المرحلة الثالثة فی الاشتغال

ذکر وتعقیب

ذکر وتعقیب

‏إذا أحطت خبراً بما ذکرنا یظهر لک النظر فیما أفاده المحقّق النائینی قدس سره فإنّه ‏‎ ‎‏فصّل بین عدم القدرة العادیة وعدم الإرادة عادة بتقریب: أنّ القدرة من شرائط ‏‎ ‎‏حسن الخطاب ولابدّ من أخذها قیداً فی التکلیف، وأمّا إرادة الفعل فلیس لها ‏‎ ‎‏دخل فی حسن الخطاب ولا یعقل أخذها قیداً فیه وجوداً وعدماً؛ لأنّه من ‏‎ ‎‏الانقسامات اللاحقة للتکلیف ولا دخل لها فی حسن الخطاب ولا یعقل أخذها ‏‎ ‎‏قیداً فی التکلیف وجوداً وعدماً؛ لأنّ التکلیف إنّما هو لبعث الإرادة فلا یمکن ‏‎ ‎‏التکلیف مقیّداً بحال وجود الإرادة بخلاف القدرة، فإنّها بکلا قسمیها من العقلیة ‏‎ ‎‏والعادیة من الانقسامات السابقة علی التکلیف التی لابدّ من اعتبارها فی متعلّق ‏‎ ‎‏التکلیف؛ لما عرفت من قبح التکلیف واستهجانه عند عدم القدرة العقلیة ‏‎ ‎‏والعادیة، فقیاس باب القدرة بباب الإرادة لیس فی محلّه‏‎[1]‎‏. ‏

‏توضیح النظر: هو أنّ التفرقة بین عدم القدرة العقلیة أو العادیة، ووجود ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 201
‏الداعی الطبیعی إلی العمل أو الانزجار الفطری عنه بعدم الصحّة فی الاُولیین ‏‎ ‎‏والصحّة فی الأخیرتین غریب فإنّ خطاب من یرید العقل طبعاً أو یترک الشیء ‏‎ ‎‏ذاتاً مستهجن؛ لعدم الملاک لإبراز الإرادة کخطاب من لا یقدر، فکما لا یصحّ ‏‎ ‎‏النهی عن فعل غیر مقدور عادة، فکذلک یقبح النهی عن شیء لا ینقدح فی ‏‎ ‎‏الأذهان ارتکابه کالنهی عن کشف العورة بین الناس موجّهاً ذلک الخطاب إلی ‏‎ ‎‏صاحب المروّة والنهی عن أکل القاذورات. ‏

‏والحاصل: أنّ التکلیف لإیجاد الداعی ولو لأجل الخوف من العذاب أو ‏‎ ‎‏لطمع فی الثواب، والتارک للشیء بالطبع سواء نهی المولی عنه أو لم ینه عنه ‏‎ ‎‏یکون تارکاً له، فالزجر عنه غیر ممکن؛ لعدم تحقّق مبادئ الإرادة الجدّیة هناک. ‏

‏الرابع: أنّه یلزم علی کون الخطاب شخصیاً عدم وجوب الاحتیاط عند الشکّ ‏‎ ‎‏فی القدرة یکون الشکّ فی تحقّق ما هو الجزء للموضوع، لأنّ خطاب العاجز ‏‎ ‎‏قبیح والشکّ فی حصول القدرة وعدمها شکّ فی المصداق وهو خلاف السیرة ‏‎ ‎‏الموجودة بین الفقهاء من لزوم الاحتیاط عند الشکّ فی القدرة. ‏

‏الخامس: لزوم الالتزام بأنّ الخطابات والأحکام الوضعیة مختصّة بما هو محلّ ‏‎ ‎‏الابتلاء؛ لأنّ جعل الحکم الوضعی إن کان تبعاً للتکلیف فواضح، ومع عدم ‏‎ ‎‏التبعیة والاستقلال بالجعل فلأنّ الجعل إنّما هو بلحاظ الأثر، ولهذا لا یمکن جعل ‏‎ ‎‏حکم وصفی لا یترتّب علیه أثر مطلقاً، فجعل النجاسة للخمر أو البول للآثار ‏‎ ‎‏المترتّبة علیهما، کحرمة الشرب وبطلان الصلاة مع تلوّث اللباس بهما، ومع ‏‎ ‎‏الخروج عن محلّ الابتلاء لا یترتّب علیهما الأثر، فلابدّ من الالتزام بأنّ النجاسة ‏‎ ‎‏أو الحلّیة وغیرهما من الوضعیات من الاُمور النسبیة بلحاظ حالات المکلّفین، ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 202
‏فتکون الخمر والبول نجسین بالنسبة إلی من کان مبتلیً بهما دون من لم یبتل ‏‎ ‎‏بهما، ولا أظنّ التزامهم بذلک؛ للزوم الإخلال فی الفقه والدلیل العقلی غیر قابل ‏‎ ‎‏للتخصیص. ‏

‏وبعد ما عرفت أنّ اللوازم المذکورة غیر الملائمة یکشف ذلک عن فساد ‏‎ ‎‏المبنی، وأمّا علی المبنی المختار فکلّها مندفعة، فإنّ الخطابات الإلهیة أحکام ‏‎ ‎‏فعلیة فی حقّ الجمیع، کان المکلّف عاجزاً أو جاهلاً، أو مصروفاً عنه دواعیه أو ‏‎ ‎‏لم تکن، وإن کان العجز أو الجهل عذراً عقلیاً، وقس علیه الخروج عن محلّ ‏‎ ‎‏الابتلاء فهو لا یوجب وهناً فی التکلیف، ولابدّ من الخروج عن عهدته بترک ما ‏‎ ‎‏یکون فی محلّ الابتلاء، وقد أشرنا إلی أنّ ما هو الشرط فی صحّة الخطاب ‏‎ ‎‏القانونی غیر ما هو الشرط فی صحّة الخطاب الشخصی، من غیر فرق بین ‏‎ ‎‏التکلیف المعلوم بالتفصیل أو بالإجمال.‏

‏فلابدّ من الخروج عن عهدة التکلیف المعلوم بالموافقة القطعیة، والاجتناب ‏‎ ‎‏عن المخالفة القطعیة، بل الاحتمالیة، ومجرّد کون أحد الطرفین أو الأطراف ‏‎ ‎‏خارجاً عن محلّ الابتلاء أو مصروفاً عنه الدواعی لا یوجب نقصاً ووهناً فی ‏‎ ‎‏التکلیف القانونی، وإن کان موجباً له فی التکلیف الشخصی. ‏

‏ولا یلزم ممّا ذکرنا من عدم التکلیف الجدّی الشخصی فی الموارد التی ‏‎ ‎‏تکون الدواعی مصروفة عنها أن یکون التکلیف متقیّد بالإرادة حتّی یقال: إنّ ‏‎ ‎‏التقیید بها غیر معقول دون التقیید بالقدرة العقلیة أو العادیة، کما أشار إلیه ‏‎ ‎‏المحقّق النائینی قدس سره. ‏

‏بل المراد أنّ التکلیف إنّما یتوجّه إلی المکلّف لأجل الداعی له ولو بمبادٍ ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 203
‏اُخر من خوف العقاب، أو الطمع فی الثواب والتارک للشیء بإرادته ـ سواء تعلّق ‏‎ ‎‏النهی به أم لا ـ لا یصیر التکلیف داعیاً له وباعثاً إیّاه، فیکون مستهجناً لغواً، بل ‏‎ ‎‏فی جمیع تلک الموارد یکون التکلیف الجدّی للبعث محالاً؛ لعدم تحقّق مبادئ ‏‎ ‎‏الإرادة فیها فمن یترک شرب الخمر بإرادته کمن لا یقدر علیه عادة یستهجن بل ‏‎ ‎‏یمتنع الخطاب بالنسبة إلیه، هذا واضح لا سترة فیه. ‏

‏إن قلت: إنّ عدم إیجاب الخروج عن محلّ الابتلاء نقصاً ووهناً فی التکلیف ‏‎ ‎‏ولابدّ من الخروج عن عهدته بترک ما یکون فی محلّ الابتلاء بالنسبة إلی حکم ‏‎ ‎‏العقل فما تقول فی الأدلّة النقلیة والاُصول الشرعیة کأصلی الطهارة والحلّیة؟ فإنّ ‏‎ ‎‏جریان الأصل العملی بالنسبة إلی الخارج عن محلّ الابتلاء ممّا لا معنی له، ومع ‏‎ ‎‏عدم جریانه بالنسبة إلی بعض الأطراف یکون جریانه بالنسبة إلی البعض الآخر ‏‎ ‎‏ممّا لا مانع منه؛ لعدم الإذن فی المخالفة القطعیة والإذن فی المخالفة الاحتمالیة ‏‎ ‎‏ممّا لا مانع منه. ‏

‏قلت: أوّلاً إنّ عدم جریان الاُصول العملیة فی الخارج عن محلّ الابتلاء محلّ ‏‎ ‎‏منع؛ فإنّ جعل الطهارة والحلّیة الظاهریتین فی المشکوک فیه بنحو الجعل العامّ ‏‎ ‎‏ممّا لا مانع منه ولیس لکلّ أحد أصل مجعول بالخصوص، بل الشارع جعل ‏‎ ‎‏الحلّیة والطهارة بنحو العموم للمشکوک ولازمه ترتّب الآثار العملیة، ولیست ‏‎ ‎‏الأدلّة ناظرة إلی آحاد الأشخاص وآحاد الوقائع المشکوک فیها. ‏

‏وثانیاً: لو سلّم عدم جریانه فی الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء فلا یجری فی ‏‎ ‎‏الطرف الآخر، لما ذکرنا من أنّ الأدلّة العامّة المرخّصة لا یصلح للترخیص بالنسبة ‏‎ ‎‏إلی أطراف المعلوم بالإجمال، بل لابدّ منه من دلیل دالّ علی نحو الضابطة. ‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 204
‏فتحصّل ممّا ذکرنا أنّ خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء ممّا لا تأثیر له ‏‎ ‎‏فی منجّزیة العلم الإجمالی وبعد الخروج یؤثّر العلم الإجمالی أثره. ‏

‏إن قلت: فما معنی صحیح علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن موسی بن ‏‎ ‎‏جعفر علیه السلام قال: سألته عن رجل رعف فامتخط، فصار بعض ذلک الدم قطراً ‏‎ ‎‏صغاراً، فأصاب إنائه، هل یصلح له الوضوء منه؟ فقال: ‏«إن لم یکن شیئاً یستبین ‎ ‎فی الماء، فلا بأس، وإن کان شیئاً بیّناً فلا تتوضّأ منه»‎[2]‎‏. ‏

‏حیث دلّ علی عدم الاجتناب عن الإناء الذی أصابه الماء إذا لم یکن شیئاً ‏‎ ‎‏یستبین فی الماء وقد حمله الشیخ الأنصاری قدس سره علی العلم الإجمالی بإصابة ظهر ‏‎ ‎‏الإناء أو باطنه المحتوی للماء وحملها علی خروج ظاهر الإناء عن محلّ الابتلاء. ‏

‏وبالجملة: یدلّ الصحیح علی عدم الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالی إذا ‏‎ ‎‏کان بعض أطرافه خارجاً عن محلّ الابتلاء‏‎[3]‎‏. ‏

‏قلت: حمل الشیخ قدس سره لا یخلو عن غرابة؛ إذ کیف یکون ظهر الإناء الذی بین ‏‎ ‎‏یدی المکلّف خارجاً عن ابتلائه. ‏

‏وبالجملة: الإناء الذی بین یدیه محلّ لابتلائه ومجرّد عدم إرادة استعمال ظهر ‏‎ ‎‏الإناء لا یوجب خروجه عن محلّ الابتلاء، کما لا یخفی. ‏

‏وقد حمله شیخ الطائفة قدس سره‏‎[4]‎‏ علی الأجزاء الصغار جدّاً ممّا لا یدرکها الطَرف ‏‎ ‎‏ولابدّ لرؤیتها من استعمال آلات مکبّرة ممّا لا حکم له شرعاً؛ لخروجها عن ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 205
‏الموضوع العرفی کالأجزاء الصغار التی لا تکون ینظرها العرف، أو الأجزاء ‏‎ ‎‏الصغار الموجودة فی البخار الحاصل منه، ولا ینافی هذا الحمل العلم بإصابة ‏‎ ‎‏الإناء؛ فإنّ العلم بها لا یکون بإدراک الطرف. ‏

‏ولک أن تحمل الصحیح علی إبداء الشکّ فی أصل الإصابة مطلقاً، کما حکی ‏‎ ‎‏عن الشهید الثانی قدس سره فی المسالک، بدعوی أنّ التفرقة بین الإصابة وعدم الاستبانة ‏‎ ‎‏إشارة إلی صورة العلم وصورة الشکّ فیه‏‎[5]‎‏. ‏

‏ولکن فیه: أنّه خلاف ظاهره وخلاف التعبیر بإصابة الإناء. ‏

‏وقد حمل بعضهم الصحیح علی خروج ذلک عن الشبهة المحصورة‏‎[6]‎‏. ‏

‏ولکنّه بعید. ‏

‏وکیف کان: الصحیح بظاهره ممّا أعرض عنه الأصحاب فلابدّ من تأویله؛ ‏‎ ‎‏لأنّ ظاهره عدم تنجّس الماء القلیل بدم لا یدرکه الطرف، أو ردّ علمه إلی أهله ‏‎ ‎‏فتدبّر. ‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 206

  • . فوائد الاُصول 4: 53.
  • . وسائل الشیعة 1: 150، کتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحدیث 1.
  • . کتاب الطهارة، ضمن تراث الشیخ الأعظم 1: 280.
  • . الاستبصار 1: 23.
  • . مسالک الأفهام 1: 25.
  • . اُنظر: مدارک الأحکام 1: 139.