المطلب السادس الأمارات المعتبرة عقلاًوشرعاً

الفصل الثامن فی أقسام القطع وأحکامها

الفصل الثامن فی أقسام القطع وأحکامها

‏ ‏

متعلّق القطع :‏ إمّا حکم أو موضوع ذو حکم أو غیر ذی حکم، وهو طریق‏‎ ‎‏إلیٰ متعلّقه، وقد یؤخذ موضوعاً لحکم، ولا إشکال فی أنّ الأوّل حجّة مطلقاً،‏‎ ‎‏بخلاف الثانی، فإنّه تابع للدلیل الذی أخذه موضوعاً للحکم، فقد یدلّ علیٰ‏‎ ‎‏موضوعیّته بنحو الإطلاق، وقد یقیَّد فی لسان الدلیل بحصوله من سبب خاصّ أو‏‎ ‎‏من شخص خاصّ، وهذا ممّا لا کلام فیه.‏

‏وإنّما الکلام فیما یتصوّر من الأقسام للقطع الموضوعی:‏

فنقول :‏ إنّ العلم من الصفات الحقیقیّة ذات الإضافة، وهو ظاهر بنفسه مُظهر‏‎ ‎‏لغیره، فمن جهة الحقیقة هو صفة قائمة بنفس القاطع من حیث قیام الصورة بنفسه،‏‎ ‎‏والإضافة إلیٰ هذه الصورة إشراقیة، وهذه الصورة معلومة بالذات، ولها إضافة إلیٰ‏‎ ‎‏الخارج إضافة عَرَضیّة، ویسمّیٰ الخارج بالمعلوم بالعَرَض، وهذه الجهة هی کاشفیّته‏‎ ‎‏عن الواقع، والکشف : إمّا تامّ وإمّا ناقص وإمّا مطلق، فهنا ثلاثة أشیاء :‏

الأوّل :‏ العلم من حیث إنّه صفة خاصّة قائمة بنفس القاطع مع قطع النظر عن‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 37
‏کشفه عن الواقع.‏

الثانی :‏ کشفه عن الواقع.‏

الثالث :‏ کشفه التامّ عن الواقع، فإنّ للکشف مرتبتین : إحداهما التامّة، مثل‏‎ ‎‏کشف القطع عنه، وثانیتهما الناقصة، مثل کاشفیّة الأمارات عنه.‏

‏فللحاکم أن یجعل القطع بإحدیٰ هذه الجهات موضوعاً لحکمه؛ بأن یأخذه ـ‏‎ ‎‏من حیث إنّه صفة خاصّة ـ فی موضوع حکمه، وأن یأخذه بما أنّه کاشف تامّ عن‏‎ ‎‏الواقع فی موضوع حکمه، وأن یأخذه بما أنّه کاشف بنحو الإطلاق، فهذه أقسام‏‎ ‎‏ثلاثة.‏

وعلیٰ أیّ تقدیر :‏ إمّا أن یؤخذ تمام الموضوع للحکم؛ سواء صادف الواقع أم‏‎ ‎‏لا، أو جزء الموضوع، فالأقسام ستّة.‏

‏ثمّ إنّه قد یؤخذ تمام الموضوع أو جزء الموضوع لحکمٍ مماثلٍ لحکم متعلّقه،‏‎ ‎‏أو مضادٍّ له، أو مخالف :‏

فالأوّل :‏ مثل أن یقول : «إذا قطعت بوجوب الصلاة یجب علیک الصلاة»،‏‎ ‎‏فهناک وجوبان تعلّق أحدهما بالصلاة، وثانیهما بالصلاة المقطوع بها بأحد الأنحاء‏‎ ‎‏المتقدّمة.‏

والثانی :‏ مثل أن یقول : «الخمر المقطوع الخمریّة مکروه، أو مباح» .‏

والثالث :‏ مثل أن یقول : «إذا قطعت بوجوب الصلاة وجب علیک التصدُّق».‏

‏ثمّ إنّه هل یمکن القسم الأوّل والثانی؛ أی أخذه فی موضوع حکمٍ مماثلٍ أو‏‎ ‎‏مضادٍّ لحکم متعلَّقه أو لا یمکن ؟‏

‏ذهب فی «الکفایة» إلیٰ الثانی؛ حیث قیّد الحکم الذی اُخذ القطع فی‏‎ ‎‏موضوعه بعدم کونه مماثلاً أو مضادّاً لحکم متعلَّقه، وعلّله باستلزامه اجتماع المِثْلین‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 38
‏أو الضدّین، وهو محال‏‎[1]‎‏.‏

ولکنّ الحقّ :‏ هو الأوّل فیما إذا کان القطع تمام الموضوع؛ وذلک لأنّ موضوع‏‎ ‎‏حکم المتعلَّق هو عنوان الخمر أو الصلاة، وموضوع الحکم المماثل أو المضادّ هو‏‎ ‎‏القطع بهما، وهما عنوانان متغایران، لکن بینهما عموم من وجه، ولا یستلزم ذلک‏‎ ‎‏اجتماع المِثلین أو الضدّین فی موضوع واحد؛ لتعدّد العنوانین فی عالم العنوانیّة،‏‎ ‎‏وأمّا فی الخارج فهما وإن تصادقا فی مورد الاجتماع، لکن الخارج لیس متعلَّقاً‏‎ ‎‏للحکم، کما تقدّم بیانه فی باب اجتماع الأمر والنهی.‏

‏نعم لو جُعل القطع جزء الموضوع فالحقّ هو الثانی، فإنّه لا یمکن حرمة‏‎ ‎‏طبیعة الخمر وحرمة الطبیعة المقیَّدة بالقطع بها أو حلّیّتها؛ لأنّ المقیّد عین المطلق‏‎ ‎‏بزیادة قید إلیها، ولیسا عنوانین متغایرین علیٰ وجه الطریقیّة.‏

ثمّ إنّه قد یظهر من کلام بعض الأعاظم‏ ـ وهو المحقّق المیرزا النائینی علیٰ ما‏‎ ‎‏فی التقریرات ـ : أنّه لا یمکن أخذه تمام الموضوع علیٰ وجه الطریقیّة؛ لأنّ أخذه‏‎ ‎‏تمام الموضوع کذلک یستدعی عدم لحاظ الواقع وذی الصورة بوجهٍ من الوجوه،‏‎ ‎‏وأخذُهُ علیٰ وجه الطریقیّة لحاظُهُ ولحاظ ذی الصورة‏‎[2]‎‏.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ أخذه علیٰ وجه الطریقیّة یستدعی لحاظه آلیّاً، وأخذه تمام‏‎ ‎‏الموضوع یستدعی لحاظه استقلالیّاً، والجمع بین اللحاظین ممتنع.‏

‏ولکنّه من الأعاجیب ؛ لما فیه :‏

أوّلاً :‏ النقض بما لو اُخذ کذلک جزء الموضوع، مع أنّه ‏‏قدس سره‏‏ لم یذهب إلیٰ‏‎ ‎‏امتناعه.‏

وثانیاً :‏ بالحلّ بأنّ امتناع لحاظ القطع آلیّاً واستقلالیّاً معاً، إنّما هو بالنسبة إلیٰ‏‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 39
‏نفس القاطع حین القطع، وأمّا بالنسبة إلیٰ شخص آخر غیر قاطع فلا امتناع له، وما‏‎ ‎‏نحن فیه کذلک، فإنّ الحاکم یُلاحظ قطع القاطع بوصف الکاشفیّة، ویجعله موضوعاً‏‎ ‎‏لحکمٍ من الأحکام؛ ألا تریٰ أنّه عُلِّق وجوب الإتمام علیٰ من قصد الإقامة عشراً،‏‎ ‎‏لا الإقامة واقعاً، مع أنّ القصد آلة للحاظ المقصود، وقد جعله تمام الموضوع‏‎ ‎‏للحکم، فعلیٰ ما ذکره یلزم أن یمتنع ذلک.‏

‏ثمّ إنّه هل یمکن أخذه موضوعاً بالنسبة إلیٰ نفس الحکم الذی تعلّق به العلم‏‎ ‎‏وشخصه، أولا؟‏

‏لا ریب فی إمکانه فی بعض الفروض ، وهو ما لو فرض صدور أحکام‏‎ ‎‏إنشائیّة لا فعلیّة من المولیٰ، ثمّ أمر المجتهد بالاستنباط والاجتهاد وعلّق الوجوب‏‎ ‎‏العقلی ـ مثلاً ـ علیٰ ما إذا قطع به الذی صدر منه إنشاءً، وحینئذٍ تصیر الأحکام‏‎ ‎‏الفعلیّة تابعة لآراء المجتهدین، وهذا وإن یرجع إلیٰ التصویب، لکنّه ممکن، ولیس‏‎ ‎‏بممتنع، لکنّه تصویب باطل.‏

وإنّما الإشکال‏ فیما لو اُخذ العلم بالحکم الفعلی موضوعاً لشخص هذا‏‎ ‎‏الحکم؛ لاستلزامه الدور الواضح؛ فإنّ العلم بالحکم ـ حینئذٍ ـ موقوف علیٰ وجود‏‎ ‎‏الحکم الفعلی قبله، والفرض أنّ وجوده موقوف علیٰ العلم به، وهو محال.‏

‏وتُفُصِّی عن الإشکال بوجهین :‏

الأوّل : ما ذکره المحقّق المیرزا النائینی ‏قدس سره‏‏ وهو ما تفصّیٰ به عن الإشکال فی‏‎ ‎‏مسألة الجهر والإخفات والقصر والإتمام، وهو أنّه یمکن تصحیحه بنحو نتیجة‏‎ ‎‏التقیید.‏

توضیح ذلک :

‏أنّ العلم بالحکم لمّا کان من الانقسامات اللاحقة للحکم، فلا یمکن فیه‏‎ ‎‏الإطلاق والتقیید اللحاظی؛ لاستلزامه الدور المذکور، فإنّه لا یمکن أخذ العلم ـ وکلّ‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 40
‏ما هو من الانقسامات اللاحقة للمتعلَّق ـ قیداً ـ جزءً أو شرطاً أو مانعاً ـ فی مرتبة‏‎ ‎‏الجعل، وإذا امتنع التقیید امتنع الإطلاق أیضاً؛ لأنّ التقابل بینهما هو تقابل العدم‏‎ ‎‏والملکة، ولکن الإهمال الثبوتی ـ أیضاً ـ غیر معقول، بل لابدّ فیه إمّا من نتیجة‏‎ ‎‏الإطلاق أو من نتیجة التقیید، فإنّ الملاک الذی اقتضیٰ تشریع الحکم إمّا أن یکون‏‎ ‎‏محفوظاً فی حالة العلم فقط، فلابدّ من نتیجة التقیید، أو فی کلتا حالتی العلم‏‎ ‎‏والجهل، فلابدّ من نتیجة الإطلاق، وحیث یمتنع تکفّل الجعل الأوّلی لذلک وبیانه،‏‎ ‎‏فلابدّ من جعلٍ آخر یُستفاد منه نتیجة الإطلاق أو التقیید، وهو المصطلح علیه بمتمِّم‏‎ ‎‏الجعل.‏

‏وقد ادّعیٰ تواتر الأدلّة علیٰ اشتراک الأحکام بالنسبة إلیٰ العالم والجاهل‏‎[3]‎‏،‏‎ ‎‏ونحن لم نعثر علیٰ تلک الأدلّة سویٰ بعض الأخبار الآحاد ـ التی ذکرها صاحب‏‎ ‎‏الحدائق فی مقدّمات کتابه‏‎[4]‎‏ ـ إلاّ أنّ الظاهر قیام الإجماع ـ بل الضرورة ـ علیٰ‏‎ ‎‏ذلک، ویستفاد من تلک الأدلّة نتیجة الإطلاق، وأنّ الحکم مطلق بالنسبة إلیٰ العالم‏‎ ‎‏والجاهل، لکن تلک الأدلّة عامّة صالحة للتخصیص، وقد خُصِّصت فی غیر مورد،‏‎ ‎‏کما فی مورد الجهر والإخفات والقصر والإتمام؛ حیث قام الدلیل علیٰ نتیجة التقیید،‏‎ ‎‏واختصاص الحکم فیهما بالعالم فقط، فقد اُخذ العلم شرطاً فی ثبوت الحکم واقعاً،‏‎ ‎‏وکما یصحّ ذلک یصحّ أخذ العلم بالحکم من وجه خاصّ وسبب خاصّ مانعاً عن‏‎ ‎‏ثبوت الحکم، کما فی باب القیاس؛ حیث قام الدلیل علیٰ أنّه لا عبرة بالعلم الحاصل‏‎ ‎‏منه، مثل روایة «أبان» فی دِیَة الأصابع‏‎[5]‎‏، وکذلک تقیید العلم بحصوله من الکتاب‏‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 41
‏والسُّنّة، لا من مثل الرمل والجفر، فإنّه یمکن کلّ ذلک بنتیجة التقیید‏‎[6]‎‏. انتهیٰ‏‎ ‎‏ملخّصاً.‏

أقول :‏ بعد تسلیم امتناع الإهمال الثبوتی فی الأحکام، کما اعترف ‏‏قدس سره‏‏ به هل‏‎ ‎‏الحکم فی الواقع ونفس الأمر یتعلّق بالمطلق اللحاظی أو بالمقیّد؟ فلو فرض وجود‏‎ ‎‏مناط الحکم فی المقیّد، فلا یمکن تعلُّقه بغیره ممّا لیس فیه هذا المناط، ولا یمکن‏‎ ‎‏تقیید متعلَّقه بالعلم بالحکم؛ لاستلزامه الدور المحال. هذا فی مقام الجعل والتشریع.‏

‏نعم، یمکن ذلک فی الانقسامات اللاحقة للحکم فی مقام الثبوت، نظیر قصد‏‎ ‎‏الأمر ونحوه.‏

وثانیاً :‏ ما ذکره من أنّه إذا لم یمکن التقیید لم یمکن الإطلاق ـ أیضاً ـ لمکان‏‎ ‎‏تقابل الملکة بینهما، فهو مُسلّم، لکن الحکم فی العدم والملکة بما ذکره، إنّما هو فیما‏‎ ‎‏إذا کان عدم قبوله للتقیید لعدم إمکانه ذاتاً، کتقیید زیدٍ بفردٍ دون فرد، فإنّه لا یقبل‏‎ ‎‏هذا التقیید، فلا یصحّ إطلاقه اللحاظی، أمّا لو کان عدم إمکان التقیید لأجل محذور‏‎ ‎‏آخر وعلل اُخریٰ، مع صلاحیّته لذلک ذاتاً، فلا نُسلّم عدم إمکان الإطلاق فیه، کما‏‎ ‎‏فیما نحن فیه، فإنّ عدم إمکان أخذ العلم قیداً للحکم إنّما هو لأجل لزوم الدور، لا‏‎ ‎‏لعدم القابلیّة الذاتیّة.‏

والحاصل :‏ أنّ التقیید وإن کان یحتاج إلیٰ اللّحاظ، لکن الإطلاق لا یحتاج‏‎ ‎‏إلیٰ اللّحاظ، وحینئذٍ فعدم إمکان الإطلاق إنّما هو فیما إذا امتنع التقیید ذاتاً، وأمّا لو‏‎ ‎‏کان عدم إمکان التقیید لا لعدم قبوله له ذاتاً، بل لأجل لزوم محذور آخر، مع قبوله‏‎ ‎‏شأناً وذاتاً، کما فی ما نحن فیه، فلا نُسلِّم عدم إمکان الإطلاق فیه، ولذلک یتمسّکون‏‎ ‎‏بالإطلاق فی أدلّة التکالیف والأحکام بالنسبة إلیٰ العالم والجاهل.‏

وأمّا ثالثاً :‏ فلأنّ التفصّی عن الإشکال فی مسألتی الجهر والإخفات والقصر‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 42
‏والإتمام، لیس بما ذکره من نتیجة التقیید، بل لوجوه اُخر مذکورة فی محلّها.‏

منها :‏ أنّ ذلک من قبیل تقبُّل الناقص بدل الکامل.‏

ومنها :‏ شمول حدیث (‏لاتُعاد)‎[7]‎‏ لصورة العمد أیضاً، وأنّ الأرکان الخمسة‏‎ ‎‏مُجزیة وإنْ ترک سائر الواجبات، واستحقّ العقوبة ـ أیضاً ـ لعدم إمکان تدارک‏‎ ‎‏المصلحة ثانیاً فرضاً.‏

‏وأمّا العلم الحاصل من القیاس ومنع العمل به، فلیس لأجل أنّه مانع عن‏‎ ‎‏ثبوت الأحکام به، بل لأجل قصور عقول البشر عن الاطّلاع علی الأحکام الواقعیّة،‏‎ ‎‏وکذلک الاستحسانات، ولذا ورد فی الخبر أنّه ‏‏علیه السلام‏‏ قال لأبی حنیفة : (‏أتزعم أنّک‎ ‎تقیس؟)‏ قال: نعم، فقال ‏‏علیه السلام‏: (البول أشدّ نجاسةً أو المنیّ؟)‏ قال: البول، فقال ‏‏علیه السلام‏:‎ ‎(فلِمَ لایوجب البول الغسل ویوجبه المنیّ)‎[8]‎‏.‏

وأمّا ما ذکره :‏ من تقیید العلم بعدم حصوله من الرمل والجفر ونحوهما، ففیه:‏‎ ‎‏أنّ العلم طریق إلیٰ الواقع، وحجّة مطلقاً من أیّ سبب حصل.‏

الوجه الثانی للتفصّی عن الإشکال :‏ ما ذکره المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ حیث قال ما‏‎ ‎‏حاصله :‏

‏إنّه یمکن دفع الإشکال بنتجة التقیید، لکن لا بمتمِّم الجعل ـ کما ذکره بعضهم‏‎ ‎‏ـ بل بوجه آخر اطّلعنا علیه: وهو أنّ العلم بالحکم وإن لم یمکن أخذه فی لسان‏‎ ‎‏الدلیل فی موضوعه، لکن الحکم متعلّق ـ فی الواقع فی مرتبة متقدّمة علیٰ الحکم‏‎ ‎‏تقدّم الموضوع علیٰ الحکم ـ بحصّة ملازمة للعلم بالحکم فی المرتبة المتأخّرة،‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 43
‏فالحرمة ـ مثلاً ـ متعلّقة بحصّة متقدّمة من طبیعة الخمر تقدّم الموضوع علیٰ حکمه،‏‎ ‎‏توأمة مع العلم بالحرمة فی المرتبة المتأخّرة، فیمکن أخذ العلم بالحکم فی‏‎ ‎‏موضوعه بهذا النحو، وإن لم یمکن أخذه کذلک فی لسان الدلیل، ومن هذا القبیل‏‎ ‎‏الأعراض بالنسبة إلی معروضاتها ـ کالبیاض اللاحق للجسم ـ فإنّها تعرض علیٰ‏‎ ‎‏حصّة متقدِّمة علیٰ العارض، ملازمة معه فی مرتبة متأخّرة، ولذلک تکون العلّة‏‎ ‎‏متقدّمة علی المعلول فی الرتبة، مع أنـّها مع المعلول زماناً‏‎[9]‎‏. انتهیٰ ملخّص کلامه.‏

أقول :‏ الحصّة ـ فی الاصطلاح ـ : عبارة عن الطبیعة المقیّدة بقید، کما قال‏‎ ‎‏المحقّق السبزواری ‏‏قدس سره‏‏ فی المنظومة :‏

‏ ‏

‏والحصّةُ الکلّی مقیّداً یجی‏

‎ ‎‏تقیّدٌ جزءٌ وقیدٌ خارجی‏‎[10]‎

‏ ‏

‏فالطبیعة من حیث هی لیس فیها الحصّة، بل الحصّة تحصل بتقییدها بقید،‏‎ ‎‏کتقیید طبیعة الإنسان بالأبیضیّة، فیتحقّق به حصّة من الإنسان، وحینئذٍ فلا یمکن‏‎ ‎‏حصول الحصّة فی المقام بدون تقیید الخمر بمعلوم الخمریّة مثلاً؛ لما عرفت من أنّ‏‎ ‎‏الطبیعة بدون التقیید، لیس فیها حصّة فی نفس الأمر؛ حتیٰ یتعلّق الحکم بها فی‏‎ ‎‏الواقع.‏

‏وإن أراد أنّه وإن لم یمکن تقیید الخمر بالعلم بالحرمة، وجعله موضوعاً لها‏‎ ‎‏فی لسان الدلیل، ولکنّه متعلِّق بهذه الحصّة واقعاً.‏

ففیه :‏ أنّه إذا تعلّق الحکم بموضوع مقیّد بالعلم واقعاً وفی مقام الثبوت، فلابدّ‏‎ ‎‏أن یتحقّق الحکم قبل نفسه؛ حتّیٰ یتعلّق العلم به، فیبقیٰ الإشکال بحاله.‏

‏وأمّا الأعراض فهی تعرض علیٰ نفس الطبیعة، لا علیٰ الحصّة، فالبیاض‏‎ ‎‏ـ مثلاً ـ یعرض علیٰ طبیعة الجسم، لا علیٰ حصّة من الجسم ملازمة للبیاض توجد‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 44
‏فی مرتبة متأخّرة عن عروض ذلک، ولا أقلّ أنّها فی مرتبة عروض هذا العارض،‏‎ ‎‏وأمّا ما ذکره: من تقدُّم العلّة علیٰ المعلول مرتبة، فلا ارتباط له بالمقام، فإنّ العلّة قد‏‎ ‎‏تکون بسیطة من جمیع الجهات، فلا یتصوّر فیها الحصّة.‏

والتحقیق فی المقام :‏ التفصیل بین ما إذا اُخذ القطع تمام الموضوع؛ سواء‏‎ ‎‏صادف الواقع أم لا، وبین ما إذا اُخذ جزء الموضوع؛ بأن یجعل الموضوع هو القطع‏‎ ‎‏بالحرمة ـ مثلاً ـ إذا صادف الواقع، وتسلیم لزوم الدَّور فیه، دون الأوّل، فإنّه إذا جعل‏‎ ‎‏الموضوع هو القطع بها ـ بجعل القطع جزء الموضوع، والجزء الآخر نفس الحرمة ـ‏‎ ‎‏یلزم الدور؛ لأنّ الحکم ـ حینئذٍ ـ یتوقّف علیٰ القطع بها توقّف الحکم علیٰ‏‎ ‎‏موضوعه، والقطع بها موقوف علیٰ وجودها واقعاً؛ لأنّ المراد منه هو المصادف‏‎ ‎‏للواقع، وهو دور واضح، بخلاف ما إذا جعل القطع تمام الموضوع، فإنّ الحکم ـ‏‎ ‎‏حینئذٍ ـ وإن کان یتوقّف علیٰ القطع توقّف الحکم علیٰ موضوعه، لکنّ القطع به لا‏‎ ‎‏یتوقّف علیٰ ثبوته فی نفس الأمر، فإنّه کثیراً ما یحصل القطع بشیء، ویکون جهلاً‏‎ ‎‏مرکّباً، والمفروض أنّ القطع تمام الموضوع، یترتّب علیه الحکم سواء صادف الواقع‏‎ ‎‏أم لا.‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 45

  • )) کفایة الاُصول: 303.
  • )) اُنظر أجود التقریرات 2 : 17 ـ 18 .
  • )) فرائد الاُصول : 27 سطر 10 .
  • )) الحدائق الناضرة 1 : 78 .
  • )) الکافی 7 : 299 / 6 ، تهذیب الأحکام 10 : 184 / 719 ، وسائل الشیعة 19 : 268 ، کتاب الدیات ، أبواب دیات الأعضاء ، الباب 44 ، الحدیث 1 .
  • )) فوائد الاُصول 3 : 11 ـ 14 .
  • )) تهذیب الأحکام 2 : 152 / 597، وسائل الشیعة 4 : 934، کتاب الصلاة، أبواب الرکوع، الباب 10، الحدیث 5 .
  • )) علل الشرائع : 89 / 5 ، وسائل الشیعة 18 : 30 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی، الباب 6 ، الحدیث 27 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 15 ـ 16 .
  • )) شرح المنظومة (قسم الفلسفة) : 27 .