الجهة الاُولی: من أنّ ملاقی النجس بعنوانه من النجس
حیث إنّ المسألة مسألة فقهیة حیث یبحث فیها عن نجاسة المشتبه، فمحلّها باب النجاسات من کتاب الطهارة، فلابدّ وأن یبحث هناک إلا أنّه لا بأس بالإشارة الإجمالیة إلیها هنا، فنقول:
هل النجاسات الشرعیة هی المستقذرات العرفیة، فکلّ ما یستقذره العرف والعقلاء ویتنفّرون منه هو الذی جعله الشارع نجساً، فکما أنّ العرف والعقلاء قد یتقذّرون من بعض الأشیاء ویتنفّرون منه، وقد لا یتقذّرون من بعض آخر، والشارع جعل ما یستقذره العقلاء نجساً، فالنجس الشرعی عبارة عن المستقذر العرفی، فجمیع النجاسات مستقذرات عرفیة عقلائیة.
أو یقال: إنّ القذارات العرفیة وإن کانت هی النجاسات إلا أن الشارع الأقدس جعل النجاسة علی بعض اُمور لا یکون قذراً عند العرف والعقلاء وأمر بترتّب آثار القذارة علیها مثلاً حکم الشارع بنجاسة الکافر لیس لقذارة فیه تزول
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 240
بالإسلام وبإقرار الشهادتین ولعلّه لا ینقدح ذلک فی ذهنهم، بل لأجل عدم معاشرة المسلمین ومخالطتهم إیّاهم، فالحکم بنجاستهم حکم سیاسی إسلامی لیتنفّر المسلمون عنهم ولا یخالطوهم، لا لأجل قذارة معنویة فیهم.
وکذا حکم الشارع بنجاسة الخمر لیس لقذارة فیها، بل لأجل ترتّب مفاسد کثیرة مترتّبة علیها. فالنجاسات الشرعیة علی نحوین، فقسم منه ما یکون قذراً عرفاً وقسم آخر ما لم یکن قذراً عرفاً إلا أنّ الشارع لمصالح جعله نجساً.
فلابدّ من ملاحظة محیط العرف والعقلاء فیما یستقذرونه فإذا استقذروا من شیء یستقذرون من ملاقیه، ولا إشکال ولا خلاف فی ذلک بل ضرورة الفقه علی وجوب اجتناب ملاقی النجس القطعی.
ولکن وقع الخلاف فی أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی، هل هو من شؤون الاجتناب عن نفس النجس ولیس وجوب الاجتناب عن الملاقی لأجل تعبّد آخر وراء التعبّد بوجوب الاجتناب عن النجس ویکون المرتکب للملاقی معاقباً علی ارتکاب النجس لا علی ارتکاب ملاقیه؛ لعدم حکم مستقلّ للملاقی.
وبالجملة: لیس هنا إلا وجوب اجتناب واحد وهو وجوب الاجتناب عن النجس ولا یتحقّق ذلک إلا بالاجتناب عنه وعن حواشیه وملاقیه.
أو أنّ الملاقی یختصّ بجعل مستقلّ فی عرض الاجتناب عن النجس وهذا الوجوب مجعول علی عنوان ملاقی النجس من دون أن یکون وجوبه عین وجوبه ومن شؤونه، فالاجتناب عن الملاقی امتثال مستقلّ کما أنّ الاجتناب عن النجس امتثال آخر؟ ـ وقس علیه العصیان والعقاب ـ وجهان، بل قولان:
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 241
حکی الأوّل عن ابن زهرة ومن تبعه کما حکی الثانی عن المشهور.
واستدلّ لمقال ابن زهرة بقوله تعالی: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)؛ لأنّ معنی الهجرة عن النجس الاجتناب عنه وعن ملاقیه وحواشیه.
وبما رواه عمرو بن شمر عن جابر الجعفی عن أبی جعفر السلام: أنّه أتاه رجل، فقال له وقعت فأرة فی خابیة فیها سمن أو زیت فما تری فی أکله؟ فقال أبو جعفر علیه السلام: «لا تأکله»، فقال الرجل: الفأرة أهون علیّ من أن أترک طعامی لأجلها، فقال أبو جعفر علیه السلام: «إنک لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدینک، إن الله حرّم المیتة من کلّ شیء».
تقریب الدلالة: أنّه جعل علیه السلام عدم الاجتناب عن الطعام الذی وقعت فیه الفأرة استخفافاً للدین وبیّنه بأنّ الله حرّم المیتة من کلّ شیء ولو لا کون الاجتناب من الملاقی ـ بالکسر ـ من شؤون الاجتناب من الملاقی ـ بالفتح ـ لم یکن عدم الاجتناب عن الطعام استخفافاً بتحریم المیتة.
ولکن نوقش فیهما: أمّا الاستدلال بالآیة الشریفة ففیه أنّه فسّر المفسّرون (الرُّجْزَ) بالمعصیة دون النجس.
وبناءً علی کون المراد بالرجز النجس، فغایة ما تدلّ علیه الآیة الشریفة هی
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 242
وجوب الاجتناب عن نفس النجس ولا دلالة لها علی الاجتناب عن ملاقی النجس، والقول بأنّ الاجتناب عن الرجز والنجس اجتناب عنه وعن جوانبه وملاقیه خلاف الظاهر.
وأمّا الاستدلال بالروایة ففیه ـ مضافاً إلی ضعف السند بعمر بن شمر واحتمال تفسّخ المیتة فی السمن، بحیث جعل الامتزاج والاختلاط وصار الحکم واحد فی الاستعمال والاجتناب ـ أنّ الروایة لم تسق لبیان نجاسة الملاقی للفأرة حتّی یستطهر منها ما ذکر، بل سیقت لبیان ردّ قول السائل: إنّ الفأرة أهون علیّ من أن أترک طعامی من أجلها؛ فإنّ ذلک استخفاف لحکم الله تعالی لتعلّق حکمه علی کلّ میتة.
وبالجملة: الروایة بصدد ردّ مزعمة الراوی أنّ بنجاسة الفأرة وهی جسم صغیر کیف یحرم ما فی الخابیة مع عظمها؟ فردّه علیه السلام بأنّ مزعمتک استخفاف بدین الله حقیقة لا استخفاف بالفأرة؛ لأنّ الله تعالی جعل النجاسة لکلّ أفراد المیتة صغیرها وکبیرها.
فتحصّل أنّه لا یستفاد من الآیة الشریفة ولا من الروایة أن نجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ والاجتناب عنه من شؤون الاجتناب عن النجس.
والذی علیه العقلاء هو أنّ استقذارهم الملاقی للنجس بلحاظ وجود القذر فیه؛ لأنّ الشیء غیر النجس خالٍ عن القذارة لا یتنفّرون عنه، وبلحاظ ملاقاته للنجس یتنفّرون عنه تنفّراً مستقلاًّ بتبع الملاقی للقذر، فیرون سرایة القذر من النجس إلی الملاقی ـ بالکسر ـ .
ویستفاد ممّا دلّ علی طهارة الشی النجس بالماء أو إشراق الشمس والأرض
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 243
ونحوها: أنّ الأشیاء غیر المتنجّسة بملاقاتها النجس تصیر قذراً وتلک الاُمور تطهّرها.
وما ذکرنا هو ارتکاز العقلاء فی الأشیاء الملاقیة للنجس، والشارع أقرّهم علی ذلک فبملاقا الشیء للنجس یصیر نجساً وقذراً فیجب الاجتناب عنه مستقلاًّ وإن کان ذلک بتبع ملاقاة النجس وتزول ذلک بالماء والشمس والأرض وغیرها من المطهّرات.
ولإیضاح ما ذکرنا یمکن الاستدلال لکون نجاسة الملاقی نجاسة اُخری مستقلّة بالجعل والتعبّد بالاجتناب عنه بمفهوم قوله علیه السلام: «إذا کان الماء قدر کرّ لم ینجّسه شیء» فإنّ المفهوم منه أنّ الماء غیر البالغ حدّ الکرّ ینجّسه کلّ النجاسات أو بعضها ـ أی یجعله نجساً ـ فالظاهر منه أنّ الأعیان النجسة واسطة لثبوت النجاسة للماء غیر البالغ للکرّ، فیصیر الماء لأجل ملاقاة النجس فرداً من النجاسات مختصّاً بالجعل ووجوب الاجتناب.
وکذا یمکن الاستدلال بقوله علیه السلام: «الماء کلّه طاهر حتّی تعلم أنّه قذر» فإنّ معناه أنّ الماء طاهر حتّی تعلم أنّه صار قذراً بواسطة الملاقاة للقذر.
وکذا یمکن الاستظهار لذلک بما دلّ علی أنّ الماء، أو الأرض أو الشمس وغیرها مطهّرات للأشیاء، فإنّ الظاهر منها أنّ الأشیاء تصیر نجسة، فتطهر بها.
فتحصّل أنّه لا ینبغی الإشکال فی أنّ نجاسة الملاقی للنجس إنّما هی من نجاسة العین النجسة التی یلاقیها، کما أنّ الظاهر أنّه مختصّ بجعل آخر ووجوب
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 244
اجتناب مستقلّ به، لا أنّ وجوب الاجتناب عنه عین وجوب الاجتناب عن العین النجسة من غیر جعل آخر متعلّق به.
وبما ذکرنا یعلم حکم الملاقی لأحد أطراف المعلوم بالإجمال فعلی القول الأوّل یجب الاجتناب عن الملاقی لأجل تحصیل البراءة الیقینیة عن الاشتغال الیقینی؛ للشکّ فی حصول الامتثال بالاجتناب عن الأطراف دون الملاقی؛ لأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی علی فرض نجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ لیس وجوباً وتکلیفاً مستقلاًّ بل وجوب الاجتناب عنه بنفس الوجوب المتعلّق بالملاقی ـ بالفتح ـ فیجب الاجتناب عن الکلّ تحصیلاً للبراءة، وأمّا علی القول المختار، فحیث إنّه حکم مستقلّ، فالحکم هو البراءة للشکّ فی حدوث النجاسة، لکن علی تفصیل سیأتی بیانه فارتقب.
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 245