جوانب علوم اللغة العربیة فی تفسیر القرآن الکریم للأستاذ العلاّمة الشهید آیة الله السید مصطفی الخمینی ؛ «نموذج سورة الفاتحة»
الشیخ نبیل الحلباوی
مقدّمة
التفسیر من (فسّر) ویرجع هذا الفعل فی أصله الثلاثی المجرّد إلی فَسَر ومقلوبها سفر ، ومن معنی التفسیر بحسب ذلک ( کشف القناع عن المعنی لیسفر ویظهر ) وقد ورد استعماله فی القرآن الکریم فی قوله تعالیٰ : « ولا یأتونک بمثلٍ إلاّ جئناک بالحق وأحسن تفسیراً » .
وبصدد هذا الکتاب الإلهی النفیس، تکتسی مسألة التفسیر أهمیة متمیّزة وأبعاداً متفردة ، لأن هذا الکتاب وهو موضوع التفسیر لا بدیل عنه ولا مثیل له ، ولا نظیر لدوره فی صیاغة الإنسان الفرد والأمّة والبشریة جمعاء علی طریق سعادة الدنیا والآخرة .
ویشتمل میدان تفسیر القرآن المجید علی بحوث متنوعة کالبحث عن مدلول کل نقطة أو جملة أو آیة قرآنیة ، ثم عن إعجاز القرآن ، ثم عن أسباب النزول ، ثم عن الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمقیّد والمطلق ، ثم عن تأثیر القرآن ودوره. وقد یمهد بعض المفسّرین للتفسیر بجوانب من علوم اللغة العربیة کالإملاء واللغة والنحو والصرف والبلاغة بالإضافة إلی القراءة والتجوید؛ بما أن النص القرآنی نزل بلسان عربی مبین ، فلابدّ من استجلاء أنواره المتلألئة علی جمیع تلک الصعد .
وقد یغلب علی کل مفسِّر طابع العلم الذی تمیّز فیه ، والاختصاص المعرفی الذی ینطلق منه ، وقد یحاول بعضهم تطبیق آرائهم الفلسفیة ومشاربهم التصوفیة وسوی ذلک ، علی القرآن الکریم فیسیئون من حیث یشعرون أو لا یشعرون .
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 293
وإلی جانب التفسیر التجزیئی ـ وهو ضرورة ماسّة ومنطلق أول، لا یمکن الاستغناء عنه فی زمن من الأزمنة ـ یأتی التفسیر الموضوعی لیحتل مکانه وینجز مواعیده وینطلق بالقارئ إلی تصوّر موضوعی لموقف القرآن فی کل جانب من جوانب المعرفة بحیث تنتظم الآیات ضمن سلسلة من الموضوعات المعرفیة لتغطی جوانب الرؤیة الکونیة وآفاق النظام الإسلامی ، بدءاً بمعرفة الله وانتهاءً بمعرفة سائر النظم الاجتماعیة والسیاسیة والاقتصادیة والتربویة فی القرآن الکریم .
وقد خاض غمار التفسیر صحابة وتابعون، ونقل عن بعضهم شذرات من التفسیر، ولم یلبث علماء الإسلام أن ضربوا بسهم وافر فی هذا المیدان وتعدّدت التفاسیر .
ولکن مدرسة أهل البیت علیهم السلام تنفرد من دون سائر المدارس التفسیریة بخصوصیة تفسیر القرآن بالقرآن وبغنی ما قدّمته ـ علی رغم التعتیم والتضییق ـ من أحادیث تتعرض لجوانب من تفسیر القرآن .
ومن اللطیف أن علاّمتنا الشهید المحقق آیة الله السیّد مصطفی الخمینی ، وهو فرع مغدق وقبس نیّر وغصن مزهر من دوحة الکلمة الطیبة ، إمام الاُمّة وعارف العصر ، وفقیه الاسلام المحمدی الرائق ، وأستاذ الثوّار والأحرار علی طریق کربلاء ومؤسس الجمهوریة الإسلامیة قدس سره ، بادر بما وفّقه الله إلیه من هذه الوراثة الطیبة والتربیة الکریمة وما تحقّق له من تألّق وتفوّق وتدفّق ، لیدلی بدلوه المفعمة علماً وفهماً وذوقاً وسلوکاً ، فی هذا المجال الصعب الذی یعجز عنه أفذاذ الرجال ، فأعطی عطاءه الخصب ، مجلّدات تفسیریة عدّة ، ولم یکتمل تفسیره لأنه استشهد فی ریعان شبابه . ولکنها تحفل بمادة علمیة متنوّعة تحقّق له فیها علی الأصعدة جمیعها وحده ما لا یتحقق لمؤسسة من العلماء مجتمعة متضافرة وبخصائص سنتعرض لها فی نتائج البحث؛ فکان فیها إضافة مهمة إلی جانب التفاسیر المحدثة لعلمائنا الأجلاّء ولا سیما العلاّمة الطباطبائی صاحب تفسیر المیزان قدس سره .
ویحتاج هذا التفسیر فی مجلّداته المطبوعة إلی تتبع ودأب ومقدرة فی سائر العلوم والمعارف التی ألمَّ بها لیستطیع القارئ التجوّل فی رحابه والارتواء من
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 294
شرابه .
علی أن هذا البحث سیقتصر علی إلمامة بطائفة من المسائل فی جوانب اللغة العربیة ممّا تعرّض له هذا التفسیر القیّم إبرازاً لأهمیتها ، وما قدّمه فیها العلاّمة الشهید من آراء وما توصل إلیه من نتائج وثمرات. وسیکتفی بنموذج سورة الفاتحة .
وسینتهی البحث بعد ذلک بحول من الله وقوّة ، وضمن إطار ضیق الباع وکثرة الانشغال، إلی استخلاص خصائص العلاّمة الشهید فی تناوله لهذه الجوانب اللغویة المتنوعة ، وسیذیَّل البحث أخیراً بمقترحات یری فیها وفاءً بحقّ هذا التفسیر علینا وحقّ صاحبه، ومتابعة لمسیرة هذا المشروع الواعد الذی قدّم لنا فیه العلاّمة الشهید مجلّدات تصلح نبراساً للوصول بما فعله إلی غایاته وفیها ما فیها من الخیر للمسلمین عموماً ولعلم التفسیر خصوصاً .
ویبقی أن باب التفسیر لا یمکن أن یغلق علی کر الدهور وتتابع العصور لأن القرآن یفسِّره الزمان ، وقد روی عن العلاّمة الطباطبائی قدس سره فیما روی أنه قال : إننا بحاجة إلی تفسیر جدید کل خمسین سنة .
فلعلّ متابعة مشروع العلاّمة الشهید السید مصطفی أن تکون تحقیقاً لبعض هذه الحاجة .
المسائل الإملائیّة
م1 ( بسم ) : لم یقبل العلاّمة ما قدّم من تعلیلات لحذف الألف :
ـ کالتعلیل بکثرة الاستعمال : ناقضاً له بکتابة الافتتاح قبل زمن القرآن بـ « باسمک اللهم » بإثبات الألف . وفی سائر القرآن الکریم ( اقرأ باسم ربک ) و ( فسبّح باسم ربک ) .
ـ والتعلیل من (الخلیل) بأنها إنّما حذفت لأنها دخلت بسبب أن الابتداء بالسین الساکنة غیر ممکن، فلما دخلت الباء علی الاسم نابت عن الألف، فسقطت الألف فی الخطّ، ناقضاً له بقوله عزّ من قائل « وقل ارکبوا فیها بسم الله مجراها ومرساها » إذ الباء ههنا لا تنوب عن الألف، إذ السین الساکنة فیها مسبوقة بکلام. ولم ینته بالتالی إلی نتیجة قاطعة .
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 295
م2 ( الله ) : یطرح العلاّمة الآراء الثلاثة فی حذف ألفها :
ـ الرأی الأوّل : القائل بأنهم حذفوها لئلاّ یلتبس لفظ الجلالة بـ ( اللاه ) اسم الفاعل من لها یلهو .
ـ الرأی الثانی : القائل بأنهم طرحوها تخفیفاً .
ـ الرأی الثالث : بأنها لغة فاستعملت فی الخط ،
ولم یختر رأیاً من الثلاثة ولم یدل برأی له رابع .
م3 ( الذین ) : یری العلاّمة أنه لا تجوز کتابتها إلاّ هکذا إذ لم تدخل علی الذی لام جدیدة لتکرر اللام ، واما حذف الیاء فی الجمع فکحذفها فی جمع (الرامی) الرامین ، الذی الذین .
المسائل اللغویة
م1 الحمد والمدح عند العلاّمة مترادفان مع اختلاف فی جهة الاستعمال : فالحمد لله ، والمدح للعبد ، خلافاً لمن قال بأن بینهما عموماً وخصوصاً .
و(أل) فی (الحمد) عهدیة فی الادعاء والاعتبار، خلافاً لمن قال بأنها لاستغراق الجنس .
م2 لله : اللام للملک خلافاً لمن قال إنها للاختصاص .
م3 ربّ : یتضمن معنی الإخراج التدریجی للمربوب من النقص الی الکمال المناسب له مادیاً ومعنویاً . وهذه إضافة إلی ما ذکر له من معنی السیّد والملک والثابت والمعبود والمصلح والصاحب والمربّی الذی یسوس مَن یربیه ویدبّره .
م4 العالمین : ج عالم : وهو المجموعة الاعتباریة، وتختلف سعة وضیقاً بحسب اعتبار المعتبر والمستعمل ولو کانت أجزاؤها عینیة اعتباریة .
م5 مالک : ومالک من مُلَک مَلَکاً بمعنی الاستیلاء والسلطة والاقتدار علی التصرّفات والتبدیلات والأمر والنهی، وهی إضافة خارجیة إشراقیة حقیقیة بمناسبة ذکر یوم الدین لکمال ظهور ملکیته فیه. ولم یتوقف العلاّمة عند ترجیح قراءة مَلِک علی مالک .
م6 یوم الدین : کأنه موضوع بالوضع المستقل فی الاستعمالات القرآنیة
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 296
لیوم التغابن والجزاء والقیامة والیوم الموعود .
ولم یشر إلی معنی الطاعة « ما کان له أن یأخذ أخاه فی دین الملک » والملّة کما فی قول المثقب العبدی :
تقول إذا درأت لها وضینی
أهذا دینه أبداً ودینی
م7 الهدایة : الإرشاد والدلالة وإراءة الطریق لا خصوص الارشاد إلی الحسنات والخیرات .
م8 الصراط : السبیل والطریق . ولیس الجسر الممدود علی جهنم لأنه لا یکون الصراط ذا وضعین وضع معنوی وآخر شرعی .
المسائل الصرفیة
م1 اسم : هو عند العلاّمة لغة خاصة استعملت بمعنی العلامة، ولیس مشتقاً من السمو کما عند البصریین، ولا السمة کما عند الکوفیین .
م2 الله : هو عند العلاّمة ـ کما عند سیبویه فی أحد قولیه ـ مرتجل غیر مشخص بل وضع لوضع شخصی ، فلا هو مشتق من الاه علی وزن فعال من قولهم أله الرجل یأله الإله أی عبد عبادة، ثم أدخلت الألف واللام للتنظیر ، ولا هو مشتق أصله لاه من لاه یلیه إذا تستّر کأنه یسمی بذلک سبحانه لاستتاره واحتجابه عن الأبصار.
م3 الرحمن : علی وزن فعلان عربیة صفة مشبهة .
الرحیم : علی وزن فعیل عربیة صفة مشبهة .
وهما من الرحمة أو الرحم فالخلق کلّهم عیال الله تعالی فی الاعتبار .
م4 ربّ : أصلها رابّ من ربّ الشیء یربّه فحذفت الألف کما فی البارّ والبرّ .
م5 مالک : کطاهر صفة مشبهة وملک ومالک کبرّ وبارّ.
م6 نستعین : أصلها نستعْون فاستثقلت الکسرة علی الواو فقلبت یاء ونقلت حرکتها إلی العین قبلها وسکنت الیاء .
م7 الصراط : من سرط وأبدلت بالسین الصاد . ولیس بمعنی اللقم والبلع وکأنه یبتلع صاحبه أو أن صاحبه کأنه یبلعه .
م8 : خلافاً لما نقله العلاّمة الطباطبائی فی المیزان ـ بل کل واحد منهما لغة
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 297
ولکنّهما بمعنی واحد دون أن یکون أحدهما أصلاً والآخر فرعاً . وهو مذکر فی الاستعمال القرآنی .
م9 النعمة : أعم من المال فی الاستعمال، وأنعم بمعنی أعطی ، وهی ما یحصل مجاناً وبدون عوض بل لا یبعد کونها مخصوصة بما یحصل من غیر سؤال واستیجاب .
م10 الغضب : وهو الحمرة وأطلق علی سبب الحمرة، وحمرته تعالی هی النار التی أُعدّت للکافرین .
م11 الضلال : وهو الغیبوبة والاختفاء ، ولیس بحسب اللغة من الأوصاف السیئة والنواقص البشریة، بل هی مصداق من مصادیقه .
المسائل النحویة
م1 متعلق (بسم الله ) : لا تحتاج عند العلاّمة إلی تعلیق لأنها عنوان علی خلاف من قالوا بالمتعلق الفعلی للدلالة علی التجدد الاستمراری، أو المتعلّق الاسمی للدلالة علی الدیمومة والثبوت .
م2 اضافة (اسم) إلی الله : معنویة .
م3 جملة ( بسم الله مع متعلقها ) لم یتعرض العلاّمة لإعرابها بناء علی اعتراضه ورفضه لإعراب الجمل. وسنناقش هذا الرأی فیما بعد ، وهی عند النحاة جملة ابتدائیة لا محل لها من الإعراب .
م4 الرحمن الرحیم : نعتان مجروران .
م5 الحمد : مبتدأ .
م6 للهِ : جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر .
م7 ربِّ : نعت لله ، ولم یشر إلی احتمال کونها بدلاً من الله .
م8 العالمین : مضاف إلیه مجرور ، ویری العلاّمة أن الاضافة لفظیة .
م9 الرحمن الرحیم : نعتان لله تعالیٰ .
م10 مالک : نعت لله .
م11 یوم الدین : مضاف ، ومضاف إلیه . وإضافة مالک إلی یوم اضافة معنویة عند العلاّمة خلافاً لمن قال بأنها إضافة لفظیة . کما أن إضافة یوم إلی
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 298
الدین إضافة معنویة أیضاً .
م12 إیّاک : مفعول به لفعل تقدم یدل علیه الفعل المتأخّر . خلافاً لمذهب النحاة فیه وهو أنّه مفعول به مقدّم للفعل المتأخر .
م13 نعبد ، نستعین : فعلان مضارعان مرفوعان .
م14 اهدنا الصراط : اهدِ فعل أمر و(نا) مفعول أول، والصراط مفعول ثان أو منصوب بنزع الخافض .
م15 المستقیم : نعت للصراط .
م16 صراطَ : بدل لبعض من کل ، أو عطف بیان للمصداق الأول ؛ خلافاً لمن ذهب إلی أنه بدل مطابق .
م17 الذین : مضاف إلیه .
أنعمت علیهم : فعل وفاعل وجار ومجرور .
م18 غیر : بدل من ضمیر الجمع فی (علیهم)، أو من (الذین)، أو نعت (للذین)، کما یرجّح العلاّمة .
المغضوب : مضاف إلیه .
م19 علیهم : جار ومجرور. ویستشکل العلاّمة فی مرجع الضمیر، ویری أنه جیء به لتکثیر ما سبقه وهو المغضوب .
م20 ولا الضالین : الواو حرف عطف . لا نافیة لنفی کل من المغضوب علیهم والضالین علی حدة ونفیهما معاً .
ولدفع توهّم نفیهما مجتمعین لو لم تذکر لا . خلافاً لمن قال بأنها زائدة لتأکید معنی النفی فی غیر .
الضالین : معطوف علی المغضوب علیهم مجرور مثله .
المسائل البلاغیة
م1 بسم الله الرحمن الرحیم
ـ المتعلق عند العلاّمة یختلف بحسب حال العبد فی متعارف الناس أو حاله فی الجذب والفناء . ولم یتعرّض العلاّمة للاستعارة المکیة إذا کانت الباء للاستقامة . وللمجاز ذی العلاقة المحلیة إذا کانت الباء للإلصاق .
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 299
ـ الرحمن الرحیم توکید بالتکرار.
م2 الحمد لله رب العالمین : جملة خبریة وقد یستعملها العبد للإنشاء فی مقام الشکر والعبودیة . وتفید الحصر بدلالة عقلیة ، وکذلک ربّ العالمین بدلالة عموم العالمین واطلاق الربوبیة .
م3 الرحمن الرحیم : لیست تکراراً للرحمن الرحیم فی البسملة . وللعلاّمة تعلیل فرید لذلک وهو أنّ الفاتحة نزلت علی حدة ونزلت بسم الله الرحمن الرحیم وحدها، ولکن بدئ بها فی سائر السور واعتبرت جزءاً منها .
م4 مالک یوم الدین : یقول العلاّمة قدس سره : یمکن أن یستفاد الحصر من أن یوم الدین هو یوم تجرّد جمیع المخلوقات من المجردات والمادیات. فاذا کان مثل رسول الله صلی الله علیه و آله مورد المحاسبة وفی موقف الجزاء، فکیف یعقل أن یکون أحد مالکاً فی ذلک الیوم لعدم اجتماع الملکیة والمقهوریة فتنحصر الغالبیة والقاهریة فیه تعالی وتقدّس .
ـ ویطرح العلاّمة سؤالاً :
هل من تناف بین البلاغة وتوصیفه بمالک یوم الدین ؛ لأنّه تعالی مالک کل شیء فلا وجه للتخصیص ؟
ویجیب بأن ثمة وجهاً لذلک وهو لزوم توصیفه فی هذا الموقف بصفة جلالته .
ـ ویسأل عن مقتضی تأخر ( ملک ) بلاغیاً ؟
ویقول إنه وصف جلالی فناسب أن یتأخر عن الأوصاف الجمالیة الثلاثة : الله ، الرحمن ، الرحیم .
م5 إیّاک نعبد وإیّاک نستعین : ـ وههنا تبدأ صنوف من الالتفات وهو من المحسنات المعنویة، فی الآیة عدول من الغیبة إلی الخطاب .
ـ والحصر عند العلاّمة حقیقی فی إیّاک نعبد .
ولکن فی إیّاک نستعین ادعائی لجواز الاستعانة بالنبی .
ـ واستعمال ضمیر الجمع فی نعبد ونستعین، رجوع المؤمنین الذین کانوا مشرکین سابقاً إلی الخضوع الجماعی والمناداة بصوت واحد معتذر نادم: ( إیّاک نعبد وإیّاک نستعین ) .
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 300
وتعلیل العلاّمة هنا تجاوز للمألوف من تعلیلهم بعدم تبعیض الصفقة .
ـ واما تقدیم العبادة علی الاستعانة فهو لملاحظة حال المشرکین السابقین أیضاً، إذ کانوا یعبدون أصنامهم ویستمدّون منها المساعدة ، فأدّبهم القرآن بکیفیة العبادة وحصر الاستعانة بالله تعالی دون تلک الوسائط الساقطة .
ـ ولعل الأمر عائد إلی رعایة الفواصل لا أکثر ( الدین ، نستعین ) .
ـ وتکرار إیّاک : تکرار للضمیر الدال علی الله عزّوجلّ .
وبتعبیر العلاّمة الشهید : حتی یقع المطلوب الأصلی فی القلب وتسجل النفس إیّاه ویصیر ملکة فی الأرواح ورکیزة فی الذهن .
مع أن العاشق لا یتکاسل عن ذکر المحبوب والمعشوق، بل کلّما ازداد ذکراً ازداد شوقاً وحبّاً حتی ینخلع عن جلبابه .
أعد ذکر نعمان لنا إن ذکره
هو المسک ما کوّرته یتضوّع
ومن الجائز توقف ابتهاج الإصغاء ولطف الکلام علی الإطالة والإطناب دون الإیجاز ، والله العالم بأسالیب کلامه ولطائفه .
م6 اهدنا الصراط المستقیم : حذف حرف الربط بین ( إیاک نعبد وإیّاک نستعین ) من جهة وبین اهدنا الصراط المستقیم ـ وهو ما یسمی الفصل فی علم المعانی لکمال الارتباط بینهما . فمحور الاستعانة بالله طلب الهدایة إلی الصراط المستقیم منه .
ـ ولابد من الالتزام بالمجازیة فی (اهدنا)؛ لاختلاف المستعملین فی طلب الهدایة وفیهم أمثال الرسول والأئمة علیهم السلام .
ـ والصراط فی المعنویات مجاز ( وهو استعارة تصریحیة ) فی قوله: اهدنا الصراط المستقیم أی الدین الحنیف الذی یشبه الصراط المستقیم .
ـ والصراط جنس ، والاستقامة قید ضرری خلافاً لمن قال بأنها قید تأکیدی .
ویری العلاّمة ان طلب الهدایة إلی الصراط المستقیم کنایة إلی انه یرید طلب الخیرات والسعادات بهدایته إلی طریقها المستقیم .
م7 صراط الذین أنعمت علیهم غیر المغضوب علیهم ولا الضالین :
ـ هل تعقیب الصراط المستقیم بکل ما تلاه من الإطناب الممل ؟
لا، فالمقام یستدعی التفصیل بذکر خصوصیات المطلوب .
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 301
ـ اسناد النعمة إلی الله وعدم اسناد الغضب والضلال إلیه ، من أدب العبد فی الخطاب مع الله وهو من اللطائف البلاغیة .
ـ من المحاسن البدیعیة ههنا استیفاء الأقسام .
فالناس : منعم علیهم ، ومغضوب علیهم ، وضالون .
ـ الأحسن فی تقدیم المغضوب علیهم علی الضالین أن یقال: إنه من رعایة الفواصل ( نستعین ، الضالین ) .
ـ وثمّة لطیفة تتعلّق بسورة الفاتحة کاملة ذکرت فی بعض المراجع البلاغیة وهی أن استهلال القرآن الکریم بالفاتحة الشریفة هو من براعة الاستهلال، وهو من أرق الفنون البلاغیة وأرشقها؛ وحدّه أن یبتدئ المتکلّم کلامه بما یشیر إلی الغرض المقصود من جمیع کلامه ومن هنا سمّیت فاتحة الکتاب .
نتائج البحث
وبإمکاننا بعد ذلک التلخیص للمسائل المختلفة ، وبعد النظر فی تضاعیف ما ذکره قدس سره أن نستخلص الخصائص التالیة للعلاّمة الشهید فی معالجته لجانب علوم اللغة العربیة فی تفسیر القرآن الکریم من خلال نموذج سورة الفاتحة؛ وهذه الخصائص هی کالآتی :
1 ) الشمولیة : فهو یتعرّض لعلوم اللغة العربیة المختلفة من لغة واملاء ونحو وصرف وبلاغة مضیفاً إلیها علم القراءة وعلم الحروف والأعداد وأصول الفقه والفقه والأدب والأخلاق والحکمة والفلسفة والکلام وعلم الأسماء والعرفان وعلم العروض . ممّا یدل علی شخصیته الموسوعیة وتنوّع جوانب ألمعیته وعلمیته وتعدّد أبعاده .
وتظهر نتیجة ذلک باهرة متألقة فی خاتمة تناوله لکل عبارة من عبارات الآیة القرآنیة فیما وسمه بالتفسیر علی المسالک المختلفة. ونکتفی بإیراد نموذج منه دال علی ما عداه مشیر إلی سواه . وهو نموذج التفسیر علی المسالک المختلفة لقوله عز من قائل « الحمد لله ربّ العالمین » قال قدس سره : ( فعلی المسلک الأعلی والأحلی أن الحمد معناه المصدری لله تعالیٰ ، فلا یلیق غیره للقیام بحمده ، الذی
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 302
هو ربّ جمیع العوالم الغیبیة والشهودیة ، حسب مناسبات تلک العوالم ، واقتضاء کیفیة التربیة المسانخة معها ؛ فإن تربیة کل وعاء بحسبه وتابعة لاقتضائه ، فما حمد الحامد إیّاه للزوم المسانخة بین الحامد والمحمود ، فهو تعالی الحامد والمحمود ، وحمده ظهوره علی ذاته بذاته المستلزم لظهور لوازم صفاته وأسمائه . .
وقریب منه أن الحمد الحاصل المصدری لله ربّ العالمین ، فلا یکون غیره لائقاً لأن یحمد ؛ لعدم ثبوت الجمال للغیر ، فإن جمال کل جمیل جماله وکماله .
فبالجملة الحمد کله بجمیع أنواعه والمحامد کلها بجمیع أصنافها له تعالی ، وقد أشیر إلی ذلک فی بعض روایاتنا کما قد مضی . . .
وعلی مسلک الحکیم والفیلسوف الإسلامی . . .
وعلی بعض مسالک المتصوّفة . . .
وعلی مشرب الأخبار والآثار . . .
وعن الفقیه فیما یذکره الفضل بن شاذان . . .
وعلی المسلک الأجمع أن ما مرّ من الحمد والمحامد ومن الطبیعة بإطلاقها السریانی لله تعالیٰ ، الذی هو ربّ العوالم ومخرجها من القوّة إلی الفعلیة ، ومن النقص إلی الکمال ، ولا یشترک معه فی الربوبیة التکوینیة والتشریعیة غیره، فلتذهب المذاهب الباطلة هباءً منثوراً . ولا یصحّ أن یدّعی أحد استقلاله فی أی خصیصة حتی الحرکة المباشریة ؛ فإنها خروج من القوة إلی الفعل ، ولا یعقل أن تتحقق تلک الحرکات الاعدادیة إلاّ من قبله تعالیٰ ؛ فیردّ مفاد ربّ العالمین إلی مفاد الحمد لله ، إلاّ أنّ الحمد لله أعم حسبما تقرّر وتحرّر ؛ ضرورة أنّه یشمل علی التحقیق جمیع الظروف والعوالم وکل الأنحاء من الکمال والجمال ، بخلاف رب العالمین فإنه ـ علی مذهب ـ مقصور علی عوالم الکائنات والمواد والقوی والحرکات لعدم معقولیة هذه الأمور فی المجردات المحضة والمفارقات الصرفة، بل ولا فی الموجودات المقدرة بالکمیات والمکیّفة، علی ما تقرّر وتحرّر فی المفصّلات .
2 ) الاستقصاء : فهو قدس سره یتتبع الآراء المختلفة فی کل باب من أبواب اللغة وبصدد کل آیة بل کل کلمة بدأب وصبر عظیمین، ولا یکتفی بمرجع لغوی دون
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 303
آخر، ویتعقّب أکثر من تفسیر راصداً للأخطاء والاشتباهات .
وهاء نموذجاً من ذلک یغنی عن تعدید النماذج ، یقول قدس سره فی الموقف الثانی حول قوله تعالیٰ « ربّ العالمین » :
( الأولی : ربّ الشیء یربّ ربّاً : جمعه وملکه ، والقوم ، سامهم وکان فوقهم ، والنعمة : زادها ، والأمر : أصلحه وأتمّهُ ، والدهن : طیّبه وأجاد ، وربّ الصبی حتی أدرک ، وربب الصبی تربیاً وتربیة : ربّاه حتی أدرک . الرب : من أسمائه تعالی والسید والمطاع والمصلح ـ انتهی ما أوردناه) .
وفی تاج العروس والقاموس : الربّ هو الله عزوجلّ وهو ربّ کل شیء أی مالکه وله الربوبیة علی جمیع الخلق لا شریک له ، وهو ربّ الأرباب ومالک الملوک والأملاک ، قال أبو منصور : والرب یطلق فی اللغة علی المالک والسیّد والمدبّر والمربّی والمتمم، ولا یطلق لغیر الله تعالی إلاّ بالإضافة... إلی أن قال : وقد قالوه فی الجاهلیة للملک ، قال الحارث بن حلّزة :
وهو الربّ الشهید علی یوم الحیارین والبلاء بلاء
انتهیٰ .
وفی الشعر غلط تعرّض له اللسان والکشّاف فراجع .
والربّ إذا کان من التربیة فهو إنشاء الشیء حالاً فحالاً إلی حدّ التمام .
وقیل : لأن یربّنی رجل من قریش أحب إلیّ من أن یربّنی رجل من هوازن .
فالربّ مصدر مستعار للفاعل ، انتهی ما أردنا نقله عن المفردات للراغب .
3 ) العمق : ویلاحظ عادة فیمن یتسم بالشمولیة والاستقصاء أن یکونا علی حساب العمق فی سبر أغوار المطلب والدقة فی بیان ما تشابه واختلط من المعانی علی القوم، ولکن العلاّمة الشهید قدس سره ممّن ینطلق من العمق إلی مداه ویدقّق فیما یقرأ ویعالج .
ولنقرأ هذه الفقرة ففیها شاهد ودلیل علی هذه الخصیصة :
( وغیر خفیّ أنّ الأصحاب خلطوا بین مسائل اختلاف القراءات فی الکلمة واختلاف القراءات فی الکلام فإن الأولی تذکر فی البحث الآتی ـ یقصد بحث القراءة ـ والثانیة لابد أن تذکر فی ناحیة البحث عن الإعراب ) .
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 304
وهذه فقرة اُخری تتناول معانی صیغة استفعال وما یناسبها فی قوله تعالیٰ : « إیّاک نستعین » منها :
( وغیر خفی أنّ الاستفعال یجیء علی معان ربّما تبلغ أربعة عشر ومنها ما لیس فیه الطلب کالاستعظام والاستحسان. وبناء علی هذا لا یعتقد أن یطلب العبد هنا إعانة الرب ، بل ربّما یکون فی مقام عدّة الربّ عوناً وعدة وظهیراً . فإذا قال : إیّاک أستعظم وأستحسن فلا یرید إلاّ أنه یعدّه عظیماً ویحسبه حسناً فی الذات والصفات والأفعال ، وإذا قال إیّاک نستعین یرید أنه یحسبه عوناً فی الاُمور لا أنه یطلب منه الإعانة ولعلّ ذلک أبلغ کما لا یخفیٰ ) .
4 ) الاستقلال : تقع شخصیة المفسِّر غیر الناضجة تحت سیطرة المفسّرین الآخرین وتکتفی بالدوران فی فلکهم ، والتبعیة لآرائهم ، وتقتنص من هذا رأیاً ومن ذاک رأیاً دون أن تعزو الرأی إلی صاحبه .
وأمّا المفسّر ذو الشخصیة الناضجة المتکاملة فی أدواتها التفسیریة فیتعقّب المفسّرین ویناقشهم الحساب دون هوادة .
ومن اللطیف أن العلاّمة الشهید یناقش المفسّرین واللغویین والصرفیین والبلاغیین بمقدرة ومهارة ومن موقع الإمساک بعلوم اللغة العربیة وسواها ، ویقوّم علومهم بجرأة نادرة .
وها هی ذی نماذج تؤکد هذه الخصیصة ، یقول قدس سره : ( فما فی بعض کتب تفسیر أهل العصر من أنّ قول بعض الباحثین فی الفلسفة أن الاسم یطلق علی نفس الذات والخصیصة والوجود والعین وهی عندهم أسماء مترادفة لیس من اللغة فی شیء، ولا هو من الفلسفة النافعة بل من الفلسفة الضارّة، وإن قال الآلوسی بعد نقله عن فورک والسهیلی « وهما ممّن یعضّ علیه بالنواجذ » بل لا ینبغی ذکر مثل هذا القول إلاّ لأجل النهی عن إضاعة الوقت فی قراءة ما بنی علی السفسطة فی إثبات قول القائلین أن الاسم عین المسمّی، وقد کتبوا لغواً کثیراً فی هذه المسألة ناشئ عن قلّة الباع وعدم الاطّلاع ؛ لأن الاسم یطلق باعتبارات ) .
ویشنّ العلاّمة الشهید قدس سره حملة علی علم الصرف والصرفیین :
( وحیث إن المحرز فی علم الاُصول أن علم الصرف لا یکون من العلوم
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 305
الواقعیة بل هو نوع من الذوقیات النفسانیة والاستحسانات المحافلیة لا یعتمد علیه فی الاُصول والفروع فإن أهل البادیة یستعملونه وأهل القری یفسِّرون ویتخذون المسالک والسُبل بالتخیّلات الباردة ) .
وأُخری علی علم القراءة والتجوید :
( ولا ینبغی الخلط بین المسائل التجویدیة والمسائل الشرعیة فإن الواجب قراءة الکتاب علی الوجه الصحیح عند العرب ، ولا تجب مراعاة الکمالات والمحسنات المقرّرة فی علم التجوید فانها ربّما تورث الملال بل الخلل فی القراءة . . . وربما یظهر عند بعض الأعلام أن علم التجوید من الاختراعات المتأخرة عن طائفة خاصة کانوا یطلبون به المعاش ، وهو فی الحقیقة دکّة أسست علی الباطل العاطل ولا واقعیة والله العالم ) .
وثالثة علی اللغویین :
( والعجب من السیوطی وأمثاله وأن لیس منهم بعجیب لأنهم القشریون فی العلوم الأدبیة فضلاً عن العلوم الحقیقیة ) .
ورابعة علی النحویین :
( ومما حصلناه إلی هنا تبیّنت نقاط ضعف کثیرة فی کتب القوم صدراً وذیلاً فی معنی الملک مادة ، وفی هیئة الملک ، وفی أنها لیست مادة متعدیة ، وفی إضافة المالک أو الملک أو غیرهما ) .
5 ) سموّ الأُفق : ولا تزال همّة المفسّر ترقی به إلی أن یصل حیث یرکز علی کبار المفسِّرین فیتعرّض لآرائهم نقضاً بما توافر لدیه من عدّة واستعداد، وما تکامل لدیه من براعة انتقاد ، فإذا هو یتصدی للفخر الرازی فی أکثر من مورد؛ منها قوله قدس سره :
« والعجب من الفخر وغیره حیث توهّموا ان عدوله تعالی عن قوله مثلاً : حمدت الله وأحمد الله وهکذا وما شابهه إلی قوله تعالی الحمد لله دلیل علی أن الجملة الاسمیة تدلّ علی الحصر. وهذا شنیع فإن المحرز فی محله أن ما حقه التأخیر إذا قدم یدلّ علی الحصر بخلاف هذه الجملة » .
وقوله :
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 306
« ومن الفخر یظهر التمسک فی مورد آخر وفی مقام غیر هذا المقام بقول مشهور من لم یحمد المخلوق لم یحمد الخالق ، وأنت خبیر بأن ما هو فی روایاتنا هو أنه : من لم یشکر المخلوق لم یشکر الخالق » .
وقوله :
( ذنابة : زعم الفخر أن الإتیان بالصراط بدلاً عن السبیل والطریق للإیماء والتذکرة إلی صراط الجحیم والنار .
وأنت خبیر بأن هذه التذکرة تحصل لأجل استعمال الصراط فی الجسر الممدود علی النار بعد ظهور الاسلام وبعد طلوعه وما کان هذا معهوداً فی الجاهلیة . ولذلک اشتهر فی الکتب اللغویة أن الصراط عند المسلمین هو الجسر الممدود . وأمثال هذه النکات الباردة کثیرة فی کلماته وکلمات الآخرین، ولا ینبغی صرف العمر فی تحصیل تلک النکات غیر المعلومة إرادتها حین الاستعمال مع إمکان تحصیلها بقصیدة کل شاعر بلیغ ) .
ولا تتقاصر الهمة ولا یتدانی الأفق دون مناقشة ما جاء به کبار المفسّرین فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام .
فها هو العلاّمة الشهید وهو من هؤلاء المفسرین الکبار یتوقف عندما جاء به الطبرسی قدس سره فی مجمع البیان :
« الثلث إنما أعاد ذکر الرحمن والرحیم للمبالغة هکذا فی مجمع البیان . وفیه ما لا یخفی فان المبالغة غیر التأکید » .
وعند ما نقله الملاّ صدرا قدس سره عن الرمانی :
« الثانی أن فی الأول ذکر الإلهیة فوصل بذکر النعم التی بها یستحق العبادة وههنا ذکر الحمد فوصله بذکر ما یستحق به الحمد والشکر علی النعم فلیس فیه تکرار. هکذا أفاده صدر المتألهین أخذاً عن علی بن عیسی الرمّانی .
وفیه ما مرّ مع أن حکمة الله لیست فی العبودیة کما مرّ تفصیله مع قوّة کون الرحمن الرحیم هناک ضعف الاسم المضاف » .
ویناقش العلاّمة الشهید الأستاذ العلاّمة الطباطبائی قدس سره فی تعلیله لاختصاص الحمد بالله تعالیٰ :
« فإذا کان الحمد لکل جمیل اختیاری فی غیره تعالی له تعالی فلا یثبت به أن
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 307
کل کمال له تعالی لأن الکمالات ما لا تکون من الجمیل الاختیاری. فما تری فی تفسیر المیزان لاستاذنا العلاّمة الطباطبائی مدّ ظلّه غیر وجیه فإنه فی مقام إفادة أن الآیة الشریفة تدل علی الحصر المزبور ، ولکنه استدل بأمر خارج عن مفادها » .
ومن سموّ أُفق العلاّمة الشهید أنه یعترف لأبیه إمام الثائرین العارفین قدس سره بلفتاته التفسیرة المتمیّزة کما فی قوله :
( وقال الوالد المحقّق مدّ ظلّه : إن تقسیم الشیخ ـ یقصد الشیخ البهائی فی تقسیمه الثمانی للنعم ـ وإن کان لطیفاً إلاّ أن أهم النعم الإلهیة وأشرف مقاصد الکتاب الشریف سقط من قلمه المنیف وقد اکتفی بذکر نعم الناقصین والمتوسطین وأنه قدس سره وان ذکر النعم الروحانیة واللذة المعنویة إلاّ أنه أراد منها اللذة الحاصلة من فعل الطاعات التی هی حظ المتوسطین إن لم نقل من حظوظ الناقصین . وبالجملة غیر تلک النعم هناک نعم أُخر ولذّات أُخری عمدتها ترجع إلی ثلاث :
إحداها : نعمة معرفة الله ومعرفة الذات وعرفان السلوک إلیه تعالی والتمتع بجنّة الذات وجنّة اللقاء . . .
ثانیتها : نعمة معرفة الأسماء والصفات . . . والجنة التی تلازمه فیها هی جنّة الصفات .
ثالثتها : نعمة معرفة الأفعال . . . وفی الثالثة جنّة الأفعال ) .
6 ) الاجتهاد : فلم یحقّق العلاّمة الشهید کل ما سبق من خصائص الشمولیة والاستقصاء والعمق وسمو الأفق بل وصل فی إتقانه لعلوم اللغة العربیة التی استخدمها فی منهجه التفسیری إلی درجة الاجتهاد محققاً ما نُدب إلیه من عدم الاکتفاء فی المقدّمات بالإتقان وألا یقتصر المجتهد علی الاجتهاد فی الفقه والاُصول .
وسنکتفی بإیراد بعض لمحات من اجتهاداته فی علوم اللغة العربیة لیعلم مدی تحقّق هذه الخصیصة فیه قدس سره ففی إعراب الجمل یقول :
« وإنی بعد لم یظهر لی معنی کون مثلها ـ جملة اهدنا الصراط المستقیم ـ فی
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 308
موضع الإعراب بل التحقیق، أن الاعراب من أحوال الکلمات بما هی الواقعات فی الجمل التصدیقیة ولیست الجمل ذات إعراب ، ولا فی موضع ذوات الإعراب سواء کانت مسبوقة بالجمل أو غیر مسبوقة ، وسواء کانت مرتبطة بالجملة الأولی أو غیر مرتبطة .
نعم الجمل الناقصة الواقعة صفة أو غیرها تقع فی موضع الإعراب ، فما أفاده القوم وبیّنه ابن هشام فی الباب الثالث وغیره من الأبواب حول موضع إعراب الجمل خال من التحقیق .
وفی الواو العاطفة لجملة علی جملة یقول :
« وإن الواو ـ فی إیّاک نعبد وإیّاک نستعین ـ عاطفة الجملة إلی الجملة ، وهذا عندی محل المناقشة » .
وفی الکاف ومثل یقول :
« وما علیه النحاة من أن الکاف تجیء اسماً بمعنی مثل غیر صحیح بل هی حرف مطلقاً ، بل مثل من الحروف حسبما حقّقناه فی المعانی الحرفیة فإنه غیر مستقل بالمفهومیة ) .
7 ) النکهة الأدبیة : ولا یمکن لمفسِّر أن یتعامل مع القرآن قمّة الأدب ومعجزته المتحدیة لأُدباء العربیة وأدباء العالم دون أن یکون ذا مکانة أدبیة وذوق فنی، وهما أبعد من مسألة الاقتدار اللغوی العلمی أی التبحّر فی علوم اللغة .
ولنجتزئ بضع فقرات ممّا خطّه یراع العلاّمة الشهید فی تفسیره ؛ ففی لفتة أدبیة جمیلة یقول قدس سره :
« إن العالمین فی هذه الآیة هی العوالم المناسبة لإضافة کلمة الرب الیهم فتکون منحصرة بتلک العوالم ویکون ربّها ومربیها ومکملها ومخرجها من ظلمات المادة وکدورات الطبیعة والنقصان إلی أحسن الأحوال وأعزّ الکمال هو الله البارّ مع حفظ المرتبة بحیث لا یلزم إشکال ، وسیظهر فی المباحث المناسبة ما حقیقة القال وما یمکن أن یخطر ببال والله الموفق وإلیه الابتهال » .
وفی تغزّل یغزل خیوط العشق ویترنّم بذکر المعشوق یقول قدس سره :
( مع أن العاشق لا یتکاسل عن ذکر المحبوب والمعشوق ، بل کلّما ازداد ذکراً
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 309
ازداد شوقاً وحبّاً حتی ینخلع عن جلبابه :
أعد ذکر نعمان لنا إنّ ذکره
هو المسک ما کرّرته یتضوع
وتبدو اللمسات الأدبیة أخّاذة فی ما قدّمه من التفسیر علی اختلاف المسالک والمشارب فی تفسیر کل جملة أو آیة بعد استیفاء الحظ من العلوم المختلفة .
ولا تقتصر النکهة الأدبیة لدی العلاّمة الشهید علی تطریز تفسیره بالأبیات الشعریة العربیة بل هو یدبّجه بأبیات شعریة فارسیة لتتعانق جمیعاً فی إیقاع روح یعشق الجمال . ولتنقل هذا العشق بأکثر من نغم وأکثر من لسان .
مقترحات البحث
1 ) التصحیح : لابد من تصحیح لغوی شامل لهذا التفسیر الشریف ، فلا یعقل فی کتاب مثله یشتمل علی علوم العربیة بهذه الخصائص من الشمولیة والعمق وسواها أن یطبع بهذا الکم المخیف من الأخطاء ولا سیما الطباعیة منها ـ علی أن یتم التصحیح من قبل لغویین متخصصین أکفّاء .
2 ) التدقیق : ویقترح تدقیق العبارة الأدبیة وإعادة صیاغتها فی بعض الأحیان لأنها قد تتسم ببلاغة حیناً وتغتنی بإشارات أدبیة تراثیة لطیفة حیناً آخر ، ولکن قد یغلبها الطابع العلمی حیناً ثالثاً فیعقّدها ویفقدها نصاعتها ورواءها واستقامتها .
3 ) التحقیق : ومن المناسب تقدیم خدمة حقیقیة لهذا الکتاب من خلال محقّقین بارعین فی علوم اللغة العربیة المختلفة لعزو الآراء المختلفة إلی مواردها فی کتب النحو واللغة والصرف والإملاء والبلاغة، وتوضیح ما یمکن أن یکون التعبیر عنه بحاجة إلی بسط العبارة والتمثیل والتوضیح .
4 ) التقویم : ولعلّه من المستحسن اصطفاء ثلّة من علماء مقتدرین فی هذه العلوم من إیران الإسلام وبلاد إسلامیة أخری وعرض هذا التفسیر فی جانب علوم اللغة العربیة علیهم لإبداء ملاحظاتهم وتحلیلاتهم وتقویماتهم کخطوة أولی علی طریق التعریف بهذا التفسیر وإعطائه ما یستحق من التقدیر
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 310
والاهتمام .
5 ) الإکمال : ولابد من عمل مؤسسی یستقطب العلماء المذکورین فی الفقرة السابقة لإتمام وإکمال ما بدأ به العلاّمة الشهید والوصول بمشروعه هذا إلی غایاته المرجوّة لما ینطوی علیه من خدمة لتفسیر القرآن الکریم . علی ألا یقتصر هذا العمل علی جانب اللغة العربیة وعلومها بل یتناول سائر العلوم والمعارف والجوانب التی أعطی فیها العلاّمة الشهید عظیم العطاء جزاه الله عن الاسلام والمسلمین خیر الجزاء .
6 ) الإخراج : ولابد من توفیر ما یستحقه هذا التفسیر من خدمة متمیّزة علی صعید الإخراج الطباعی وفنونه ونسب حروفه وترقیمه وفهرسته فهارس متنوّعة تغطی کل جوانب التفسیر ومعطیاته وفق آخر ما توصل إلیه فن الإخراج الطباعی والفهرسة لیسهل الرجوع إلیه وتزداد الفائدة منه ، ویجتذب الأبصار کما یجتذب العقول .
خاتمة
ینقل عن الجاحظ إعجابه العظیم وتحیّره فی قول علی أمیر المؤمنین ومولی الموحدین وسیّد المتّقین علیه السلام « قیمة کل امرئ ما یحسنه » .
وها هو ذا العلاّمة الشهید السیّد مصطفی قدس سره من خلال تفسیره هذا ومن خلال کتبه فی علوم شتّی یأخذ من هذا القول بالحظ الأوفی والأوفر ویحقّق تنویه أبیه قدس سره به ویشیر بما کان سیکون من قیمة علمیة متمیّزة لو کان له فسحة أوسع من الأجل .
وإذا کان القرآن الکریم یجعل مناط التفوق فی مسیرة الإنسان إلی ربه « انا سنکتب ما قدّموا وآثارهم » . فهنیئاً للعلاّمة الشهید بما قدّم وهنیئاً له ولنا بآثاره
تلک آثارنا تدلّ علینا فاسألوا بعدنا من الآثار
وتبقی کلمة أخیرة یدین بها کل من سیشارک فی هذا المؤتمر الکریم وهی
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 311
الشکر لمن اقترح فکرته ولمن دعا إلیه ولمن جهد فی تنظیمه فجزاهم الله خیر جزاء المحسنین وثبّتنا الله علی خط إمام الاُمّة قدس سره والتبعیة لقیادة ولی أمر المسلمین دام ظلّه ووفّق الله رئیس الجمهوریة الإسلامیة المحبوب وحفظ الله الجمهوریة الإسلامیة من کل سوء وزادها رفعة وتألقاً بما هی مرکز الصحوة الإسلامیة ومدد المقاومة الإسلامیة ورمز الانتظار الایمانی والتهیئة الحقیقیة لظهور صاحب الزمان عجّل الله فرجه وسهّل مخرجه .
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 312