المرحلة الثالثة فی الاشتغال

الجهة الاُولی: من أنّ ملاقی النجس بعنوانه من النجس

الجهة الاُولی: من أنّ ملاقی النجس بعنوانه من النجس

‏حیث إنّ المسألة مسألة فقهیة حیث یبحث فیها عن نجاسة المشتبه، فمحلّها ‏‎ ‎‏باب النجاسات من کتاب الطهارة، فلابدّ وأن یبحث هناک إلا أنّه لا بأس ‏‎ ‎‏بالإشارة الإجمالیة إلیها هنا، فنقول: ‏

‏هل النجاسات الشرعیة هی المستقذرات العرفیة، فکلّ ما یستقذره العرف ‏‎ ‎‏والعقلاء ویتنفّرون منه هو الذی جعله الشارع نجساً، فکما أنّ العرف والعقلاء قد ‏‎ ‎‏یتقذّرون من بعض الأشیاء ویتنفّرون منه، وقد لا یتقذّرون من بعض آخر، ‏‎ ‎‏والشارع جعل ما یستقذره العقلاء نجساً، فالنجس الشرعی عبارة عن المستقذر ‏‎ ‎‏العرفی، فجمیع النجاسات مستقذرات عرفیة عقلائیة. ‏

‏أو یقال: إنّ القذارات العرفیة وإن کانت هی النجاسات إلا أن الشارع ‏‎ ‎‏الأقدس جعل النجاسة علی بعض اُمور لا یکون قذراً عند العرف والعقلاء وأمر ‏‎ ‎‏بترتّب آثار القذارة علیها مثلاً حکم الشارع بنجاسة الکافر لیس لقذارة فیه تزول ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 240
‏بالإسلام وبإقرار الشهادتین ولعلّه لا ینقدح ذلک فی ذهنهم، بل لأجل عدم ‏‎ ‎‏معاشرة المسلمین ومخالطتهم إیّاهم، فالحکم بنجاستهم حکم سیاسی إسلامی ‏‎ ‎‏لیتنفّر المسلمون عنهم ولا یخالطوهم، لا لأجل قذارة معنویة فیهم. ‏

‏وکذا حکم الشارع بنجاسة الخمر لیس لقذارة فیها، بل لأجل ترتّب مفاسد ‏‎ ‎‏کثیرة مترتّبة علیها. فالنجاسات الشرعیة علی نحوین، فقسم منه ما یکون قذراً ‏‎ ‎‏عرفاً وقسم آخر ما لم یکن قذراً عرفاً إلا أنّ الشارع لمصالح جعله نجساً. ‏

‏فلابدّ من ملاحظة محیط العرف والعقلاء فیما یستقذرونه فإذا استقذروا من ‏‎ ‎‏شیء یستقذرون من ملاقیه، ولا إشکال ولا خلاف فی ذلک بل ضرورة الفقه ‏‎ ‎‏علی وجوب اجتناب ملاقی النجس القطعی. ‏

‏ولکن وقع الخلاف فی أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی، هل هو من شؤون ‏‎ ‎‏الاجتناب عن نفس النجس ولیس وجوب الاجتناب عن الملاقی لأجل تعبّد ‏‎ ‎‏آخر وراء التعبّد بوجوب الاجتناب عن النجس ویکون المرتکب للملاقی معاقباً ‏‎ ‎‏علی ارتکاب النجس لا علی ارتکاب ملاقیه؛ لعدم حکم مستقلّ للملاقی. ‏

‏وبالجملة: لیس هنا إلا وجوب اجتناب واحد وهو وجوب الاجتناب عن ‏‎ ‎‏النجس ولا یتحقّق ذلک إلا بالاجتناب عنه وعن حواشیه وملاقیه. ‏

‏أو أنّ الملاقی یختصّ بجعل مستقلّ فی عرض الاجتناب عن النجس وهذا ‏‎ ‎‏الوجوب مجعول علی عنوان ملاقی النجس من دون أن یکون وجوبه عین ‏‎ ‎‏وجوبه ومن شؤونه، فالاجتناب عن الملاقی امتثال مستقلّ کما أنّ الاجتناب عن ‏‎ ‎‏النجس امتثال آخر؟ ـ وقس علیه العصیان والعقاب ـ وجهان، بل قولان: ‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 241
‏حکی الأوّل عن ابن زهرة‏‎[1]‎‏ ومن تبعه‏‎[2]‎‏ کما حکی الثانی عن المشهور.‏

‏ ‏‏واستدلّ لمقال ابن زهرة بقوله تعالی: ‏(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)‎[3]‎‏؛ لأنّ معنی الهجرة ‏‎ ‎‏عن النجس الاجتناب عنه وعن ملاقیه وحواشیه. ‏

‏وبما رواه عمرو بن شمر عن جابر الجعفی عن أبی جعفر السلام: أنّه أتاه رجل، ‏‎ ‎‏فقال له وقعت فأرة فی خابیة فیها سمن أو زیت فما تری فی أکله؟ فقال أبو ‏‎ ‎‏جعفر علیه السلام: «‏لا تأکله‏»، فقال الرجل: الفأرة أهون علیّ من أن أترک طعامی ‏‎ ‎‏لأجلها، فقال أبو جعفر علیه السلام: «‏إنک لم تستخفّ بالفأرة وإنّما استخففت بدینک، ‎ ‎إن الله حرّم المیتة من کلّ شیء‏»‏‎[4]‎‏. ‏

‏تقریب الدلالة: أنّه جعل علیه السلام عدم الاجتناب عن الطعام الذی وقعت فیه الفأرة ‏‎ ‎‏استخفافاً للدین وبیّنه بأنّ الله حرّم المیتة من کلّ شیء ولو لا کون الاجتناب من ‏‎ ‎‏الملاقی ـ بالکسر ـ من شؤون الاجتناب من الملاقی ـ بالفتح ـ لم یکن عدم ‏‎ ‎‏الاجتناب عن الطعام استخفافاً بتحریم المیتة.‏

‏ولکن نوقش فیهما: أمّا الاستدلال بالآیة الشریفة ففیه أنّه فسّر المفسّرون ‏‎ ‎(الرُّجْزَ)‏ بالمعصیة‏‎[5]‎‏ دون النجس. ‏

‏وبناءً علی کون المراد بالرجز النجس، فغایة ما تدلّ علیه الآیة الشریفة هی ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 242
‏وجوب الاجتناب عن نفس النجس ولا دلالة لها علی الاجتناب عن ملاقی ‏‎ ‎‏النجس، والقول بأنّ الاجتناب عن الرجز والنجس اجتناب عنه وعن جوانبه ‏‎ ‎‏وملاقیه خلاف الظاهر. ‏

‏وأمّا الاستدلال بالروایة ففیه ـ مضافاً إلی ضعف السند بعمر بن شمر واحتمال ‏‎ ‎‏تفسّخ المیتة فی السمن، بحیث جعل الامتزاج والاختلاط وصار الحکم واحد فی ‏‎ ‎‏الاستعمال والاجتناب ـ أنّ الروایة لم تسق لبیان نجاسة الملاقی للفأرة حتّی ‏‎ ‎‏یستطهر منها ما ذکر، بل سیقت لبیان ردّ قول السائل: إنّ الفأرة أهون علیّ من أن ‏‎ ‎‏أترک طعامی من أجلها؛ فإنّ ذلک استخفاف لحکم الله تعالی لتعلّق حکمه علی ‏‎ ‎‏کلّ میتة.‏

‏وبالجملة: الروایة بصدد ردّ مزعمة الراوی أنّ بنجاسة الفأرة وهی جسم صغیر ‏‎ ‎‏کیف یحرم ما فی الخابیة مع عظمها؟ فردّه علیه السلام بأنّ مزعمتک استخفاف بدین الله ‏‎ ‎‏حقیقة لا استخفاف بالفأرة؛ لأنّ الله تعالی جعل النجاسة لکلّ أفراد المیتة صغیرها ‏‎ ‎‏وکبیرها. ‏

‏فتحصّل أنّه لا یستفاد من الآیة الشریفة ولا من الروایة أن نجاسة الملاقی ـ ‏‎ ‎‏بالکسر ـ والاجتناب عنه من شؤون الاجتناب عن النجس. ‏

‏والذی علیه العقلاء هو أنّ استقذارهم الملاقی للنجس بلحاظ وجود القذر ‏‎ ‎‏فیه؛ لأنّ الشیء غیر النجس خالٍ عن القذارة لا یتنفّرون عنه، وبلحاظ ملاقاته ‏‎ ‎‏للنجس یتنفّرون عنه تنفّراً مستقلاًّ بتبع الملاقی للقذر، فیرون سرایة القذر من ‏‎ ‎‏النجس إلی الملاقی ـ بالکسر ـ . ‏

‏ویستفاد ممّا دلّ علی طهارة الشی النجس بالماء أو إشراق الشمس والأرض ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 243
‏ونحوها: أنّ الأشیاء غیر المتنجّسة بملاقاتها النجس تصیر قذراً وتلک الاُمور ‏‎ ‎‏تطهّرها. ‏

‏وما ذکرنا هو ارتکاز العقلاء فی الأشیاء الملاقیة للنجس، والشارع أقرّهم ‏‎ ‎‏علی ذلک فبملاقا الشیء للنجس یصیر نجساً وقذراً فیجب الاجتناب عنه مستقلاًّ ‏‎ ‎‏وإن کان ذلک بتبع ملاقاة النجس وتزول ذلک بالماء والشمس والأرض وغیرها ‏‎ ‎‏من المطهّرات. ‏

‏ولإیضاح ما ذکرنا یمکن الاستدلال لکون نجاسة الملاقی نجاسة اُخری ‏‎ ‎‏مستقلّة بالجعل والتعبّد بالاجتناب عنه بمفهوم قوله علیه السلام: «‏إذا کان الماء قدر کرّ ‎ ‎لم ینجّسه شیء‏»‏‎[6]‎‏ فإنّ المفهوم منه أنّ الماء غیر البالغ حدّ الکرّ ینجّسه کلّ ‏‎ ‎‏النجاسات أو بعضها ـ أی یجعله نجساً ـ فالظاهر منه أنّ الأعیان النجسة واسطة ‏‎ ‎‏لثبوت النجاسة للماء غیر البالغ للکرّ، فیصیر الماء لأجل ملاقاة النجس فرداً من ‏‎ ‎‏النجاسات مختصّاً بالجعل ووجوب الاجتناب. ‏

‏وکذا یمکن الاستدلال بقوله علیه السلام: «‏الماء کلّه طاهر حتّی تعلم أنّه قذر‏»‏‎[7]‎‏ فإنّ ‏‎ ‎‏معناه أنّ الماء طاهر حتّی تعلم أنّه صار قذراً بواسطة الملاقاة للقذر. ‏

‏وکذا یمکن الاستظهار لذلک بما دلّ علی أنّ الماء، أو الأرض أو الشمس ‏‎ ‎‏وغیرها مطهّرات للأشیاء، فإنّ الظاهر منها أنّ الأشیاء تصیر نجسة، فتطهر بها. ‏

‏فتحصّل أنّه لا ینبغی الإشکال فی أنّ نجاسة الملاقی للنجس إنّما هی من ‏‎ ‎‏نجاسة العین النجسة التی یلاقیها، کما أنّ الظاهر أنّه مختصّ بجعل آخر ووجوب ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 244
‏اجتناب مستقلّ به، لا أنّ وجوب الاجتناب عنه عین وجوب الاجتناب عن العین ‏‎ ‎‏النجسة من غیر جعل آخر متعلّق به. ‏

‏وبما ذکرنا یعلم حکم الملاقی لأحد أطراف المعلوم بالإجمال فعلی القول ‏‎ ‎‏الأوّل یجب الاجتناب عن الملاقی لأجل تحصیل البراءة الیقینیة عن الاشتغال ‏‎ ‎‏الیقینی؛ للشکّ فی حصول الامتثال بالاجتناب عن الأطراف دون الملاقی؛ لأنّ ‏‎ ‎‏وجوب الاجتناب عن الملاقی علی فرض نجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ لیس وجوباً ‏‎ ‎‏وتکلیفاً مستقلاًّ بل وجوب الاجتناب عنه بنفس الوجوب المتعلّق بالملاقی ‏‎ ‎‏ـ بالفتح ـ فیجب الاجتناب عن الکلّ تحصیلاً للبراءة، وأمّا علی القول المختار، ‏‎ ‎‏فحیث إنّه حکم مستقلّ، فالحکم هو البراءة للشکّ فی حدوث النجاسة، لکن ‏‎ ‎‏علی تفصیل سیأتی بیانه فارتقب. ‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 245

  • . غنیة النزوع 1: 46.
  • . اُنظر: فرائد الاُصول، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25: 239 ـ 240.
  • . المدّثّر (74): 5.
  • . تهذیب الأحکام 1: 420 / 1327؛ وسائل الشیعة 1: 206، کتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحدیث 2.
  • . التبیان فی تفسیر القرآن 10: 173؛ مجمع البیان 10: 581.
  • . راجع: وسائل الشیعة 1: 158، کتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.
  • . راجع: وسائل الشیعة 1: 134، کتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحدیث 5.