیٰ أنّ حجّیّة الأمارات علیٰ السببیّة، والالتزام بالمصلحة التدارکیة وتبعه المیرزا النائینی قدس سره وحاصل ما ذکراه بعد الجواب عنه بناء علیٰ الطریقیة هو :
أنّه وإن أبیت ذلک کلّه، وقلت : إنّ فی التعبّد بالأمارة تفویتاً للمصلحة، فلنا أن نلتزم بالسببیّة علیٰ وجهٍ تُتدارک المصلحة الفائتة علیٰ اُصول الُمخطّئة؛ من دون أن یلزم التصویب الباطل.
وتفصیل ذلک : هو أنّ سببیّة الأمارة لحدوث المصلحة تُتصوّر علیٰ وجوه ثلاثة :
الأوّل : أنّها سبب لحدوث مصلحةٍ فی المؤدّیٰ تستتبع الحکم علیٰ المؤدّیٰ، وأنّ ما وراء المؤدّیٰ لیس حکماً فی حقّ من قامت عنده الأمارة، وحینئذٍ فالأحکام الواقعیّة مختصّة بالعالم بها، ولیس فی حقّ الجاهل بها سویٰ مؤدّیات الطرق والأمارات، وحینئذٍ فالأحکام الواقعیّة تابعة لآراء المجتهدین، وهذا هو التصویب
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 88
الأشعری، الذی قامت الضرورة علیٰ خلافه، وقد ادُّعی تواتر الأخبار علیٰ ثبوت الأحکام الواقعیّة المشترکة بین العالم والجاهل.
الثانی : أنّ الأمارة سبب لحدوث مصلحة فی المؤدّیٰ أقویٰ من مصلحة الواقع، وأنّ الحکم الفعلی عند من قامت لدیه الأمارة هو المؤدّیٰ، ولکن فی الواقع أحکام یشترک فیها العالم والجاهل علیٰ طبق المصالح والمفاسد النفس الأمریّة، إلاّ أنّ قیام الأمارة علیٰ الخلاف من قبیل الطوارئ والعوارض والعناوین الثانویّة اللاّحقة للموضوعات الأوّلیّة المغیّرة لجهة حسنها وقبحها.
وهذا الوجه هو التصویب المعتزلی، ویتلو الوجه السابق فی الفساد والبطلان؛ لانعقاد الإجماع علیٰ أنّ قیام الأمارة لا تغیّر الواقع عمّا هو علیه بوجهٍ من الوجوه.
الثالث : أنّ قیام الأمارة سبب لحدوث مصلحة فی السلوک؛ یعنی سلوک الطریق والعمل به علیٰ أنّه هو الواقع، وتطبیق العمل علیٰ مؤدّاها وترتیب الآثار الواقعیّة علیه، وبهذا المصلحة السلوکیّة یُتدارک ما فات من المصلحة الواقعیّة بسبب قیام الأمارة علیٰ خلافه. انتهیٰ حاصل کلامهما ـ قدس سرهما.
أقول : لیس المراد من السلوک والعمل بالطریق هو الالتزام القلبی قطعاً، بل المراد منه البناء العملی علیه والإتیان بمؤدّیٰ الأمارة بما هو مؤدّیٰ الأمارة، ومن حیث الاعتماد علی قول زرارة ـ مثلاً ـ وخبره، ولاریب فیأنّ الإتیان بمؤدّیٰ الأمارة عین المأتیّ به وجوداً وإن تغایرا مفهوماً، فلو ترتّب علیٰ الإتیان بالمأمور به مصلحة أقویٰ من مصلحة الواقع؛ بحیث یُتدارک بها مصلحة الواقع الفائتة أو تُجبر مفسدته،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 89
وینقلب الحکم الواقعی؛ لأنّه ـ حینئذٍ ـ مغلوب للحکم الذی هو مؤدّیٰ الأمارة، وأنّ الحکم الفعلی هو ما أدّت إلیه الأمارة، فهو عین ما نُسب إلیٰ المعتزلی من التصویب الباطل، الذی قام الإجماع وادُّعی تواتر الأخبار علیٰ خلافه.
وثانیاً : لیس للشارع جعل مستقلّ فی الأمارات ، بل معنیٰ حجّیّة الأمارات شرعاً هو إمضاء الشارع لطریقة العقلاء وبنائهم علیٰ العمل بها، ولیس حجّیّتها شرعاً إلاّ بما هی حجّة عند العقلاء، ولا ریب فی أنّ بناء العقلاء علیها لیس إلاّ لمجرّد أنّها طریق إلیٰ الواقع وکاشفة عنه، لا لأجل ترتُّب مصلحة علیٰ سلوکها ونفس العمل بها، فلا یناسب ما أفاداه هنا ما ذکراه ـ فی أنّ وجه حجّیّتها هو بناء العقلاء علیها ـ مع أنّ کثیراً من رواة أخبارنا من النواصب أو الواقفیّة الذین بعضهم من النواصب بالنسبة إلیٰ الأئمة الذین هم بعد من وقفوا علیه علیه السلام لکنّهم موثَّقون من حیث الصدق والکذب، وأیّ معنیً لترتّب المصلحة علیٰ الاعتماد علیٰ أخبار هؤلاء والاعتناء بهم.
وثالثاً : لو کان الأمر کذلک فلابدّ وأن یُلتزم به فی الإخبار عن غیر الأحکام الشرعیّة من المطالب الدنیویّة، مع أنّهما لایلتزمان بذلک.
ورابعاً : لو تمّ ذلک لجریٰ فی جمیع الأمارات، حتّیٰ الدالّة علیٰ الاستحباب أو الکراهة أو إباحة شیء، فلابدّ أن یجب العمل بها، فلا یوجد المباح والمستحبّ ـ حینئذٍـ ویحرم العمل علیٰ الأمارة الدالّة علیٰ کراهیّة شیء؛ لترتّب مصلحة مُلزمة علیٰ سلوک الأمارات کلّها أو مفسدة کذلک.
هذا کلّه بالنسبة إلیٰ لزوم اجتماع المصلحة والمفسدة.
وأمّا إشکال لزوم اجتماع الضدّین من التعبُّد بالأمارات، فتوضیحه : أنّه إن کان حکم صلاة الجمعة واقعاً هو الحرمة، وقامت الأمارة علیٰ وجوبها أو استحبابها أو غیرهما من الأحکام، یلزم اجتماع الوجوب والحرمة فی صلاة الجمعة واقعاً أو
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 90
اجتماع الوجوب والاستحباب... وهکذا، وهو اجتماع الضدّین فی موضوع واحد؛ لتضادّ الأحکام الخمسة، وهو ناشٍ عن التعبّد بالأمارات.
وفیه : أنّ الضدّین أمران وجودیّان غیر متضایفین، یتعاقبان علیٰ موضوع واحد، ولا یجتمعان، بینهما غایة الخلاف.
ولاریب فی أنّ الوجوب والحرمة وغیرهما من الأحکام الشرعیّة ، اُمور اعتباریّة منتزعة عن البعث والزجر، اللذین یُنشئهما الحاکم بهیئة الأمر أو النهی الموضوعتین لذلک، وهذا الأمر الاعتباری له إضافة اعتباریّة إلیٰ المأمور به، وإضافة اعتباریّة إلیٰ الآمر، مع أنّ الضدّین أمران وجودیّان حقیقیّان، کما عرفت، والأحکام لیست کذلک، ولابدّ من حلولهما فی موضوع واحد متعاقباً، ولیس الوجوب والحرمة وغیرهما حالّین فی المتعلّق، بل لهما نحو إضافة اعتباریّة إلیه، کما عرفت.
فما قیل : من أنّ الأحکام متضادّة بأسرها، غیرُ مستقیم؛ ألا تریٰ أنّه قد یأمر الأب ابنه بشیء، وتنهاه الاُمّ عنه فی زمان واحد، فیصیر واجباً ومحرّماً، فلو کان بین الأحکام تضادٌّ لما أمکن ذلک، کما لا یمکن اجتماع السواد والبیاض فی موضوع واحد وإن تعدّد موجدهما، فهذا الإشکال ـ أیضاً ـ لیس بشیء.
وإنّما المهمّ من الإشکالات المذکورة هو لزوم اجتماع الإرادتین اللّتین تعلّقت إحداهما بالحکم الواقعی، وثانیتهما بالحکم الظاهری.
بیان ذلک : أنّه لو فُرض أنّ لصلاة الجمعة حکماً من الأحکام کالحرمة، فتتعلّق إرادة المولیٰ بترکه، وهذه الإرادة تُنافی الترخیص فی العمل بالأمارة التی قد تُؤدّی إلیٰ وجوبها أو استحبابها أو غیرهما، وکذلک تُنافی إمضاء الشارع بناء العقلاء وطریقتهم علیٰ العمل بها والسکوت وعدم الردع عنه، وکذلک جعلها طریقاً وکاشفاً،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 91
فإنّه علیٰ أیّ تقدیر من التقادیر المذکورة تلزم الاستحالة، وهی إرادة الحکم الواقعی وإرادة ما یُنافیه من مُؤدّیٰ الأمارة.
ومن هذا التقریر للإشکال یظهر ما فی الأجوبة التی ذکرها القوم عن ذلک الإشکال:
مثل ما أجاب به المحقّق العراقی قدس سره : من أنّ هذا الإشکال إنّما یرد علیٰ القول بحجّیّة الأمارات علیٰ السببیّة، وأمّا بناءً علی القول بالطریقیّة فلا إشکال؛ لعدم حکمٍ ظاهریٍّ حینئذٍ.
ومثل ما أجاب به المیرزا النائینی قدس سره : من أنّ المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیّة والکاشفیّة لها، لا الحکم الشرعی الظاهری حتّیٰ یُنافی الحکم الواقعی.
ومثل ما فی «الکفایة» من أنّ المجعول ـ بناء علیٰ السببیّة ـ حکم طریقیّ، وهو لایُنافی الواقعی؛ وذلک لما عرفت من أنّ تعلّق الإرادة الحتمیّة بصلاة الجمعة، یُنافی الإذن فی العمل بالأمارات التی قد تؤدّی إلیٰ خلاف الواقع بأیّ نحوٍ کان؛ بجعل الحجّیّة، أو الکاشفیّة، أوجعل حکمٍ طریقیّ، أو إمضاء طریقة العقلاء، وغیر ذلک من الأنحاء، فاللاّزم فی دفع الإشکال المذکور الجواب عنه بنحوٍ لا یلزم منه التصویب؛ أی مع حفظ ثبوت الأحکام الواقعیّة المشترکة بین العالم والجاهل.
فالتحقیق أن یقال فی الجواب عنه : إنّه لاریب فی أنّ الشارع جعل لکلّ شیءٍ وفعلٍ حکماً واقعیّاً متعلّقاً بالموضوع بعنوانه الواقعی، ویشترک فیه العالم والجاهل، ولایمکن تقییدها بالعالم بها؛ لاستلزامه الدور المحال کما تقدّم، وتلک الأحکام لاتصلح ولایمکن أن تکون باعثة بنفسها للمکلّف نحو الفعل، ولا تصلح للداعویّة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 92
بوجودها النفس الأمری بدون الطریق إلیها من العلم وغیره، مع اشتراکها بین العالم والجاهل، ویمتنع تقییدها بالعلم کما عرفت، وحینئذٍ ففی حال انسداد باب العلم بالتکلیف یدور الأمر بین إهمال المکلَّفین وترکهم کالبهائم غیر مکلّفین، إلاّ فی مواضع نادرة یحصل العلم فیها بالتکلیف، أو إیجاب الاحتیاط علیهم فی موارد الشبهات، أو جعل الأمارات التی هی طریق إلی الواقع.
لاسبیل إلیٰ الأوّل والثانی :
أمّا الأوّل : فواضح .
وأمّا الثانی : فلأنّه یستلزم مفسدة عظیمة، وهی خروج الناس عن الدین وعدم التزامهم بالأحکام الشرعیّة؛ لو وجب علیهم الاحتیاط التامّ أو الناقص بالتجزّی فی الاحتیاط؛ أی الإتیان بالشبهات التی یحتمل الوجوب فیها وترک ما یحتمل الحرمة مهما أمکن، فإنّ ذلک متعذِّر أو متعسِّر، وفیه ضرر ومشقّة عظیمة لاتُتحمّل، بل یوجب الاختلال فی نظامهم واُمور معاشهم، وهذا ممّا لا شبهة فیه، فتعیّن الثالث ـ أی جعل الأمارات ـ أو إمضاء بناء العقلاء علیٰ العمل بها، فإنّها وإن کانت قد تؤدّی إلیٰ خلاف الواقع، لکن حیث إنّ الأمر دائر بین وقوع المفسدة العظیمة، التی تصیر سبباً لإهمال جمیع الأحکام، وبین جعلِ التعبُّد بالأمارات، والإغماضِ عن الحکم الواقعی فی بعض الموارد التی لا تُصادف الأمارةُ الواقع، ورفع الید وصرف النظر عنه مع وجوده واقعاً وعدم تغیُّره عمّا هو علیه، لکن لم یُرِده الشارع فعلاً لأجل الاضطرار إلیٰ ذلک وعدم المحیص عنه، وحینئذٍ فالأحکام الواقعیّة فی مورد الأمارات المؤدّیة إلیٰ خلاف الواقع محفوظة، لکنّها شأنیّة لافعلیّة، فإنّ ذلک لازم جعل الأمارات، فإنّ الشارع المقدّس ـ مع التفاته وعلمه بأنّه قد تؤدّی الأمارة إلیٰ خلاف الواقع حین جعلها ـ لابدّ من إغماضه عن الأحکام الواقعیّة التی لاتصیبها الأمارة، وهذا بخلاف الصور التی یُعذر العبد فیها، کما فی صورة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 93
الغفلة والنسیان والنوم وغیر ذلک من الأعذار، فإنّ الأحکام الواقعیّة فی هذه الموارد فعلیّة لم یرفع الشارع یده عنها؛ لعدم الالتفات حین الجعل إلیٰ هذه الموارد فی الموالی العرفیّة، وما ذکرناه غیر التصویب المعتزلی، فإنّ التصویب المعتزلی: عبارة عن انقلاب الحکم الواقعی وتبدُّله إلیٰ مؤدّیٰ الأمارة، وانعدامه بعد قیام الأمارة علیٰ خلافه، وهو لایتحقّق إلاّ بالقول بالسببیّة فی جعل الأمارات، ولا نقول نحن بانقلاب الحکم الواقعی إلیٰ مؤدّیٰ الأمارة المخالفة، بل نقول ببقائه علیٰ ما هو علیه، لکنّه شأنیّ لا فعلیّ، ولم یُرِدْه الشارع فعلاً من المکلّف لمصلحة، وهذا الذی ذکرناه من دون أن یکون هناک مصلحة قائمة بالأمارة تتدارک بها مصلحة الواقع. هذا کلّه بالنسبة إلیٰ الأمارات.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 94