کیفیة وضع الأحکام ومراتبها
فبعد معلومیة موضوع البحث نشیر إلی کیفیة وضع الأحکام الشرعیة ومراتبها، وإنّ تقدیم الأدلّة المرخّصة علی الحجّة المعلومة هل یوجب
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 131
تخصیصاً لأدلّة الواقعیة أم لا؟
یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره أنّ للحکم مراتب أربعة:
الاُولی: مرتبة الاقتضاء. الثانیة: مرتبة الإنشاء. الثالثة: مرتبة الفعلیة. الرابعة: مرتبة التنجّز.
لا یبعد أن یکون مراده بیان مراتب الحکم وشؤونه وما له من الحواشی والملحقات لا حقیقة الحکم؛ لأنّ مرتبة الاقتضاء هی مرتبة الملاکات والمصالح والمفاسد التی تکون موجبة وسبباً لجعل الأحکام فمرتبة الاقتضاء إحدی طرفی الحکم وحاشیته کما أنّ مرتبة التنجّز طرفه الآخر وحاشیته؛ لأنّه بالعلم مثلاً یتنجّز الحکم وتتمّ حجّة المولی علی العبد.
فلا وجه لعدّ مرتبتین الاقتضاء والتنجّز من مراتب الحکم وما یمکن أن یقال بحیث یکون متعارفاً فی وضع القوانین العرفیة المنزّلة علیها الأحکام الشرعیة: هو أن یکون للحکم مرتبتان: مرتبة الإنشاء، ومرتبة الفعلیة، فإنّ المقنّن یتصوّر أنّ إعزام الرجال للجندیّة صلاح للملکة مثلاً فیضع قانوناً بأنّ من بلغ سنة کذا. لابدّ له من الدخول فی العسکر، ثمّ یری أنّ فی الناس من لم یکن صحیحاً وسالماً فلا یتسیّر لکلّ أحد أن یدخل العسکر للخدمة فیذکر تحت عنوان المادّة الواحدة أو التبصرة أو نحوهما أنّ من لم یکن صحیحاً وسالماً، أو لا یتسیّر له الدخول للخدمة لا یجب علیه الخدمة للجندیة، وهکذا جرت سیرة المقنّنین فی وضع القوانین بالنسبة إلی جمیع شؤون مجتمعهم الحیاتیة، فنعبّر عن الحکم المجعول أوّلاً علی کلّ أحد الحکم الإنشائی، وربما استفید منه بعد ملاحظة ما فی المادة الواحدة والتبصرة ما بالحکم الفعلی.
وبالجملة: العمومات أو المطلقات أحکام إنشائیة علی موضوعاتها ویعد طروّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 132
التخصیص أو التقیید علیهما تکون المخصّصات أو المقیّدات أحکاماً فعلیة.
والحاصل أنّ المتعارف فی وضع القوانین أنّه بوضع الحکم أوّلاً ثمّ ربما لا تکون فی العمل بها علی نحو العموم والإطلاق مصلحة أو یکون له مصلحة، لکن لا بالنسبة إلی جمیع الأزمان، بل بالنسبة إلی حصّة من الزمان، والحکم علی هذه کلّها حکم إنشائی فإن وصل بحدّ وکیفیة لابدّ من العمل به فهو حکم فعلی.
هذا حال وضع القوانین العرفیة الدارجة بینهم والشارع أیضاً وافقهم فی وضع القوانین بذکر العمومات والمطلقات أوّلاً ثمّ تعقیبها بذکر المخصّصات والمقیّدات فمثلاً قال: (أوْفُوا بِالْعُقُودِ) ثمّ عقّبه بإخراج العقود الربویة مثلاً، وقال: (أحَلَّ الله الْبَیْعَ) وعقّبه بالقیود؛ فقال: (وَحَرَّمَ الرِّبَوا).
فالحکم المجعول أوّلاً علی نحو العموم والإطلاق حکم إنشائی وما بقی منه بعد التخصیص والتقیید حکم فعلی، فإنّه یستکشف بعد التخصیص والتقیید أنّ العموم والإطلاق ذکر علی نحو القانون، والإرادة الجدّیة تعلّقت بما عدا التخصیص والتقیید، ولوضع القوانین کذلک مصالح منها صحّة التمسّک بالعموم أو المطلق عند الشکّ فی التخصیص والتقیید.
وحیث إنّ الوحی کان ینقطع بموت النبیّ صلی الله علیه وآله وسلم لم یکن لبعض الأحکام اقتضاء الإجراء ومصلحة عند ذلک، فلابدّ للنبیّ صلی الله علیه وآله وسلم من تبلیغه للوصیّ بعده، وهو للوصیّ بعده إلی زمان تقتضی المصلحة الإتیان به، وقد ورد بالنسبة إلی نجاسة العامّة روایات إلا أنّها لا یکون مدلولها حکم فعلی قبل ظهور شمس تلک
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 133
الهدایة مولای ومولی کلّ مؤمن ومؤمنة ـ عجّل الله فرجه الشریف ـ ، بل هو حکم إنشائی قبل ظهور دولة الحقّ، نعم بعد ظهوره یصیر حکماً فعلیاً.
فظهر أنّه یمکن المساعدة علی أنّ للحکم مرتبتین: مرتبة الإنشاء، ومرتبة الفعلیة فی محیط وضع القوانین العرفیة والشرعیة.
ولیعلم: أنّه بعد وصول الحکم للمرتبة الفعلیة ربما تَعرض أعذار عقلیة ـ کالجهل والاضطرار والحرج ونحوها ـ توجب التقاعد عن إتیان المتعلّق، إلا أنّها لا تکون مخصّصات أو مقیّدات بالنسبة إلی الأحکام العقلیة، ولو کانت مقیّدة لابدّ وأن یجوز أن یجعل المکلّف نفسه مضطرّاً کما یمکن أن یجعل الحاضر نفسه مسافراً أو بالعکس.
بل الأحکام باقیة علی فعلیتها لا تمسّ کرامتها شیئاً وقد تسالموا علی التعمیم وعدم تقیید الأحکام بالعالمین بها إمّا للتصویب أو للاستحالة ـ وإن ناقشنا فی الاستحالة ـ وقلنا بعدم اختصاص ذلک بالعلم، بل تعمّ سائر الأعذار العقلیة فإنّها کالعلم لا توجب تقییداً فی الأحکام الأوّلیة.
وغایة ما فی الباب أنّه عند طروّ واحد من الأعذار العقلیة یکون الشخص معذوراً فی ترک الحکم الفعلی.
وأمّا الترخیصات الشرعیة لو قلنا بجریانها فی جمیع أطراف العلم الإجمالی أو بعضها فهی کالأعذار العقلیة من جهة عدم تقیید الأحکام وتخصیصها بوجه، کما أنّ جریان الاُصول فی الشبهات البدویة إذا کانت مخالفة للواقع لا توجب تقییداً بل یکون حال قیام الأمارات علی خلاف الأحکام الواقعیة.
وبالجملة: یشترک الأدلّة المرخّصة فی أطراف المعلوم بالإجمال کلاًّ أو بعضاً مع الأعذار العقلیة من جهة عدم تخصیصها وتقییدها للأحکام الواقعیة وإن کان بینهما
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 134
فرق من جهة اُخری، وفی أنّ الأحکام فی الأعذار العقلیة باقیة علی فعلیتها لا تمسّ کرامتها شیء؛ ضرورة أنّه لیس فی وسع العقل التعدّی عن حریمه والتصرّف فی حیطة سلطنة الشرع وتضییقه تخصیصاً أو تقییداً، وغایة مآله هی درکه المعذوریة، وقاطعیة العذر عند ترک الحکم الواقعی الفعلی عند طروّ الأعذار.
وأمّا فی الترخیصات الشرعیة فقد رفع الید عن الأحکام عند مخالفة الأدلّة المرخّصة إیّاه لمصلحة أقوی وملاک أتمّ، کما هو الشأن فی الأمارات والاُصول فی الشبهات البدویة إذا خالفت الواقع، فإنّه کما أنّ فی الأمر بالعمل بالأمارة أو إمضائها احتمال تفویت الواقع والمصالح والأعراض بلحاظ أدائها أحیاناً إلی خلاف المطلوب ولکن رفع الید عنها للتحفّظ علی غرض أهمّ من حفظ النظام، وعدم إعراض الناس عن الدین ونحو ذلک، وإلا کان علیه حفظها بإیجاب الاحتیاط فکذلک فی جعل الترخیص فی أطراف المعلوم بالإجمال، فإنّه وإن کان یؤدّی إلی تفویت مصلحة الحجّة المعلومة فی البین إلا أنّ مصلحة الترخیص أولی وأهمّ منها، فیرفع الید عن مصلحة تحفّظ الواقع.
وبالجملة: بعد إمکان شمول الأدلّة المرخّصة لأطراف المعلوم بالإجمال کلاًّ أو بعضاً یکون وزانها وزان الأمر بالعمل بالإجازة والترخیص فی الشبهات البدویة من حیث عدم تقیید الأحکام وتخصیصها، بل إجازة فی الترک أو الفعل لمصلحة أقوی وملاک أتمّ.
إذا عرفت ما مهّدنا فالبحث تارة فی تجویز المخالفة القطعیة فی أطراف العلم بالحجّة واُخری فی وجوب الموافقة القطعیة فیقع الکلام فی إمکان کلّ منهما، ثمّ الکلام بعد ذلک فی وقوع الترخیص.
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 135