ذکر وتعقیب
وأمّا الذی أجاب به المحقّق النائینی قدس سره، وقد ذکره فی موارد عدیدة، فحاصله:
أنّ الأمر بالعمل إمّا أن یکون بنفسه عبادیاً کالأمر المتعلّق بالصلاة، أو یکتسب العبادیة من أمر آخر، وذلک فیما إذا اتّحد متعلّقهما کوجوب الوفاء بالنذر، فإنّ الأمر بالوفاء بالنذر أمر توصّلی لا یعتبر فی سقوطه قصد الامتثال والتقرّب، ولکن لو تعلّق النذر بما تکون عبادة کنذر صلاة اللیل یکتسب الأمر بالوفاء بالنذر العبادیة من الأمر بصلاة اللیل، کما أنّ الأمر بصلاة اللیل یکتسب الوجوب من الأمر بوفاء النذر.
والسرّ فی ذلک: هو أنّ النذر إنّما یتعلّق بذات صلاة اللیل لا بها بما أنّها مستحبّة بحیث یؤخذ استحبابها قیداً فی متعلّق النذر، وإلا کان النذر باطلاً؛ لعدم القدرة علی وفائه؛ فإنّ صلاة اللیل بالنذر تصیر واجبة فلا یمکن بعد النذر فعل صلاة اللیل بقید کونها مستحبّة.
فکلّ من الأمر الاستحبابی والأمر بالوفاء قد تعلّق بذات صلاة اللیل، ولمکان اتّحاد متعلّقهما یکتسب کلّ منهما من الآخر ما کان فاقداً له. فالأمر النذری یکتسب العبادیة من الأمر الاستحبابی، والأمر الاستحبابی یکتسب الوجوب من الأمر النذری.
وأمّا إذا لم یتّحد متعلّقهما فلا یمکن أن یکتسب أحد الأمرین العبادیة مع کونه فاقداً لها من الآخر الواجد لها؛ لأنّه لا ربط لأحدهما بالآخر حتّی یکتسب الفاقد منهما عن الواجد. وذلک کالأمر بالوفاء بالإجارة إذا کان متعلّق الإجارة أمراً عبادیاً، کما لو اُوجر الشخص علی الصلاة الواجبة أو المستحبّة؛ فإنّ الأجیر
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 41
إنّما یستأجر لتفریغ ذمّة الغیر، فالإجارة إنّما تتعلّق بما فی ذمّة المنوب عنه، وما فی ذمّته إنّما هی الصلاة بوصف کونها واجبة أو مستحبّة. فمتعلق الإجارة إنّما یکون عبارة عن الصلاة بقید کونها مستحبّة علی المنوب عنه لا بذات الصلاة بما هی هی، ومتعلّق الأمر الاستحبابی أو الوجوبی إنّما هو نفس الصلاة، فلا یتّحد الأمران فلا معنی لحدیث الاکتساب.
وبعد ما تمهّد لک ذلک فنقول: الأمر الاحتیاطی لم یکن عبادیاً بنفسه بل توصلیاً، وإلا یلزم بطلان الاحتیاط فی التوصّلیات وذلک واضح. ولا یمکنه اکتساب العبادیة من الأمر المتعلّق بذات العمل؛ لأنّه لم یتعلّق أمر الاحتیاط بذات العمل مرسلاً عن قید کونه محتمل الوجوب، بل التقیید بذلک مأخوذ فی موضوعه وإلا لم یکن من الاحتیاط بشیء، بخلاف الأمر المتعلّق بالمحتاط فیه، فإنّه متعلّق بذات العمل، فلم یتّحد متعلّق الأمرین، فلا معنی لاکتساب الأمر بالاحتیاط العبادیة من الأمر المتعلّق بالعمل؛ لما عرفت أنّ الملاک فی الاکتساب لیس إلا وحدة المتعلّق انتهی.
أقول: فیما أفاده وجوه من النظر.
الأوّل: هل مراده أنّه بعد تعلّق کلّ من الأمر النذری والأمر الصلاتی بشیء واحد واکتساب کلّ منهما عن الآخر ما کان فاقداً له، یبقی الأمران علی ما هما علیه بحیث یکونان متعلّقین بعد بذات الصلاة، أو أنّهما یسقطان ویتولّد أمر ثالث وهو الوجوب العبادی، أو یسقط أحد الأمرین دون الآخر؟
لا سبیل للأخیر للزوم الترجیح بلا مرجّح، ولا یلتزم قدس سره به أیضاً.
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 42
وإن أراد الأوّل ففیه ما ذکرناه غیر مرّة أنّه لا یکاد یمکن تعلّق حکمین مستقلّین بشیء واحد بحیثیة فاردة؛ ضرورة أنّ للحکم مبادئ تخصّه من التصوّر والتصدیق بالفائدة والشوق أحیاناً والإرادة ونحوها. وهی ممّا یوجب تشخّص المتعلّق کالعلم والمحبّة والشوق، فکما أنّ تشخّص العلم بالمعلوم ولا یمکن أن یکون شیء واحد معلوماً لشخص واحد من جمیع الجهات أزید من مرّة، فکذلک فی مبادئ الأمر؛ لأنّ تشخّص الإرادة بالمراد ولا یمکن تعلّق إرادتین مستقلّتین بشیء واحد فی جمیع الجهات، بل وکذا لا یمکن التصدیق بالفائدة بشیء واحد من جمیع الجهات أو تصوّره کذلک. فإذا امتنع مبادئ الحکم أزید من مرّة واحدة لشیء واحد من جمیع الجهات، فکذلک فی الحکم نفسه. فلا یمکن تعلّق حکمین مستقلّین بذلک الشیء.
ولا فرق فی الامتناع بین أن یکون الأمران کلاهما وجوبین أو مختلفین من حیث الوجوب والندب؛ لوحدة الملاک.
وإیّاک أن تختلط الأمر التأسیسی بالأمر التأکیدی؛ فإنّ التکرار فی الأمر التأکیدی لمکان أهمّیة المتعلّق بمکان من الإمکان؛ فإنّه إذا کان للمأموربة أهمّیة عند المولی یأمر به ویطلب ویؤکّده بالتکرار أو بما یفید فائدة التکرار، بأن یستمدّ بأدوات التأکید ونحوها لئلا ینقدح التساهل عن إتیان المأمور به فی نفس المأمور. وقد ورد فی ذینک النحوین فی الشریعة المقدّسة فی حقّ الصلاة.
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 43
فظهر وتحقّق: أنّ ما اُفید من أنّ کلاًّ من الأمر الندبی والنذری متعلّق بذات الصلاة، فی غیر محلّه.
وإن أراد الاحتمال الثانی، من سقوط الأمرین وتولّد الأمر الثالث، فإن أراد أنّه بعد تفرّد الأمرین یسقطان، ففیه ما عرفت من أنّ تعلّق الأمرین بشیء واحد ممتنع، ولا فرق فی ذلک بین الحدوث والبقاء. وإن أراد بذلک معنی معقولاً فلذلک وإن کان ممکناً، إلا أنّ دون إثبات أمر ثالث متولّد من الأمرین؛ وهو الوجوب العبادی فقط، خرط القتاد.
فتحصّل: أنّ ما أفاده لا یستقیم علی شیء من المحتملات فتدبّر.
الثانی: أنّه علی فرض إمکان تعلّق الأمرین بشیء واحد، وأنّ ذات الصلاة مرکز تعلّق الأمر الندبی والأمر النذری، فلا معنی لحدیث الکسب والاکتساب، بل هو کلام شعری أشبه بالخطابة منه إلی البرهان، بل لابدّ من بقاء کلّ منهما علی ما هو علیه؛ لأنّ لکلّ من الأمرین مبادٍ تخصّه ضرورةً، واختلاف المبادئ صار سبباً لتعدّد الحکمین حسب الفرض، وإلا فمع کون مبدء الأمر الاستحبابی العبادی والأمر النذری التوصّلی واحداً لا معنی لتعدّد الحکمین وصیرورة أحدهما واجباً توصّلیاً والآخر مستحبّاً عبادیاً.
وبالجملة: لکلّ من الأمرین مبادٍ تخصّه، ولا سبیل إلی اختلاف الإرادة وصیرورة التوصّلی تعبّدیاً. ومع سقوط المبادئ یلزم سقوط الأمرین، وتولّد أمر آخر غیرهما منهما أو من مبادئ تخصّه فدون إثباته خرط القتاد.
الثالث: أنّ ما ذکره من حدیث انقلاب استحباب صلاة اللیل بالنذر إلی الوجوب ناشٍ عمّا زعمه غیر واحد من الأصحاب بل کأنّه ممّا تسالموا علیه،
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 44
حیث یعبّرون فی کتاب الطهارة مثلاً أنّ الوضوء، أو الغسل مستحبّ بحسب الذات إلا أنّه یصیر واجباً للصلاة الواجبة أو النذر. فیرون أنّه مستحبّ نفسی وواجب غیری، ولم یتفطّنوا بأنّ الوضوء مثلاً مستحبّ فی نفسه أزلاً وأبداً لا ینقلب عما هو علیه؛ سواء صار مقدّمة لما اشترط بالطهارة أم لا، وسواء تعلّق به النذر وشبهه أم لا.
والسرّ فی ذلک: هو أنّ مصبّ الجمیع لیس نفس عنوان الوضوء من دون تقیید بحکمه النفسی، بل الأحکام الغیریة والثانویة تنحدر إلی الوضوء مع ماله من الحکم النفسی. فالذی یجب إتیانه مقدّمة للصلاة هو الوضوء المستحبّ نفساً. فالمستحبّ صار مقدّمة وجودیة للصلاة.
وهکذا إذا نذر صلاة اللیل تکون صلاة اللیل مستحبّة أزلاً وأبداً لا تنقلب عمّا هی علیها؛ فإنّ الأمر النذری تعلّق بعنوان الوفاء بالنذر، وفی عالم العنوانیة یکون بین عنوان الوفاء بالنذر وعنوان صلاة اللیل مباینة لا یرتبط أحدهما بالآخر.
نعم ربما یتصادق العنوانان خارجاً علی شیء واحد، ویکون مجمع العنوانین. وواضح أنّ الشیء بعد تحقّقه الخارجی لا یکون مستحبّاً ولا واجباً. فإذاً بعد نذر صلاة اللیل لا تصیر صلاة اللیل واجباً، بل یکون عنوان الوفاء بالنذر واجباً، فیأتی بصلاة اللیل المستحبّ بما أنّه وفاء بالنذر.
وبالجملة: لا یسری حکم الوجوب المتعلّق بعنوان الوفاء بالنذر إلی ذات المنذور وصلاة اللیل مثلاً. فالواجب بالنذر إنّما هو الوفاء بالنذر لا صلاة اللیل، والامتثال إنّما هو بإتیان صلاة اللیل مستحبّة، فلو اعتبر قصد الوجه لوجب قصد الاستحباب، ولذا لو کان المنذور و متعلّق النذر واجباً کصلاة الظهر فإن تخلّف
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 45
ولم یصلّ الظهر یعاقب عقابین، أحدهما لترک الواجب النفسی التعبدی،؛ وهو صلاة الظهر، والآخر لترک الواجب التوصّلی؛ وهو الوفاء بالنذر.
والحاصل: أنّه بالنذر لا تصیر صلاة اللیل واجبة، بل الواجب هو الوفاء بالنذر، وصلاة اللیل تکون مصداقاً ذاتیاً لصلاة اللیل ومصداقاً عرضیاً لوجوب الوفاء. فمن أتی بصلاة اللیل یجزءه الأمر المتعلّق بصلاة اللیل والأمر المتعلّق بالوفاء.
وإن شئت مزید توضیح لما ذکرنا فاستوضح الأمر من باب اجتماع الأمر والنهی؛ فإنّهما من وادٍ واحدٍ، فتری أنّ اجتماعهما خارجاً لا یضرّ، ولا یوجب صیرورة الواجب حراماً وبالعکس، بعد اختلافهما وتباینهما فی مرکز تعلّق الحکم، من جهة أنّ مرکز تعلّق الأمر عنوان ومرکز تعلّق النهی عنوان آخر. فأزلاً وأبداً یکون عنوان الصلاتیة محبوباً ومطلوباً، کما أنّ عنوان التصرّف فی الغصب مبغوضاً ومنهیاً.
فتحصّل لک ممّا ذکرنا أنّ حدیث الاکتساب لا أساس له، ولا یوجب عبادیة التوصّلی ولا وجوب الندبی أصلاً.
والجواب الحقیق بعدم صحّة الاحتیاط فی العبادات بأخبار الاحتیاط هو ما أفاده المحقّق الخراسانی قدس سره بأحسن بیان وأخصر عبارة.
کتابجواهر الاصول (ج. ۶): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 46