ذکر وتعقیب
ثمّ إنّ المحقّق النائینی قال: إنّ فی البین جهة اُخری توجب المنع عن جریان البراءة فی باب دوران الأمر بین المحذورین وهی أنّه لا موضوع لها، لعدم جریان البراءة العقلیة؛ لأنّ مدرکها قبح العقاب بلا بیان وفی باب دوران الأمر بین المحذورین یقطع بعدم العقاب؛ لأنّ وجود العلم الإجمالی کعدمه لا یقتضی التخییر والتأثیر بالبیان المتقدّم فالقطع بالمؤمّن حاصل بنفسه بلا حاجة إلی حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان.
وأفاد قریباً من ذلک المحقّق العراقی لکنّه فی جمیع الاُصول عقلیة وشرعیة، وهو اختصاص جریان الاُصول بما إذا لم یکن هناک ما یقتضی الترخیص فی الفعل والترک بمناط آخر من اضطرار ونحوه غیر مناط عدم البیان، فمع حصول الترخیص بحکم العقل بمناط الاضطرار والتکوین لا تنتهی الأمر إلی الترخیص الظاهری بمناط عدم البیان.
ولئن شئت قلت: إنّ الترخیص الظاهری بمناط عدم البیان إنّما هو فی طرف سقوط العلم الإجمالی عن التأثیر والمسقط له حینما کان هو حکم العقل بمناط الاضطرار، فلا یبقی مجال لجریان أدلّة البراءة العقلیة والشرعیة نظراً إلی أنّ حصول الترخیص حینئذٍ فی الرتبة السابقة عن جریانها بحکم العقل بالتخییر بین الفعل والترک.
أقول: ولا یخفی ما فی کلام العلمین، ولعلّه یتفطّن الخبیر بما ذکرناه آنفاً
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 104
حاصله: أنّ الذی لا یخلو الإنسان منه ویکون مضطرّاً إلیه هو أحدهما ـ من الفعل أو الترک ـ ولذا یسقط العلم الإجمالی عن التأثیر بالنسبة إلی الموافقة القطعیة والمخالفة کذلک، وأمّا بالنسبة إلی خصوص الفعل أو الترک فلم یکن مضطرّاً إلیه ولا مفرّ إلا من إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی ذلک، ضرورة أنّه لولا تلک القاعدة فأنّی یجوز انتخاب الفعل وقد کان فی الواقع حراماً؟ بل أیّ مجوّز لاختیار الترک وقد کان فی الواقع واجباً؟ فإجراء تلک القاعدة فی کلّ من الفعل أو الترک لو فرض کون الفعل واجباً ومع ذلک فقد ترکه، أو کون الفعل حراماً وقد فعله هو المصحّح؛ لعدم العقاب لا الاضطرار.
وبالجملة: قضیة قبح العقاب بلا بیان لا ربط له بسقوط العلم الإجمالی عن التأثیر، والعلم الإجمالی من جهة عدم إمکان الموافقة القطعیة والمخالفة کذلک ساقط عن التأثیر إلا أنّه مع ذلک یکون إتیان خصوص الفعل أو الترک باختیاره ولابدّ للمکلّف من إجراء قبح العقاب بالنسبة إلی خصوصیة أحد الطرفین، وإلا فمع احتمال عدم القبح عند ذلک لم یحکم العقل بالتخییر.
والحاصل أنّه اختلط بین مصبّ ما اضطرّ إلیه وهو أحدهما وبین مصبّ قاعدة قبح العقاب بلا بیان وهو خصوص أحدهما، ومجرّد الاضطرار إلی أحدهما لا یصحّح الإتیان بخصوص اختیار الفعل أو الترک ما لم تجر قاعدة القبح وهو المصحّح لذلک لا غیر، فحدیث حصول القطع بالمؤمّن والترخیص فی الرتبة السابقة عن جریان أصل البراءة، بل الاُصول لا یرکن إلیه، فتدبّر.
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 105