ذکر وتعقیب
إذا أحطت خبراً بما ذکرنا یظهر لک النظر فیما أفاده المحقّق النائینی قدس سره فإنّه فصّل بین عدم القدرة العادیة وعدم الإرادة عادة بتقریب: أنّ القدرة من شرائط حسن الخطاب ولابدّ من أخذها قیداً فی التکلیف، وأمّا إرادة الفعل فلیس لها دخل فی حسن الخطاب ولا یعقل أخذها قیداً فیه وجوداً وعدماً؛ لأنّه من الانقسامات اللاحقة للتکلیف ولا دخل لها فی حسن الخطاب ولا یعقل أخذها قیداً فی التکلیف وجوداً وعدماً؛ لأنّ التکلیف إنّما هو لبعث الإرادة فلا یمکن التکلیف مقیّداً بحال وجود الإرادة بخلاف القدرة، فإنّها بکلا قسمیها من العقلیة والعادیة من الانقسامات السابقة علی التکلیف التی لابدّ من اعتبارها فی متعلّق التکلیف؛ لما عرفت من قبح التکلیف واستهجانه عند عدم القدرة العقلیة والعادیة، فقیاس باب القدرة بباب الإرادة لیس فی محلّه.
توضیح النظر: هو أنّ التفرقة بین عدم القدرة العقلیة أو العادیة، ووجود
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 201
الداعی الطبیعی إلی العمل أو الانزجار الفطری عنه بعدم الصحّة فی الاُولیین والصحّة فی الأخیرتین غریب فإنّ خطاب من یرید العقل طبعاً أو یترک الشیء ذاتاً مستهجن؛ لعدم الملاک لإبراز الإرادة کخطاب من لا یقدر، فکما لا یصحّ النهی عن فعل غیر مقدور عادة، فکذلک یقبح النهی عن شیء لا ینقدح فی الأذهان ارتکابه کالنهی عن کشف العورة بین الناس موجّهاً ذلک الخطاب إلی صاحب المروّة والنهی عن أکل القاذورات.
والحاصل: أنّ التکلیف لإیجاد الداعی ولو لأجل الخوف من العذاب أو لطمع فی الثواب، والتارک للشیء بالطبع سواء نهی المولی عنه أو لم ینه عنه یکون تارکاً له، فالزجر عنه غیر ممکن؛ لعدم تحقّق مبادئ الإرادة الجدّیة هناک.
الرابع: أنّه یلزم علی کون الخطاب شخصیاً عدم وجوب الاحتیاط عند الشکّ فی القدرة یکون الشکّ فی تحقّق ما هو الجزء للموضوع، لأنّ خطاب العاجز قبیح والشکّ فی حصول القدرة وعدمها شکّ فی المصداق وهو خلاف السیرة الموجودة بین الفقهاء من لزوم الاحتیاط عند الشکّ فی القدرة.
الخامس: لزوم الالتزام بأنّ الخطابات والأحکام الوضعیة مختصّة بما هو محلّ الابتلاء؛ لأنّ جعل الحکم الوضعی إن کان تبعاً للتکلیف فواضح، ومع عدم التبعیة والاستقلال بالجعل فلأنّ الجعل إنّما هو بلحاظ الأثر، ولهذا لا یمکن جعل حکم وصفی لا یترتّب علیه أثر مطلقاً، فجعل النجاسة للخمر أو البول للآثار المترتّبة علیهما، کحرمة الشرب وبطلان الصلاة مع تلوّث اللباس بهما، ومع الخروج عن محلّ الابتلاء لا یترتّب علیهما الأثر، فلابدّ من الالتزام بأنّ النجاسة أو الحلّیة وغیرهما من الوضعیات من الاُمور النسبیة بلحاظ حالات المکلّفین،
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 202
فتکون الخمر والبول نجسین بالنسبة إلی من کان مبتلیً بهما دون من لم یبتل بهما، ولا أظنّ التزامهم بذلک؛ للزوم الإخلال فی الفقه والدلیل العقلی غیر قابل للتخصیص.
وبعد ما عرفت أنّ اللوازم المذکورة غیر الملائمة یکشف ذلک عن فساد المبنی، وأمّا علی المبنی المختار فکلّها مندفعة، فإنّ الخطابات الإلهیة أحکام فعلیة فی حقّ الجمیع، کان المکلّف عاجزاً أو جاهلاً، أو مصروفاً عنه دواعیه أو لم تکن، وإن کان العجز أو الجهل عذراً عقلیاً، وقس علیه الخروج عن محلّ الابتلاء فهو لا یوجب وهناً فی التکلیف، ولابدّ من الخروج عن عهدته بترک ما یکون فی محلّ الابتلاء، وقد أشرنا إلی أنّ ما هو الشرط فی صحّة الخطاب القانونی غیر ما هو الشرط فی صحّة الخطاب الشخصی، من غیر فرق بین التکلیف المعلوم بالتفصیل أو بالإجمال.
فلابدّ من الخروج عن عهدة التکلیف المعلوم بالموافقة القطعیة، والاجتناب عن المخالفة القطعیة، بل الاحتمالیة، ومجرّد کون أحد الطرفین أو الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء أو مصروفاً عنه الدواعی لا یوجب نقصاً ووهناً فی التکلیف القانونی، وإن کان موجباً له فی التکلیف الشخصی.
ولا یلزم ممّا ذکرنا من عدم التکلیف الجدّی الشخصی فی الموارد التی تکون الدواعی مصروفة عنها أن یکون التکلیف متقیّد بالإرادة حتّی یقال: إنّ التقیید بها غیر معقول دون التقیید بالقدرة العقلیة أو العادیة، کما أشار إلیه المحقّق النائینی قدس سره.
بل المراد أنّ التکلیف إنّما یتوجّه إلی المکلّف لأجل الداعی له ولو بمبادٍ
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 203
اُخر من خوف العقاب، أو الطمع فی الثواب والتارک للشیء بإرادته ـ سواء تعلّق النهی به أم لا ـ لا یصیر التکلیف داعیاً له وباعثاً إیّاه، فیکون مستهجناً لغواً، بل فی جمیع تلک الموارد یکون التکلیف الجدّی للبعث محالاً؛ لعدم تحقّق مبادئ الإرادة فیها فمن یترک شرب الخمر بإرادته کمن لا یقدر علیه عادة یستهجن بل یمتنع الخطاب بالنسبة إلیه، هذا واضح لا سترة فیه.
إن قلت: إنّ عدم إیجاب الخروج عن محلّ الابتلاء نقصاً ووهناً فی التکلیف ولابدّ من الخروج عن عهدته بترک ما یکون فی محلّ الابتلاء بالنسبة إلی حکم العقل فما تقول فی الأدلّة النقلیة والاُصول الشرعیة کأصلی الطهارة والحلّیة؟ فإنّ جریان الأصل العملی بالنسبة إلی الخارج عن محلّ الابتلاء ممّا لا معنی له، ومع عدم جریانه بالنسبة إلی بعض الأطراف یکون جریانه بالنسبة إلی البعض الآخر ممّا لا مانع منه؛ لعدم الإذن فی المخالفة القطعیة والإذن فی المخالفة الاحتمالیة ممّا لا مانع منه.
قلت: أوّلاً إنّ عدم جریان الاُصول العملیة فی الخارج عن محلّ الابتلاء محلّ منع؛ فإنّ جعل الطهارة والحلّیة الظاهریتین فی المشکوک فیه بنحو الجعل العامّ ممّا لا مانع منه ولیس لکلّ أحد أصل مجعول بالخصوص، بل الشارع جعل الحلّیة والطهارة بنحو العموم للمشکوک ولازمه ترتّب الآثار العملیة، ولیست الأدلّة ناظرة إلی آحاد الأشخاص وآحاد الوقائع المشکوک فیها.
وثانیاً: لو سلّم عدم جریانه فی الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء فلا یجری فی الطرف الآخر، لما ذکرنا من أنّ الأدلّة العامّة المرخّصة لا یصلح للترخیص بالنسبة إلی أطراف المعلوم بالإجمال، بل لابدّ منه من دلیل دالّ علی نحو الضابطة.
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 204
فتحصّل ممّا ذکرنا أنّ خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء ممّا لا تأثیر له فی منجّزیة العلم الإجمالی وبعد الخروج یؤثّر العلم الإجمالی أثره.
إن قلت: فما معنی صحیح علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام قال: سألته عن رجل رعف فامتخط، فصار بعض ذلک الدم قطراً صغاراً، فأصاب إنائه، هل یصلح له الوضوء منه؟ فقال: «إن لم یکن شیئاً یستبین فی الماء، فلا بأس، وإن کان شیئاً بیّناً فلا تتوضّأ منه».
حیث دلّ علی عدم الاجتناب عن الإناء الذی أصابه الماء إذا لم یکن شیئاً یستبین فی الماء وقد حمله الشیخ الأنصاری قدس سره علی العلم الإجمالی بإصابة ظهر الإناء أو باطنه المحتوی للماء وحملها علی خروج ظاهر الإناء عن محلّ الابتلاء.
وبالجملة: یدلّ الصحیح علی عدم الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالی إذا کان بعض أطرافه خارجاً عن محلّ الابتلاء.
قلت: حمل الشیخ قدس سره لا یخلو عن غرابة؛ إذ کیف یکون ظهر الإناء الذی بین یدی المکلّف خارجاً عن ابتلائه.
وبالجملة: الإناء الذی بین یدیه محلّ لابتلائه ومجرّد عدم إرادة استعمال ظهر الإناء لا یوجب خروجه عن محلّ الابتلاء، کما لا یخفی.
وقد حمله شیخ الطائفة قدس سره علی الأجزاء الصغار جدّاً ممّا لا یدرکها الطَرف ولابدّ لرؤیتها من استعمال آلات مکبّرة ممّا لا حکم له شرعاً؛ لخروجها عن
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 205
الموضوع العرفی کالأجزاء الصغار التی لا تکون ینظرها العرف، أو الأجزاء الصغار الموجودة فی البخار الحاصل منه، ولا ینافی هذا الحمل العلم بإصابة الإناء؛ فإنّ العلم بها لا یکون بإدراک الطرف.
ولک أن تحمل الصحیح علی إبداء الشکّ فی أصل الإصابة مطلقاً، کما حکی عن الشهید الثانی قدس سره فی المسالک، بدعوی أنّ التفرقة بین الإصابة وعدم الاستبانة إشارة إلی صورة العلم وصورة الشکّ فیه.
ولکن فیه: أنّه خلاف ظاهره وخلاف التعبیر بإصابة الإناء.
وقد حمل بعضهم الصحیح علی خروج ذلک عن الشبهة المحصورة.
ولکنّه بعید.
وکیف کان: الصحیح بظاهره ممّا أعرض عنه الأصحاب فلابدّ من تأویله؛ لأنّ ظاهره عدم تنجّس الماء القلیل بدم لا یدرکه الطرف، أو ردّ علمه إلی أهله فتدبّر.
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 206