الإجماع وأبعاده الدینیة والسیاسیة من خلال کتابات آیة الله السید مصطفی الخمینی؛
الشیخ خلیل محی الدین المیس
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام علی من لا نبی بعده ، محمد وعلی آله وصحبه والتابعین لهم بإحسان إلی یوم الدین .
إنها مناسبة کریمة لمبادلة الرأی ، وفتح باب الحوار العلمی الهادئ والرصین بعیداً عن الإسقاطات حول مفهوم ( الأمة ) بالمنظور القرآنی ، وانطلاقاً من مبحث الإجماع الوارد فی کتاب العلامة الشهید السید مصطفی الخمینی رحمه الله . هذه الأمة التی قال الله تعالی فی سلفها: « کنتم خیر أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنکر وتؤمنون بالله » علماً بأن الإجماع وهو أحد المصادر الأربعة فی التشریع الإسلامی ؛ قد استدل عل حجیته ـ إضافة إلی آیة ( الخیریة ) ـ بقوله تعالی : « ومن یشاقق الرسول من بعد ما تبین له الهدی ویتبع غیر سبیل المؤمنین نولّه ما تولّی ونصله جهنم وساءت مصیراً » .
وإنها أیضاً مناسبة کریمة للتشاور فی وضع أسس ( تأصیل الأصول ) هذا الشعار الذی عمل بمقتضاه الإمام الشاطبی عبر نظریته فی ( المقاصد ) التی وضع أسسها وبین تفاصیلها فی کتابه ( الموافقات ) والذی کان حصیلة جهد أربعة قرون مضت من قبل علی أیدی فقهاء من سائر المذاهب الفقهیة . . وکانت المحاولة توقفت منذ سنة (790) هـ حتی أماط اللثام عنها من جدید الشیخ الطاهر بن عاشور رحمه الله .
ونعود إلی الحدیث حول موضوع ( الإجماع ) بوصفه أحد مصادر التشریع فی الفقه الإسلامی والذی تناوله الأستاذ الشهید فی تحریراته ( جـ 3 / 281 ) المبحث الثالث تحت عنوان ( حجیة الإجماع المنقول ) فقد بدأ بتعریف الإجماع المنقول عن الإمام الغزالی : بأنه اتفاق أمة محمد صلی الله علیه و آله خاصّة علی أمر من الأمور
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 319
الدینیة ( جـ 1 / 173 ) .
ونقل عبارة الفخر الرازی : بأنه اتفاق أهل الحل والعقد ، ثم مقولة ابن الحاجب : بأنه اتفاق خاص وهو اتفاق المجتهدین من أمة محمد علیه الصلاة والسلام فی عصرٍ علی أمر ما .
الدلیل علی حجیة الإجماع
قال الإمام الغزالی فی « المستصفی » : فإن ذلک یوجب اتباع سبیل المؤمنین . وهذا ما تمسَّک به الشافعی . وقد أطنبنا فی کتاب ( تهذیب الأصول ) فی توجیه الأسئلة علی الآیة ودفعها . والذی نراه أن الآیة لیست نصاً فی الفرض ، بل الظاهر أن المراد بها أن من یقابل الرسول ویشاقق ، ویتبع غیر سبیل المؤمنین فی مشایعته ونصرته ودفع الأعداء عنه ، فولِّه ما تولّی . فکأنه لم یکتف بترک المشاقّة حتی تنضم إلیه متابعة سبیل المؤمنین فی نصرته والذب عنه والانقیاد له فیما یأمر وینهی . وهذا هو الظاهر السابق إلی الفهم . . فإن لم یکن ظاهراً فهو محتمل. ولو فسَّرٍ رسول الله صلی الله علیه و آله الآیة بذلک لقُبل ولم یجعل رفقاً للنص. کما لو فسَّر المشاقَّة بالموافقة واتباع سبیل المؤمنین بالعدول عن سبیلهم .
هذا والإجماع إنما یتصوّر حصوله من جماعة أیاً کانت تلک الجماعة، کثر عددها أم قلَّ . وهذه الجماعة وردت الإشارة إلیها بنقل السید مصطفی : عن جماعة رئیسهم المرتضی بأن وجه الحجیّة دخول الإمام . . ثم قال : ذهب السید المحقق الوالد بأن الإجماع یکشف عن رأی المعصوم ، وأن الإجماع المفید هو الإجماع الموجود بین القدماء ( ج 3 / ص 213 ) ثم أکد القول ( ص 217 ) : بأن الإجماع حجة بمعنی حجیة الظواهر لکونه کاشفاً عن رأی المعصوم علیه السلام .
ثم قال : والأقوی التمسک بقوله صلی الله علیه و آله : « لا تجتمع أمتی علی الخطأ » . . وهذا من حیث اللفظ أقوی وأدلّ علی المقصود .
وطریقة تقریر الدلیل أن نقول : تظاهرت الروایة عن رسول الله صلی الله علیه و آله بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعنی فی عصمة هذه الأمة من الخطأ. ا ه (حـ 1 / ص 175) .
ثم یقول ( ص 219 ) : من الممکن أن الشرع اعتبر حجیة الإجماع نوعاً لکشفه الغالبی مثلاً عن السنّة أو رأی المعصوم .
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 320
ولکن یثار التساؤل حول أمرین :
الأول : دور الأمة فی هذا الإجماع ؟
والثانی : هل الإجماع عن الحکم فی السنّة أو عن رأی المعصوم ؟ وبعبارة أخری هل الإجماع کاشف الحکم عند الله تعالی أم الحکم عند الإمام ؟ .
الإجماع عند الفقهاء وأهل السنّة کما ورد فی عبارات الغزالی وابن الحاجب والرازی ، هو اتفاق المجتهدین من أمة محمد صلی الله علیه و آله بعد وفاته علی حکم اجتهادی . ونری فی کتبهم أیضاً أن المجمعین لا یسأل عن دلیلهم غالباً . وقد وردت عبارة الإجماع مقرونة بالکتاب والسنّة والرأی ، عند قولهم مثلاً: إن البیع مشروع بالکتاب والسنّة والإجماع وضرب من الرأی . ویقصد بالإجماع ( الفهم الجماعی ) المتحصّل من دلالة الکتاب والسنّة .
لذلک کان مبحث الإجماع عند فقهاء أهل السنّة والجماعة له بُعده السیاسی ودلالته الفقهیة . . والذی تتجلی فیه شخصیّة الأمة فی مسیرتها مع الإمام . . . کیف لا ونری ذلک الشأن مع رسول الله صلی الله علیه و آله ومعه أصحابه، والذی عبرت عنه الآیة الکریمة حیث قال تعالی : « محمد رسول الله والذین معه أشداء علی الکفار رحماء بینهم »هکذا نری أن شخصیة الرسول الکریم مع التسلیم بکمالها وعصمتها فی التبلیغ لم تلغ دور الصحابة رضوان الله تعالی عنهم .
بل أبرزته بعبارة ( المعیّة ) . . والتی هی أقوی من التبعیَّة فکیف لا نقارب بین موقع الفقهاء بعضهم من بعض بوصفهم المجتهدین الذین یستنبطون الأحکام الشرعیة وعملاً بقوله تعالی : « ولو ردّوه إلی الرسول وإلی أولی الأمر منهم لعلمه الذین یستنبطونه منهم » [النساء : 83] وهل الرد إلی أولی الأمر إلاّ استفتاء الفقهاء وبوصفهم أهل العلم والاختصاص . وهل اجتماعنا هنا إلاّ باعتبارنا جزءاً من الأمة أو ممثلین لها وإلاّ فما قیمة الرأی الذی نتوصل إلیه إذا لم نکن من تلک الأمة التی وصفها الله تعالی بقوله : « کنتم خیر أمة أخرجت للناس » .
صحیح هذا النداء موجه إلی الصحابة رضوان الله علیهم من حیث المبدأ ولکنه وبالإجماع لیس مقتصراً علیهم وإلاّ توقف الخطاب فی زمنهم . . بل الخطاب لهم ولمن سار علی نهجهم الذی ارتضاه الله تعالی أمراً بالمعروف ونهیاً عن المنکر القائمین علی الإیمان بالله تعالی .
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 321
إن الخطاب فی القرآن الکریم والسنّة النبویة غالباً ما یکون موجهاً إلی الأمة . . کما یتوجه إلی أولی الأمر . . ولیس الخطاب إلی أولی الأمر تغیباً للأمة .
کما أن الخطاب إلی الأمة لا یعتبر إغفالاً لمقام أولی الأمر . بل الخطاب تارة یوجه إلی الأمة عبر الخطاب إلی ولی الأمر . . ومرة یکون الخطاب إلی ولی الأمر بواسطة الخطاب إلی الأمة .
والشأن فی مقام التوجیه . . من صنوه فی مقام التشریع کثر کلام الأصولیین بدخول العامة ضمن مفهوم الأمة فی النظام التشریعی . . والصحیح أن العامة تبع للفقهاء فی هذا الشأن .
إن مفهوم الجماعة لا یلغی خصوصیة الإمام أو الفقیه . . ولکن یخشی أن تُلغی شخصیة الإمام کیان الأمة من حیث المشارکة فی صنع القرار .
ثم تعود إلی الحکم المستنبط الذی تحصَّل لدی الجماعة فی المفهوم الفقهی . . هل هذا الحکم هو عند الله تعالی . . أم عند الإمام .
فالقول بأن الحکم فی کلام الإمام یرفعه إلی رتبة النبوّة فی العصمة والتبلیغ ، وهذا ما لا دلیل علیه من کتاب أو سنّة . . بل إن الأمة هی وارثة للنبوة عبر علمائها . . قال صلی الله علیه و آله : « العلماء ورثة الأنبیاء » .
والعلماء هم الذین نوهت بهم الآیة الکریمة قال تعالی : « شهد الله أنه لا إله إلاّ هو والملائکة وأولو العلم قائماً بالقسط » وشهادته تعالی بذلک إعلامه وبیانه وحکمه . . قال أهل التفسیر : وإنما خصَّ أولی العلم بالشهادة لأنهم هم المعتبرون وشهادتهم هی المعتبرة . . وعلی ذلک نبه تعالی بقوله : « إنما یخشی الله من عباده العلماء » وهؤلاء هم المعنیون بقوله : والصدیقین والشهداء والصالحین . . وإن الله تعالی لا یستشهد من خلقه إلاّ العدول . هذا والإمام فی مقدمة العلماء سواء کانت الإمامة فی الدین أوفی السیاسة أو بهما معاً .
هذا . . وإن الإمام الشهید نری فی أسلوبه نهج العلماء مستدلاً ومناقشاً ومؤیداً ومضعفاً من الأقوال کل ذلک بالدلیل والبرهان، ونراه بذلک کله ینخرط فی صفوف جماهیر العلماء وهو واحد منهم . . وکما قیل : أمة فی رجل ورجل فی أمة .
والله تعالی نسأل أن یلهمنا الصواب فی القول والعمل ویرشدنا لما یحقق
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 322
وحدة هذه الأمة التی قال فیها : « إن هذه أمتکم أمة واحدة وأنا ربکم فاعبدون » وإن الجمهوریة الإسلامیة . . هی الرد علی قیام دولة إسرائیل صنیعة الاستعمار . بینما الثورة الإیرانیة کانت بقیادة العلماء وفی مقدمهم الإمام الخمینی والذی أعاد إلی الذاکرة والواقع أن دور العلماء لا یقتصر علی استنباط الأحکام الشرعیة بل یتجاوز ذلک إلی مسؤولیتهم عن تنفیذ هذه الأحکام والعمل بموجبها . وما التهویل العالمی فی مواجهة الإسلام والإسلامیین ومحاولة تشویه صورة الإسلام الحاکم إلاّ حیلة مکشوفة لأعداء الإسلام للحؤول دون متابعة المسیرة .
« یریدون أن یطفئوا نور الله بأفواههم ویأبی الله إلاّ أن یُتم نوره ولو کره الکافرون * هو الذی أرسل رسوله بالهدی ودین الحق لیظهره علی الدین کله ولو کره المشرکون » [ التوبة : 32 ـ 33] صدق الله العظیم .
هذا ونشکر لمؤسسة تنظیم ونشر تراث الإمام الخمینی ومؤسسة شهید الثورة الإسلامیة إتاحة هذه الفرصة وتوفیر لقاء أهل العلم وعلی مائدة فکر السید الشهید الغائب الحاضر . . فأجزل الله تعالی مثوبته ونفع بعلمه ووفقنا جمیعاً لنصرة هذا الدین وإعلاء کلمته . إنه سمیع مجیب ، والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته .
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 323
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 324