المرحلة الثالثة فی الاشتغال

کیفیة وضع الأحکام ومراتبها

کیفیة وضع الأحکام ومراتبها

‏فبعد معلومیة موضوع البحث نشیر إلی کیفیة وضع الأحکام الشرعیة ‏‎ ‎‏ومراتبها، وإنّ تقدیم الأدلّة المرخّصة علی الحجّة المعلومة هل یوجب ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 131
‏تخصیصاً لأدلّة الواقعیة أم لا؟ ‏

‏یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره أنّ للحکم مراتب أربعة: ‏

‏الاُولی: مرتبة الاقتضاء. الثانیة: مرتبة الإنشاء. الثالثة: مرتبة الفعلیة. الرابعة: ‏‎ ‎‏مرتبة التنجّز. ‏

‏لا یبعد أن یکون مراده بیان مراتب الحکم وشؤونه وما له من الحواشی ‏‎ ‎‏والملحقات لا حقیقة الحکم؛ لأنّ مرتبة الاقتضاء هی مرتبة الملاکات والمصالح ‏‎ ‎‏والمفاسد التی تکون موجبة وسبباً لجعل الأحکام فمرتبة الاقتضاء إحدی طرفی ‏‎ ‎‏الحکم وحاشیته کما أنّ مرتبة التنجّز طرفه الآخر وحاشیته؛ لأنّه بالعلم مثلاً یتنجّز ‏‎ ‎‏الحکم وتتمّ حجّة المولی علی العبد. ‏

‏فلا وجه لعدّ مرتبتین الاقتضاء والتنجّز من مراتب الحکم وما یمکن أن یقال ‏‎ ‎‏بحیث یکون متعارفاً فی وضع القوانین العرفیة المنزّلة علیها الأحکام الشرعیة: هو ‏‎ ‎‏أن یکون للحکم مرتبتان: مرتبة الإنشاء، ومرتبة الفعلیة، فإنّ المقنّن یتصوّر أنّ ‏‎ ‎‏إعزام الرجال للجندیّة صلاح للملکة مثلاً فیضع قانوناً بأنّ من بلغ سنة کذا. لابدّ ‏‎ ‎‏له من الدخول فی العسکر، ثمّ یری أنّ فی الناس من لم یکن صحیحاً وسالماً فلا ‏‎ ‎‏یتسیّر لکلّ أحد أن یدخل العسکر للخدمة فیذکر تحت عنوان المادّة الواحدة أو ‏‎ ‎‏التبصرة أو نحوهما أنّ من لم یکن صحیحاً وسالماً، أو لا یتسیّر له الدخول ‏‎ ‎‏للخدمة لا یجب علیه الخدمة للجندیة، وهکذا جرت سیرة المقنّنین فی وضع ‏‎ ‎‏القوانین بالنسبة إلی جمیع شؤون مجتمعهم الحیاتیة، فنعبّر عن الحکم المجعول ‏‎ ‎‏أوّلاً علی کلّ أحد الحکم الإنشائی، وربما استفید منه بعد ملاحظة ما فی المادة ‏‎ ‎‏الواحدة والتبصرة ما بالحکم الفعلی. ‏

‏وبالجملة: العمومات أو المطلقات أحکام إنشائیة علی موضوعاتها ویعد طروّ ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 132
‏التخصیص أو التقیید علیهما تکون المخصّصات أو المقیّدات أحکاماً فعلیة. ‏

‏والحاصل أنّ المتعارف فی وضع القوانین أنّه بوضع الحکم أوّلاً ثمّ ربما لا ‏‎ ‎‏تکون فی العمل بها علی نحو العموم والإطلاق مصلحة أو یکون له مصلحة، ‏‎ ‎‏لکن لا بالنسبة إلی جمیع الأزمان، بل بالنسبة إلی حصّة من الزمان، والحکم علی ‏‎ ‎‏هذه کلّها حکم إنشائی فإن وصل بحدّ وکیفیة لابدّ من العمل به فهو حکم فعلی. ‏

‏هذا حال وضع القوانین العرفیة الدارجة بینهم والشارع أیضاً وافقهم فی وضع ‏‎ ‎‏القوانین بذکر العمومات والمطلقات أوّلاً ثمّ تعقیبها بذکر المخصّصات ‏‎ ‎‏والمقیّدات فمثلاً قال: ‏(أوْفُوا بِالْعُقُودِ)‎[1]‎‏ ثمّ عقّبه بإخراج العقود الربویة مثلاً، ‏‎ ‎‏وقال: ‏(أحَلَّ الله الْبَیْعَ)‎[2]‎‏ وعقّبه بالقیود؛ فقال: ‏(وَحَرَّمَ الرِّبَوا)‏. ‏

‏فالحکم المجعول أوّلاً علی نحو العموم والإطلاق حکم إنشائی وما بقی منه ‏‎ ‎‏بعد التخصیص والتقیید حکم فعلی، فإنّه یستکشف بعد التخصیص والتقیید أنّ ‏‎ ‎‏العموم والإطلاق ذکر علی نحو القانون، والإرادة الجدّیة تعلّقت بما عدا ‏‎ ‎‏التخصیص والتقیید، ولوضع القوانین کذلک مصالح منها صحّة التمسّک بالعموم ‏‎ ‎‏أو المطلق عند الشکّ فی التخصیص والتقیید. ‏

‏وحیث إنّ الوحی کان ینقطع بموت النبیّ صلی الله علیه وآله وسلم لم یکن لبعض الأحکام ‏‎ ‎‏اقتضاء الإجراء ومصلحة عند ذلک، فلابدّ للنبیّ صلی الله علیه وآله وسلم من تبلیغه للوصیّ بعده، ‏‎ ‎‏وهو للوصیّ بعده إلی زمان تقتضی المصلحة الإتیان به، وقد ورد بالنسبة إلی ‏‎ ‎‏نجاسة العامّة روایات إلا أنّها لا یکون مدلولها حکم فعلی قبل ظهور شمس تلک ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 133
‏الهدایة مولای ومولی کلّ مؤمن ومؤمنة ـ عجّل الله فرجه الشریف ـ ، بل هو ‏‎ ‎‏حکم إنشائی قبل ظهور دولة الحقّ، نعم بعد ظهوره یصیر حکماً فعلیاً. ‏

‏فظهر أنّه یمکن المساعدة علی أنّ للحکم مرتبتین: مرتبة الإنشاء، ومرتبة ‏‎ ‎‏الفعلیة فی محیط وضع القوانین العرفیة والشرعیة. ‏

‏ولیعلم: أنّه بعد وصول الحکم للمرتبة الفعلیة ربما تَعرض أعذار عقلیة ـ ‏‎ ‎‏کالجهل والاضطرار والحرج ونحوها ـ توجب التقاعد عن إتیان المتعلّق، إلا أنّها ‏‎ ‎‏لا تکون مخصّصات أو مقیّدات بالنسبة إلی الأحکام العقلیة، ولو کانت مقیّدة ‏‎ ‎‏لابدّ وأن یجوز أن یجعل المکلّف نفسه مضطرّاً کما یمکن أن یجعل الحاضر ‏‎ ‎‏نفسه مسافراً أو بالعکس. ‏

‏بل الأحکام باقیة علی فعلیتها لا تمسّ کرامتها شیئاً وقد تسالموا علی التعمیم ‏‎ ‎‏وعدم تقیید الأحکام بالعالمین بها إمّا للتصویب أو للاستحالة ـ وإن ناقشنا فی ‏‎ ‎‏الاستحالة ـ وقلنا بعدم اختصاص ذلک بالعلم، بل تعمّ سائر الأعذار العقلیة فإنّها ‏‎ ‎‏کالعلم لا توجب تقییداً فی الأحکام الأوّلیة. ‏

‏وغایة ما فی الباب أنّه عند طروّ واحد من الأعذار العقلیة یکون الشخص ‏‎ ‎‏معذوراً فی ترک الحکم الفعلی. ‏

‏وأمّا الترخیصات الشرعیة لو قلنا بجریانها فی جمیع أطراف العلم الإجمالی أو ‏‎ ‎‏بعضها فهی کالأعذار العقلیة من جهة عدم تقیید الأحکام وتخصیصها بوجه، ‏‎ ‎‏کما أنّ جریان الاُصول فی الشبهات البدویة إذا کانت مخالفة للواقع لا توجب ‏‎ ‎‏تقییداً بل یکون حال قیام الأمارات علی خلاف الأحکام الواقعیة. ‏

‏وبالجملة: یشترک الأدلّة المرخّصة فی أطراف المعلوم بالإجمال کلاًّ أو بعضاً مع ‏‎ ‎‏الأعذار العقلیة من جهة عدم تخصیصها وتقییدها للأحکام الواقعیة وإن کان بینهما ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 134
‏فرق من جهة اُخری، وفی أنّ الأحکام فی الأعذار العقلیة باقیة علی فعلیتها لا تمسّ ‏‎ ‎‏کرامتها شیء؛ ضرورة أنّه لیس فی وسع العقل التعدّی عن حریمه والتصرّف فی ‏‎ ‎‏حیطة سلطنة الشرع وتضییقه تخصیصاً أو تقییداً، وغایة مآله هی درکه المعذوریة، ‏‎ ‎‏وقاطعیة العذر عند ترک الحکم الواقعی الفعلی عند طروّ الأعذار. ‏

‏وأمّا فی الترخیصات الشرعیة فقد رفع الید عن الأحکام عند مخالفة الأدلّة ‏‎ ‎‏المرخّصة إیّاه لمصلحة أقوی وملاک أتمّ، کما هو الشأن فی الأمارات والاُصول ‏‎ ‎‏فی الشبهات البدویة إذا خالفت الواقع، فإنّه کما أنّ فی الأمر بالعمل بالأمارة أو ‏‎ ‎‏إمضائها احتمال تفویت الواقع والمصالح والأعراض بلحاظ أدائها أحیاناً إلی ‏‎ ‎‏خلاف المطلوب ولکن رفع الید عنها للتحفّظ علی غرض أهمّ من حفظ النظام، ‏‎ ‎‏وعدم إعراض الناس عن الدین ونحو ذلک، وإلا کان علیه حفظها بإیجاب ‏‎ ‎‏الاحتیاط فکذلک فی جعل الترخیص فی أطراف المعلوم بالإجمال، فإنّه وإن ‏‎ ‎‏کان یؤدّی إلی تفویت مصلحة الحجّة المعلومة فی البین إلا أنّ مصلحة ‏‎ ‎‏الترخیص أولی وأهمّ منها، فیرفع الید عن مصلحة تحفّظ الواقع. ‏

‏وبالجملة: بعد إمکان شمول الأدلّة المرخّصة لأطراف المعلوم بالإجمال کلاًّ ‏‎ ‎‏أو بعضاً یکون وزانها وزان الأمر بالعمل بالإجازة والترخیص فی الشبهات ‏‎ ‎‏البدویة من حیث عدم تقیید الأحکام وتخصیصها، بل إجازة فی الترک أو الفعل ‏‎ ‎‏لمصلحة أقوی وملاک أتمّ. ‏

‏إذا عرفت ما مهّدنا فالبحث تارة فی تجویز المخالفة القطعیة فی أطراف العلم ‏‎ ‎‏بالحجّة واُخری فی وجوب الموافقة القطعیة فیقع الکلام فی إمکان کلّ منهما، ‏‎ ‎‏ثمّ الکلام بعد ذلک فی وقوع الترخیص. ‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 135

  • . المائدة (5): 1.
  • . البقرة (2): 275.