الإشکال السادس:
ما أورده شیخنا العلامة الأنصاری قدس سره بصورة «إن قلت» وأجاب عنه بقوله «قلت» وهو أنّ المشهور بین العدلیة أنّ الواجبات الشرعیة إنّما وجبت لکونها ألطافاً فی الواجبات العقلیة، فاللطف إمّا هو المأمور به حقیقة أو غرض للأمر، فیجب تحصیل العلم بحصول اللطف ولا یکاد یحصل إلا بإتیان کلّ ما شکّ فی مدخلیته.
یستفاد من کلامه قدس سره هذا تقریبان لا بأس بتوضیحهما:
التقریب الأوّل: هو أنّ المشهور بین العدلیة أنّ الأوامر والنواهی تابعة لمصالح ومفاسد فی المأمور بها والمنهیّ عنها وأنّ الواجبات الشرعیة ألطاف فی الواجبات العقلیة، والأحکام الشرعیة وإن تعلّقت بعناوین خاصّة کالصلاة والصوم والخمر والزنا إلا أنّ المأمور به والمنهیّ عنه حقیقة هو المصالح والمفاسد والأمر بالصلاة والنهی عن الخمر مثلاً إرشاد إلی ما هو المطلوب النفس الأمری.
والسرّ فی تعلّق الأوامر أو النواهی بالعناوین دون المصالح أو المفاسد عدم
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 302
علم العباد بکیفیة تحصیلها والاجتناب عنها، ولو اطّلع العقل بتلک المصالح والمفاسد لحکم بلزوم الإتیان بها أو الاجتناب عنها، فالمصالح والألطاف هی المأمور بها بالأمر النفسی کما أنّ المفاسد هی المنهیّ عنها بالنهی النفسی والعناوین التی تعلّق بها الأوامر والنواهی فی ظاهر الشرع محصّلات ـ بالکسر ـ تلک الغایات وأوامرها ونواهیها إرشادیة مقدّمیة لتحصیلها، ومعلوم أنّه مع الشکّ فی المحصّل ـ بالفتح ـ لا مناص من الاحتیاط.
التقریب الثانی: هو أنّ الأوامر والنواهی المتعلّقة بالعناوین وإن کانت أوامر ونواهی حقیقة وغیر إرشادیة إلا أنّ المصالح والمفاسد أغراض وغایات لتلک الأوامر والنواهی ولا یکاد یحرز الغرض إلا بالإتیان بالأکثر.
وبعبارة اُخری: إنّ المصالح والمفاسد والأغراض علل البعث أو الزجر نحو العمل أو الزجر عنه.
فکما أنّ وجود الأشیاء وبقائها إنّما هو بوجود عللها وبقائها، فکذلک نعدامها وسقوطها بسقوط عللها وفنائها.
فعلی هذا یتوقّف العلم بسقوط الأوامر أو النواهی علی العلم بسقوط الأغراض وحصول الغایات الداعیة إلیها، فمع الإتیان بالأقلّ یشکّ فی إحراز المصلحة، فیشکّ فی سقوط الأمر، وواضح أنّه مع العلم بالثبوت لابدّ من العلم بالسقوط وهو لا یکاد یحصل إلا بالإتیان بالأکثر.
والفرق بین التقریبین واضح؛ لأنّ المأمور به والمنهیّ عنه علی التقریب الأوّل هو المصالح والمفاسد والعناوین محصّلات لها وأمّا علی التقریب الثانی وإن تعلّقت حقیقة بالعناوین لکنّها لأجل أغراض ومقاصد، فما لم یحصل تلک
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 303
الأغراض لا تسقط الأوامر والنواهی.
ولا یخفی أنّ ما ذکرنا هو الظاهر من الشیخ الأعظم قدس سره فما أفاده المحقّق النائینی قدّس سرّه من أنّ مراد الشیخ قدس سره لیس مصلحة الحکم وملاکه، بل المراد منه التعبّد بالأمر وقصد امتثاله لیس بشیء وإن أتعب نفسه الزکیّة فی ذلک وحصل فی أطراف المسألة، فراجع.
وکیف کان، فالجواب عن التقریب الأوّل أوّلاً:
هو أنّ مسألة کون الأوامر والنواهی تابعة لمصالح أو مفاسد فی المأمور به والمنهیّ عنها شعبة من المسألة الکلامیة المعروفة التی علیها العدلیة من أنّه تعالی یفعل لغرض ویمتنع علیه تعالی الإرادة الجزافیة؛ للزوم العبث فی فعله والظلم علی العباد فی تکلیفه فی مقابل الأشاعرة النافین للأغراض والغایات فی مطلق أفعاله تعالی.
فالأوامر والنواهی لکونها من الأفعال الاختیاریة لله تعالی لابدّ وأن یکون لها أغراض وغایات وواضح أنّ دفع الإرادة الجزافیة والعبثیة کما یحصل باشتمال نفس تلک العناوین علی مصالح ومفاسد قائمة بها متحصّلة بوجودها کذلک یحصل بکون المصلحة فی نفس البعث والزجر.
بل یمکن أن یقال: إنّ تلک العناوین مطلوبات بالذات من قبیل نفس الأغراض ـ أی تکون الأحکام تابعة لمصالح فی نفسها کما هو الحال فی الأحکام الوضعیة کالملکیة والزوجیة ونحوهما ـ أو تکون الأغراض اُموراً اُخر غیر المصالح والمفاسد لا نعلمها.
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 304
وبالجملة: غایة ما تقتضیه الأدلّة المذکورة فی محلّه فی قبال الأشاعرة هی أنّ أوامره تعالی ونواهیه لیست جزافیة بلاغرض وجهة ولکن لا یثبت ذلک الوجه الأوّل من کون متعلّقاتها ذات مصالح ومفاسد، بل یمکن أن تکون فی نفس الأمر أو النهی.
وثانیاً: أنّ تعلّق الأوامر بتلک المصالح النفس الأمریة المستتبعة لتلک العناوین ممّا یمتنع علیه تعالی للزوم اللغویة والعبث علیه تعالی؛ لأنّ الأمر بشیء والبعث إلیه لإیجاد الداعی فی نفس المکلّف حتّی ینبعث ببرکة سائر المبادئ نحوه وهو فرع وصول الأمر إلیه ولا یعقل أن تکون الأوامر النفس الأمریة غیر الواصلة إلی المکلّفین متعلّقة بعناوین واقعیة مجهولة لدیهم وباعثة نحوها، فإنّ البعث والتحریک فرع الوصول والاطّلاع، فعلیه فتعلّقها بها لا یکون إلا لغواً وعبثاً یمتنع علیه تعالی، فتدبّر.
وأمّا الجواب عن التقریب الثانی فیظهر ممّا ذکرناه فی دفع التقریب الأوّل حاصله: أنّ ما قام به الدلیل الکلامی إنّما هو امتناع خلوّ فعله تعالی عن الغرض وأمّا کون الغرض مغایراً لنفس العنوان الذی وقع تحت دائرة الطلب فلا، بل من المحتمل أن یکون الغرض الذی دلّ الدلیل علی امتناع خلوّ فعله تعالی عنه هو قائماً بنفس الأمر أو المأمور به بمعنی کونه محبوباً بالذات من غیر أن یکون محصّلاً للغرض وخارجاً عنه نظیر الأحکام الوضعیة کالملکیة والزوجیة ونحوهما ومع هذا الاحتمال ینفی الاشتغال ویکون من قبیل الأقلّ والأکثر هذا أوّلاً.
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 305
وثانیاً: أنّه لم یدلّ دلیل علی تحصیل الأغراض الواقعیة للمولی التی لم تقم علیها حجّة، بل العقل یحکم بلزوم الخروج عن العهدة بمقدار ما قامت الحجّة علیه، وبما أنّ الحجّة قامت علی الأقلّ، فلو کان الغرض حاصلاً به فهو، وإلا ففوت الغرض مستند إلی قصور بیان المولی؛ لعدم البیان، أو لعدم إیجاب التحفّظ والاحتیاط.
بل یمکن أن یقال: إنّ الغرض یسقط بإتیان الأقلّ ویتبعه سقوط الأمر؛ إذ لو لم یسقط به فی نفس الأمر لوجب علی المولی الحکیم، إمّا البیان أو جعل الاحتیاط تحفّظاً علی أغراضه، وإلا یلزم التلاعب بالغرض ونقضه وهو قبیح علی الحکیم تعالی وحیث إنّه لم یبیّنه ولم یوجب الاحتیاط نستکشف من ذلک قیام الغرض بالأقلّ وسقوطه به.
وثالثاً: أنّ العلم الإجمالی إذا کان بعض أطرافه مجهول العنوان؛ بحیث لا ینقدح فی ذهن المکلّف بعنوانه أبداً لا یکون منجّزاً؛ فإنّ تنجّزه متوقّف علی إمکان الباعثیة علی أیّ تقدیر ـ أی فی أیّ طرف کان من الأطراف ـ فإذا کان بعض أطرافه مجهول العنوان لا یمکن البعث إلیه، وما نحن فیه من هذا القبیل، فإنّه ما من تکلیف من التکالیف المرکّبة إلا ویحتمل أن یکون له جزء دخیل فی سقوط الغرض یکون مخفیّاً عنّا؛ لعدم العثور علی دلیله، فمن الممکن أن یکون للصلاة مثلاً جزء أو شرط آخر لم یصل إلینا ویکون دخیلاً فی سقوط الغرض، فالعلم بأنّ الغرض إمّا قائم بالأقلّ، أو الأکثر، أو هو مع شیء آخر لا نعلمه، لا یمکن أن یکون منجّزاً.
وبعبارة اُخری: یحتمل أن یکون للصلاة مثلاً أجزاء وشرائط لم تصل إلینا
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 306
أصلاً ویحتمل دخولها فی سقوط الغرض ومثل هذا العلم غیر منجّز أصلاً؛ لکون طرف العلم مجهول العنوان فلزوم العلم بسقوط الغرض الواقعی موجب لعدم العلم فی مطلق التکالیف بسقوط الأوامر؛ إذ ما من مکلّف إلا ویحتمل دخالة شیء فی متعلّقه دخیل فی حصول الغرض لم یصل إلینا حتّی یصحّ الاحتیاط، ویلزم منه سدّ باب الإطاعات.
فتحصّل ممّا ذکرنا عدم لزوم شیء علی العبد إلا الخروج عن عهدة ما قامت الحجّة علیه؛ یسقط الغرض أم لا، نعم، مع العلم بالغرض الملزم لابدّ من تحصیله، کان أمر من المولی أم لا.
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 307