خصائص المنهج الفکری عند آیة الله الشهید السید مصطفی الخمینی
الشیخ محمد جعفر شمس الدین
الحمد لله وصلّی الله علی المبعوث رحمة للعالمین محمد وآله الطاهرین وصحبه المنتجبین .
سادتی العلماء ، أیها الإخوة الأفاضل
السلام علیکم ورحمة الله وبرکاته
أود ـ بدایة ـ أن أعترف بأنی عندما دعیت للمشارکة فی هذا المؤتمر التکریمی لآیة الله السید مصطفی الخمینی قدس سره تهیبت إجابة هذه الدعوة الکریمة ، ذلک أنی لم أکن علی أدنی معرفة بما یملک الرجل من رصید علمی وفکری مثبت ومطبوع طیلة الفترة التی تلت استشهاده .
وقد کانت هذه الدعوة الکریمة إلی هذا المؤتمر المبارک من قبل مؤسسة تنظیم ونشر تراث الإمام الخمینی قدس سره فاتحة خیر علی من هذه الجهة حیث عرّفتنی علی ما جهلت من أمر هذا المکرّم طیلة تلک السنین ، عندما زوّدتنی مشکورة ببعضٍ ولو یسیر من إنتاجه العلمی کان کافیاً لرسم صورة فی الذهن عنه واضحة المعالم ، مشرقة الألوان ، بددت کثیراً من تهیّبی فی تلبیة الدعوة وإن بقی فی النفس شیء من عتب .
عتب علی الصبر طیلة عشرین عاماً لتحصل هذه الخطوة الرائدة فی هذا الصراط مع احتیاج الأمة إلی التعرّف علی أمثال هذا المکرّم من خلال ما خلفه من آثار فکریة ، علماً بأن الجمهوریة الإسلامیة دعت طیلة السنوات الماضیة إلی عقد عشرات المؤتمرات العلمیة والفکریة لبعث تراث الأمة وإحیاء ذکری العظماء من علمائها . ولعل العتب هنا یرفعه ما ذکر فی مطلع کتاب الدعوة الموجَّه من قِبل سفارة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة ببیروت حیث جاء فیه : إن دراسة الفکر العلمی والعمل السیاسی والخصائص الأخلاقیة للشهید آیة الله
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 241
السید مصطفی الخمینی قدس سره هی حسنة تأجّلت مع تأجیل معرفتنا بالعدید من الأبعاد العلمیة التی تمیزت بها شخصیة الشهید رغم مرور عشرین عاماً علی استشهاده .
ومهما یکن ، فإن هذه الالتفاتة بحد ذاتها وإن جاءت متأخرة ، تعتبر مساهمة حقیقیة فی مسیرة تعریف الأمة بعظمائها وعلمائها من خلال نشر تراثهم الفکری والعلمی وشدّها إلی ذلک التراث وتوعیتها علی ما یتضمنه من رؤی وتطلعات یرتبط فیها الماضی بالحاضر تأسیساً لما سوف یکون علیه المستقبل .
الخصائص الفکریة للعالم المفکر
مما لاشک فیه ـ من وجهة نظری ـ أن الخصائص الفکریة التی یتمتع بها العالم فی أی حقل من حقول العلم هی التی تؤطر البحث وتمنحه الحیویة والعمق والصدقیة فی التعاطی مع شتی المسائل المعروضة ، ذلک أن تلک الخصائص لدی الباحث سوف تنسحب علی بحثه لتطبعه بطابعها وتسمهُ بمیسمها . فلیس العالم مجرد وعاء للمعلومات المکدسة التی لا یربط بین مفرداتها رابط ولا یجمعها إطار ، إذ هی والحال هذه لا تعدو أن تکون کمّاً مهملاً لا تنتج قضیة علمیة ولا تخلق بحثاً موضوعیاً أو تحاکم رأیاً ، وإنما العالم بحق هو ذلک الإنسان الذی یملک إضافة إلی المعلومات ملکةً یستطیع من خلال إعمالها تصنیف تلک المعلومات فی مجموعات متجانسة متناسقة تکوّن کل مجموعة منها رصیداً علمیاً مؤطراً بإطار واضح المعالم بین الحدود والأبعاد ، یرجع إلی استنطاقه کلما دعت الحاجة وبأقل قدر ممکن من بذل الجهد واستفراغ الوسع ؛ ذلک أنه بات یعلم فی أیة سلة یجد ضالته ویعثر علی منشوده ، فیستل سلاحه العلمی لیقارع به الخصم لیبلور علی ضوئه الفکرة مطرح البحث . وهذه الخصیصة هی ما نطلق علیه عنوان الوضوح المنهجی فی البحث العلمی ، الوضوح من حیث المظانّ ومن حیث المضامین ، وهنا یأتی دور سمة جدیدة من سمات البحث المنهجی هی سمة التنوع ، فَرُبَّ مسألة أصولیة لها جنبة فلسفیة أو تاریخیة أو عرفیة أو لغویة أو کلامیة، وربما کانت تلک
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 242
المسألة قد اجتمعت فیها کل هذه الجوانب ، فکان لابد للباحث ـ لیستقیم البحث وتتسع فائدته ـ من أن یلامسها حسب ما تقتضیه حاجة البحث ، وهذا یستدعی أن یکون الباحث ملمّاً بکلّ أو بجلّ هذه الحقول المعرفیة لیؤدی دوره العلمی ویدلی بدلوه فی المطارحات الفکریة حول تلک المسائل .
ولکن خصیصتَی الوضوح والتنوّع هاتین لابد وأن ینضمّ إلیهما خصیصة أخری لا تقل عنهما أهمیة وخطورة. فأیة مسألة مطروحة لابد وأن تکون قد دارت حولها نقاشات مستفیضة ونظِّر لها بنظریات مختلفة وسطِّرت فیها أقوال متعارضة، کل ذلک لا فی عصر واحد بل فی عصور متعاقبة متباعدة أو متقاربة، ومن أشخاص مختلفی المشارب العلمیة والمدارس الفکریة . ولذا کان لابد للباحث ـ بعد وضوح المسألة مطرح البحث لدیه ـ من أن یکون محیطاً بکل الأقوال فیها مع أحوال قائلیها ومنطلقاتهم التی أدّت بهم إلی تبنّی تلک الأقوال، وظروفهم الزمانیة والمکانیة التی قد یکون لها دخالة کبیرة فی قناعاتهم ومواقفهم . وهذه الخصیصة هی ما نطلق علیه عنوان الاستقصاء المنهجی فی البحث العلمی .
ولکن خصیصة الاستقصاء المنهجی هذه علی فائدتها لا نجدها مجدیة کفایة لإضفاء صفة العالم علی صاحبها إلاّ إذا اقترنت بخصیصة أخری ؛ ذلک أنها وحدها لا تجعل من الإنسان إلاّ سارداً للمعلومات والأقوال ومؤرخاً لها ، فهو بذلک شبیه بآلة التسجیل التی تسمعک ما خزِّن فیها من أصوات ؛ ولذا کان لابد للباحث من أن یعمل فکره هنا فی اتجاهین : الاتجاه الأول : هو أن یتحری النزاهة فی عرض الأقوال والآراء والنظریات الموضوعة حول المسألة مطرح البحث. وهذه الخصیصة هی ما نطلق علیه عنوان : الموضوعیة فی البحث العلمی ، لأن الباحث عند تجرده منها لا یملک الأمانة العلمیة حیث یقوِّل الآخرین ما لا یقولونه ویلزمهم بما لم یلزموا به أنفسهم . والاتجاه الثانی : هو أن یعمل فکره ومخزوناته العلمیة ویبذل وسعه فی محاکمة تلک الأقوال والنظریات بعد إخضاعها للنقد العلمی الإیجابی فیرفضها کلها بدلیل وحجة ، أو یتحیز إلی بعضها ولکن بدلیل وحجة ، أو یبتکر لنفسه موقفاً مستجداً متکئاً علی الحجة والدلیل . وهذه الخصیصة هی ما نطلق علیه عنوان : الأصالة فی البحث العلمی .
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 243
والخصیصة الأخیرة التی ینبغی أن یتوافر علیها الباحث هی الشخصیة النقدیة الجریئة التی تخوّله أن یقتحم الحصون الفکریة للآخرین بسلاح الفکر الذی یمتلکه لیبنیها أو لیدکّها لا فرق ، أو لیهدم ما یراه متصدعاً منها ولیعلی منها ما یراه أهلاً للبقاء والاستمرار بزرقها ببراهین وحجج جدیدة لم یتمکن أصحابها من الوصول إلیها لغفلة أو لعدم قدرة .
هذه هی باختصار أهم الخصائص التی تجعل ممن تتوافر فیه عالماً مفکراً وباحثاً مجیداً ، وتعطی لبحثه الجوهریة والقیمة العلمیة العالیة : الوضوحُ والتنوعُ والاستقصاءُ والموضوعیةُ والأصالةُ والشخصیةُ النقدیة .
ونحن عندما نعود إلی عالمنا الکبیر الذی نجتمع فی هذا المؤتمر لنکرّمه محاولین إلقاء بعض الأضواء علی بعض ما خلفه من تراث علمی؛ فماذا نجد ؟
لقد ذکرت فی بدایة حدیثی بأننی استلمت من مجموع مؤلفات السید الشهید ثلاثة کتب : کتاب الصوم ، ویقع فی مئتین واثنتین وثلاثین صفحة ، والمجلد الأول من تحریراته الأصولیة ، ویقع فی خمسمئة وإحدی وستین صفحة ، ویشتمل علی مقصدین من مباحث الألفاظ ، ینتهی الثانی منهما بمبحث مقدّمة الواجب ، وتفسیر القرآن الکریم ، ویقع الجزء الأول منه فی أربعمئة وثلاث وثلاثین صفحة ، وینتهی بتفسیر قوله تعالی من سورة الحمد : اهدنا الصراط المستقیم .
وقناعتی التی توصلت إلیها بعد مراجعتی لهذه الکتب الثلاثة فی فروع ثلاثة من العلوم الإسلامیة ، هی أن المحتفی به الیوم کان فعلاً العالم والباحث المجید ، حیث کانت کل تلک الخصائص التی ذکرناها تحکم مجتمعة ومتفرقة جل ما حوته کتبه الثلاثة من بحوث ومسائل .
واسمحوا لی هنا أن أقوم بجولة سریعة علی مواضع من کتبه الثلاثة المذکورة آنفاً لنتأکد من هذه الحقیقة .
نبدأ مع کتاب تفسیر القرآن الکریم ، حیث نجده ـ رضوان الله علیه ـ منذ البدایة یدلی بدلوه فی وضع تعریف لهذا العلم ، بعد أن یذکر1 نصاً لأبی حیّان یزعم فیه أنه لم یقف لأحد من علماء التفسیر علی رسم له ، ثم یذکر تعریفاً له ، حیث یبادر السید الشهید إلی الخدشة فیه بقوله :
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 244
« وما جعله ـ یعنی أبا حیان ـ رسماً یرجع إلی انحلال علم التفسیر إلی العلوم المختلفة وعدم کونه علماً مستقلاً قِبال سایر العلوم المدونة ».2
ثم یضع رحمه الله تعریفاً له یراه أصحّ وأدقّ فیقول : « وأما تعریفه فهو العلم بالمرادات والمقاصد الکامنة فیه بالإحاطة بها بقدر الطاقة البشریة »3.
وإنّما قید الاحاطة بقدر الطاقة لأنه یری بأن الإحاطة المطلقة غیر ممکنة « وذلک لأن کلام الکبریاء أجلّ من أن یکون شریعة لکل وارد . وقلیل من الناس وصلوا إلی أسراره ، وهم مع ذلک ینادَون من مکان بعید ، إن موضوع هذا العلم وهو القرآن لیس له حد تقف علیه الأفهام ، ولیس کغیره من کلام الأنام وإنّما هو مقال الملک العلاّم ، ذو عبارات للعلماء ، وإشارات وحقائق للأولیاء ، ولطائف للأنبیاء ، بل هو بحر لجی فی قعره درر ، وفی ظاهره خبر ، والناس فی التقاط درره ، والوصول إلی خبره علی مراتب متفاوته . . .الخ »4.
ومن هنا ، یری قدس سره بأن اختلاف التفاسیر کان ناشئاً من تفاوت أصحابها فی التوجهات والدرجات ، حیث غلب علی کل واحد منها توجه لصاحبه، فجاء وقد طغی علیه إما الجانب البلاغی والأدبی ، أو الجانب اللغوی ، أو الجانب الکلامی مما توهم أنه من باب الحکمة والبرهان ، أو الجانب القصصی والسیرة ، أو الجانب الحدیثی والنقل الخبری . وکل هذا سهل إزاء بعض التفاسیر التی ـ کما یقول رضوان الله علیه ـ تغلب علیها التأویلات البعیدة والبیانات الغریبة العجیبة . ومرد ذلک6 من وجهة نظره ، إلی أن أصحابها « لم یأخذوا فی تفاسیرهم من مشکاة النبوة والولایة ، والتفسیر الجامع لمجامع العلوم والأحکام والکافل للحقائق والدقائق ، والشامل للإشارات والعبارات ، والحاوی لأسس مطالب الحکمة والعرفان ، لم یتیسر لأحد من العلماء والحکماء ، ولا یمکن ذلک إلاّ لمن خصّ بهبة من الله تعالی وراثة من الأنبیاء وأخذ العلم من مشکاة الأولیاء واقتبس قوة قدسیة ونوراً من الله » .
من هذه النقطة بالذات ، ندرک السر الکامن وراء تشمیره عن ساعد الجد لیلج هذا المحیط الذی لا حدود، له، مستهدیاً فی ذلک بکلمات أهل بیت النبوة ، الذین خوطبوا بهذا القرآن وهم الراسخون فی العلم . ومن هنا ، جاء تفسیره الذی لم یکتمل ـ للأسف ـ بحثاً متعدد الجوانب یجد کل باحث فیه حقل اختصاصه ،
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 245
ویعثر کل منقب بین زوایاه علی ما یهمه من مسائل فی مجال اهتماماته العلمیة . فالفیلسوف والمتکلم والأصولی والفقیه والمؤرخ والأدیب والعرفانی کلٌّ له فیه مأرب ومنهل من خلال ما تضمنه من بحوث فلسفیة وکلامیة وأصولیة وفقهیة وأدبیة وعرفانیة ، ولذا فقد اتسم بسمة مهمة من سمات البحث المنهجی هی سمة التنوع التی کنا قد ذکرناها آنفاً ، والتی تمنح أی مؤلف صدقیة قد تفتقر إلیها مؤلفات کثیرة سبقته فی هذا المضمار .
وعلی سبیل المثال ، نورد هنا ما أثبته رحمه الله من فهرست عام عندما تناول الحدیث عن الناحیة الأولی فی بسم الله ، حیث أثبت العناوین التالیة7:
الرسم والخط ـ اللغة والصرف ـ القراءة ـ الحکمة والفلسفة ـ المعانی والبلاغة ـ الفقه ـ علم الحروف والأعداد ـ علم الأسماء والعرفان ـ النحو والإعراب .
وکذا ما ذکره فی الناحیة الثانیة8 فی الرحمن الرحیم ، حیث أضاف إلی العناوین السابقة العناوین الجدیدة : التجوید ـ الأخلاق ـ علم العروض ـ علم الأوفاق ـ التفسیر والتأویل علی المسالک المختلفة .
ثم زاد عند حدیثه فی الموقف الأول9 من الناحیة الثالثة حول الحمد لله رب العالمین العناوین الجدیدة التالیة : علم الکلام وتاریخه ـ القراءة وفضلها ـ الموعظة الحسنة ؛ کما زاد عند حدیثه فی الموقف الثانی عنواناً جدیداً هو علم الأصول10.
واللافت هنا أمران :
الأول : أن الراحل المکرّم عندما یتناول فی أی موضع جنبة کلامیة أو أصولیة أو فلسفیة أو غیرها فی تفسیره، فلیس معنی ذلک أنه یفیض ویطنب لینقض علیه بما نقض هو به علی السابقین من أن تفاسیرهم طغی علیها هذا الجانب أو ذاک ، وإنّما نراه یتناول من الموضوع ما یلامس الآیة التی هو بصدد تفسیرها من جهة ، ومن جهة أخری نراه یقتصر علی الإیجاز الغیر المخل بمطلوبه . وکمثال علی ذلک نأخذ ما ذکره عند الحدیث عن قوله تعالی : الحمد لله ، وخلاف العلماء فی وجوب الشکر والحمد أو لا ، وهل الوجوب عقلی أو نقلی، مع إیراد استدلال الطرفین. قال رضوان الله علیه11: « وهذا من غرائب
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 246
الاستدلالات ، وذلک لأن العقل إن کان یدرک ذلک فلا یحتاج إلی الاستدلال بالآیة ، وإن کان لا یدرک هذا الاستحقاق فهو من الدلیل الشرعی لا العقلی ، فکأن المستدل استدل بالدلیل اللفظی علی أن الدلیل فی المسألة عقلی ، وهذا الأمر لا یخلو من أضحوکة » .
کما نراه یقول بصدد تفنید استدلال آخر علی المسألة نفسها12: « وغیر خفی أن هذا التقریب من نوع الاستدلال الفقهی . . . وما فتحنا باباً لبحث الفقه ومسائله » .
الثانی : أنه قدس سره ، لم یقتصر علی مجرد إیراد النظریات والأقوال فی مظانها من کتابه وسردها ، وإنّما کان یوردها بأمانة ودقة مشیراً إلی مصادرها فی کتب قائلیها ، لیناقش منها ما لا یتفق مع قناعاته ورؤاه ، ثم لیدلی بعدها باجتهاده الذی یستند فیه لا إلی استحسان أو هوی وإنّما یربطه إلی أصول وقواعد تضرب فی أعماق الفکر الإسلامی لترتبط بمعدن الإسلام المحمدی الرائق المأخوذ من کلمات أهل بیت العصمة علیهم السلام وبذلک اتسم تفسیره إلی جانب سمة التنوع بثلاث سمات أخری هی : سمة الأصالة ، وسمة الاستقصاء المنهجی ، وسمة الموضوعیة التی لا نعنی بها عدم التحیز وإنما النزاهة فی العرض والاختیار المبرهن علیه .
وعلی سبیل المثال لا الحصر ، نأخذ ما ذکره رحمه الله فی أول تفسیره لسورة الفاتحة ، بعد أن قسم هذا الفصل إلی مباحث13 متراتبة تدل علی صفاء ذهن یستشف منه مدی هضمه لخارطة بحثه ووضوح الفکرة لدیه ، وضوحاً منهجیاً لا غموض فیه . ومن هنا جاءت متناسقة بتسلسل تراتبی متین ، نجده یورد الأقوال المتعددة حول کل مبحث من هذه المباحث مع أدلتها، ثم یبدی رأیه المختار، ثم یستدل علیه مباشرة أو من خلال تفنیده لأدلة الأقوال الأخری. وهو سواء فی استدلاله المباشر أو تفنیده لأدلة باقی الأقوال، ما کان یغیب عنه الاستناد إلی الروایات الواردة عن أهل بیت العصمة علیهم السلام کما الواردة فی کتب أهل السنة؛ التزاماً منه بضرورة الوضوح المنهجی وروح الاستقصاء والموضوعیة المشدودة کلها إلی الأصالة کعاصم من الانزلاق وراء الهوی المضلّ . کیف وهو الذی یقول فی کتاب الصوم14: « اللهم اعصمنا عن الرأی
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 247
والاستحسان والقیاس وإلغاء الخصوصیة والفهم العرفی . . . الخ » .
وفی السیاق نفسه یندرج ما سطّره (نوّر الله ضریحه) فی المسألة الثالثة15 من المبحث الأول والذی یدور حول مکیة سورة الفاتحة أو مدنیتها ، وأنها أول ما نزل من القرآن أو غیرها ، وبخاصّة ما بحثه تحت عنوان : ( بحث وتحصیل )16، ونحن نورد ـ کشاهد هنا ـ مقطعاً صغیراً منه ذکره بصدد الانتصار لرأیه قال : « والذی یظهر من تتبع الآثار ومراجعة الأخبار أن الصلاة کانت مفروضة بمکة ، بل کان الرسول صلی الله علیه و آله یصلی قبل البعثة کما فی سیرته ، وقد ورد فی أحادیثنا وأحادیث العامة ما یدل علی أن لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب ، وقضیة إطلاق هذه الأخبار وتلک التعابیر، أنه صلی الله علیه و آله ما کان یصلی بغیرها ، لظهور الروایات فی تقوّم طبیعة الصلاة بها مطلقاً ، فصلاته قبل البعثة کانت معها؛ فهی أول ما نزل، والله الموفق ، فلیتأمل » .
هذا کله کان جولة سریعة فی الجزء الأول من تفسیره رضوان الله علیه . وإذا ما انتقلنا لنتصفح کتاب الصوم له قدس سره تطالعنا خصائص الوضوح المنهجی والاستقصاء والموضوعیة والأصالة فی موارد کثیرة من بحثه خصوصاً ما ذکره فی الجهة الثالثة تحت عنوان : الصوم عند الأمم السابقة، وکذا فی الفصل الثالث من الموقف الاول تحت عنوان التعیین فی النذر وأخویه وکون المنذور صوماً معیناً أو صوماً علی الإطلاق . وکذا فی الفصل السادس تحت عنوان : اشتغال النیة بالأنواع المتعددة . . .الخ. وإذا رجعنا إلی تحریراته فی الأصول، فإننا سوف نخرج بنفس النتیجة التی خرجنا بها فی مراجعتنا للتفسیر. فالمنهج هو هو ، من حیث اشتماله علی أکثر الخصائص المذکورة آنفاً. فالوضوح والاستقصاء والأصالة والموضوعیة تظهر بجلاء من أول الکتاب إلی آخره . فأنت عندما تبدأ مع الناحیة الأولی من البحث الأول17 المتمحور حول مسألة موضوع العلم، یجبهک هذا المنهج بکل خصائصه . فهو ـ رضوان الله علیه ـ یعرض بدایةً لتاریخ المسألة ویقرر ما اشتهر بین کل علماء التحقیق من أنه لابد لکل علم من موضوع ، ثم ذکر بعد ذلک رأی والده الإمام قدس سره بإنکاره علیهم ما تبانوا علیه وصاروا إلیه ، ثم راح یسرد حجج السید الإمام بکل دقة وأمانة ، ثم بعد ذلک شرع فی بیان مختاره فی المسألة بقوله18: « أقول : ما أفاده ـ دام ظله ـ لا
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 248
یورث إلا عدم الحاجة إلی بیان الموضوع وعدم تمامیة ما أفاده القوم لموضوع العلم ، فعلیه لا برهان علی عدم الموضوع، وإن صرح فی آخر کلامه بذلک، ولکنه غیر مبرهن علیه فیما قرره المقرر . والذی هو التحقیق ان مسائل کل علم . . .الخ » . وقد دخل هنا فی محاکمة الآراء المطروحة حول هذه المسألة مبتدئاً برأی والده الإمام قدس سره بأسلوب یعطیک انطباعاً قویاً بوضوح المسألة فی ذهن الباحث وضوحاً یجعله قادراً علی ترتیب أجزائها ترتیباً متناسقاً ، کما یعطیک انطباعاً بما یتمتع به الباحث من موضوعیة وأصالة واستقصاء منهجی لا یغفل معه قولاً ولا حجة لقول ، مما یمنحه القدرة علی الوعی الکامل لطریقة التعامل مع الآخر تفنیداً وتأییداً .
وکذلک تخرج بالنتیجة نفسها عندما تنتقل إلی تصفّح الجهة الأولی19 من المبحث الثانی من تحریرات فی الأصول ویدور حول الوضع ، ویستمر الحال هکذا من القناعة لدی القارئ بمنهجیة السید الشهید المشتملة علی کل العناصر الرائدة للبحث المنهجی السامق حتی الفصل الأخیر من الجزء الأول من هذا الکتاب وهو الفصل السادس فی مقدمة الواجب ، بل حتی الأمر الأخیر من هذا الفصل وهو الأمر الثالث عشر حیث یُدخل الباحث الکبیر هنا ـ کبحوث سبقته ـ خصیصة التنوع فی البحث فیتحدث فی الجنبة الفقهیة للمسألة اضافة إلی الجنبة الأصولیة فیقول20: « فالبحث فی المسألتین الأصولیة والفقهیة » أی الفرعیة . أقول : وفی هذا البحث من النظرات الثاقبة والحس العلمی المرهف والنقض والإبرام ما یجعل لدی المطلع قناعة تامة بما کان یتمتع به عالمنا الکبیر من عمق ودقةِ وعی وسموّ معرفی ، ومن أراد أن یشعر بما شعرت به عندما قرأت ما کتبه هنا فما علیه إلاّ أن یبادر إلی تصفحه .
بقی أن نشیر إلی خصیصة أخیرة من أهم خصائص البحث المنهجی وهی ـ فی الوقت نفسه ـ من خصائص وممیزات الباحث المنهجی أیضاً ، ألا وهی خصیصة الروح النقدیة والجرأة العلمیة ، هذه الخصیصة التی لابد لأی باحث مجید من أن یتصف بها حتی یأتی بحثه شاملاً ووافیاً وشافیاً. بهذه السمة یستطیع الباحث أن یثری العلم ویعلی من مدامیکه ویخلصه من کثیر من الشوائب ویفتح عیون أجیال قادمة من الباحثین علی آفاق ورؤی جدیدة ،
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 249
ویشرع أمامهم أبواباً ومنطلقات ، ما کان لها أن تتهیأ لو اکتفی الباحث بالانفعال والتلقی دون الفعل والإبداع والابتکار .
وإذا عدنا إلی مفکرنا الکبیر لنحاول استکشاف هذه الخصیصة فی شخصیته العلمیة من خلال ما بین أیدینا من کتبه ، لفوجئنا بأنها لا تحملنا مؤونة الاستکشاف ومشقته؛ إذ نجدها تکشف عن نفسها بشکل سافر صارخ فی کل بحث من البحوث وفی کل مسألة من المسائل ، فی کل باب وفی کل فصل من أبواب وفصول هذه الکتب .
فلو أخذنا کتاب تفسیر القرآن الکریم للمسنا ذلک جلیاً ، وکمثال علی ذلک ـ لکی لا نطیل فی الاستشهاد ـ نراه قدس سره یذکر قول21 من یری عدم جزئیة البسملة لکل سورة فی القرآن ، ودلیله عدم معهودیة عدها من الآیات فی القرآن الموجود بین أیدی المسلمین کافة ، بل یشرعون فی تعداد الآیات من بعدها . . .الخ ، وبعد أن یورد ما احتج به هؤلاء لرأیهم نجده رحمه الله یقول : « وفیه : أنه تأیید ولا دلالة فیه بعدما مرّ من الأدلة علی أنها. منها ومما یشهد علی ما اخترناه أن فی القرآن أغلاطاً إملائیة ربما تبلغ أکثر من مئة. وما ذلک إلاّ لبنائهم علی التحفظ علی ما صنعه الأولون وهم جاهلون ولا عبرة بصناعتهم » .
ومثال آخر علی ذلک أنه قدس سره عندما یتحدث22 عن کلمة الرحمن ویتساءل ـ بعد البناء علی کونها عربیة ـ هل هی من المشتقات أو الجوامد ، ثم یذکر ثلاثة وجوه کأدلة للقائلین بأنها لیست من المشتقات ، وبعد ذلک نجده یبادر إلی رد کل هذه الوجوه الثلاثة بقوله : أقول : یتوجه إلی الأول . . .الخ . إلی أن یقول23: « فالمتحصل مما قدمناه إلی هنا أن الرحمن تارة یطلق ویکون علماً مسلوباً عنه الوصفیة کقوله تعالی24: «قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن » . وأخری یطلق ویراد منه المعنی الوصفی کقوله تعالی25: « وإلهکم إله واحد لا إله إلاّ هو الرحمن الرحیم . . . » إلی آخر ما أورده قدس سره.
ثم نراه یختم کلامه برد صاحبی القاموس والمفردات فیما ادعیاه فی هذا المقام بقوله : وما فی القاموس : الرحمة : المغفرة . أو فی الراغب : إن الرحمة فی الحقّ هی الإحسان المجرد دون الرقة ، فرار عن الإشکال العقلی ، ومداخلة فیما
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 250
لا ینبغی أن یتدخل فیه اللغوی ، وتفسیر بجزء المعنی .
وعلی هذه الوتیرة ، یمضی عالمنا الکبیر مندفعاً بروح نقدیة عالیة وجرأة علمیة سامیة یتتبع الأقوال المختلفة والآراء المتباینة، فیصحح ما أسیء فهمه منها ، ویرد ما یراه غلطاً وخلطاً ، غیر متهیب أن یکون صاحب القول أو مرتئی الرأی من جهابذة علماء التفسیر وأعلام المفسرین ، کما فعل مع صدر المتألهین26، والآلوسی27، والقرطبی28، والفخر الرازی29، والشیخ الطوسی30، وغیرهم .
وکمثال علی ذلک نورد ذیل کلامه رداً علی ما ادعاه صاحب تفسیر المنار بأن مقالة من قال : إن أسرار القرآن فی الفاتحة وأسرار الفاتحة فی البسملة وأسرار البسملة فی الباء وأسرار الباء فی نقطتها ـ بأن هذه المقالة عند صاحب المنار ـ من مخترعات الغلاة الذین ذهب بهم الغلو إلی سلب القرآن خاصّته وهی البیان ، حیث قال رضوان الله علیه : والعذر منه ، جهله بالمعارف الإلهیة والرموز المخفیة عن الخواص فضلاً عنه وهو من العوام لدی أولی البصائر والأبصار31.
وإذا انتقلنا إلی تحریراته الأصولیة رضوان الله علیه فإن خصیصة الروح النقدیة والجرأة العلمیة تشتد وضوحاً وتجلیاً . ولعل سبب هذا الوضوح وذلک التجلی هو ما تقتضیه طبیعة البحوث الأصولیة المتنوعة الجوانب ، حیث یتداخل فیها البحث الأصولی مع البحوث الفلسفیة والکلامیة والفرعیة واللغویة والأدبیة. وتمر علینا أثناء تصفحنا للمجلد الأول من هذه التحریرات عشرات المواضیع التی یورد فیها أقوالاً لمشاهیر علماء الأصول وجهابذتهم ثم یناقشهم حججهم مفنداً لها أو معدلاً فیها لتستقیم مع ما یراه أصوب وأوفق ، أو لیطرح فی قبال آرائهم رأیه ویدلی بدلوه حول المسألة المبحوث عنها . ولذا تتکرر أمام العین أسماء لامعة فی سماء البحث الأصولی کصاحب الفصول والشیخ الأنصاری والمحقق الخراسانی والمحقق العراقی والمحقق الإصفهانی والمحقق النائینی والمحقق الحائری والعلامة الآراکی والإمام الخمینی وغیرهم کثیر .
وتتکرر أمام أعیننا بعد إیراد الأقوال لهؤلاء العلماء مع حججها، عباراته
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 251
ـ رحمه الله ـ فی بدایة کل نقاش تلک الأقوال بألسنة مختلفة مثل : قلت : هذا غیر موافق للتحقیق عندنا . أو : أقول : ما أفاده دام ظله لا یورث . أو : وهذا باطل . أو : وهذا أیضاً فاسد . أو : ولعمری إنه مما لا ینبغی إطالة الکلام حوله لکونه من اللغو المنهی عنه بداهة أن . . .الخ .
وأود أن أشیر هنا إلی ناحیة هی فی اعتقادی مثال واضح علی ما کان یتمتع به عظیمنا الراحل من روح نقدیة مقرونة بجرأة علمیة لافتة ، ذلک أن الإنسان العالم قد یستسیغ أن یعترض علی رأی لأستاذ سبقه زمنیاً أشواطاً فی میدان العلم ، وقد یصل به الاعتراض علی ذلک الرأی حدّ مناقشته لبیان مواطن الضعف والخلل فی استدلاله علیه ، أما أن یعترض إنسان عالم علی عالم آخر فی عشرات المسائل وفی حقول علمیة متعددة مع کون المعترض علیه سبب وجود المعترض فی هذه الدنیا وعلته ، وهو فی الوقت نفسه أستاذ أساتیذه ، مشهود له بالعمق ورجاحة العقل وسداد الرأی ، أضف إلی ذلک کله الزعامة الدینیة والدنیویة التی انعقد له لواؤها بلا منازع ، أن یعترض هکذا إنسان ولو کان عالماً مجیداً علی هکذا أستاذ ، وفی حیاته وعلی مسمع ومرأی منه، کل هذا یستلزم أن یکون هذا المعترض متمتعاً بشخصیة متمیزة فریدة تملک من الروح النقدیة والجرأة العلمیة رصیداً ضخماً . عنیت بالمعترض السید مصطفی رحمه اللهوبالمعترض علیه إمام الأمة والده قدس سره . وأذکر هنا کمثال مسألة واحدة من تحریرات فی الأصول ، یقول عالمنا32 المکرّم نوّر الله ضریحه : « اختار السید الوالد المحقق تبعاً لجماعة من الأعلام ـ رحمهم الله ـ أن العام غنی عن مقدمات الحکمة ، وغایة ما أفاده هو أن لفظة کل وسائر أدوات العموم تفید الکثرة ، والإضافة إلی الطبیعة تفید الکثرة من تلک الطبیعة ، والطبیعة تفید نفسها لا الأمر الخارج عن حدود الموضوع له ، فإذا کان الأمر کذلک فلا یستفاد الاستیعاب إلاّ من الوضع ومقتضی الدلالة اللفظیة .
أقول : إن التقریب المزبور یحتاج إلی التکمیل ، وذلک لعدم اقتضاء إضافة مفهوم الکل إلی الطبیعة فردَها ومصداقَها؛ لأن المضاف إلیه هو الطبیعة الفارغة عن أیة دلالة علی الفرد فرضاً ، والکل المضاف إلی هذه الطبیعة لا یفید إلاّ کثرتها ویلزم عندئذٍ کون الکلام غلطاً لما لا کثرة فیها ، فتفسیر قولنا : کل بیع إلی کل
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 252
مصداق منه تفسیر بما هو الخارج عن حدود الدلالة الوضعیة ، فتلزم إما اللغویة ، أو للفرار عنها أن یکون المراد الکثرة الخارجیة فلا تکون لفظة کل دالة علی الفرد .
وثانیاً : دلالة أداة العموم علی الاستیعاب غیر واضحة ، فإنها ربما تکون دالة علی الکثرة . وأما استیعاب جمیع أفراد المدخول، فهو أمر خارج محتاج إلی الدلیل . ونحن إذا راجعنا المحاورات العرفیة والعقلائیة نجد أن المتکلم کثیراً ما یستعمل أداة العموم مع أنه لا یکون فی مقام إفادة الاستیعاب بل هو فی مقام أضیق منه . . . » .
کما أذکر مسألة من مسائل الفقه ذکرها السید مصطفی قدس سره فی کتاب الصوم، تشیر بجلاء إلی نفس النقطة المحوریة التی نحن بصدد تجلیتها .
ففی مسألة ما لو کان علیه قضاء رمضان السنة التی هو فیها ، وقضاء رمضان السنة الماضیة فهل یجب تعیین أنه ( أی القضاء ) عن أی منهما ؟ أو تکفی نیة الصوم قضاء ، حیث ذکر أن مختار والده ـ رضوان الله علیهما ـ کان التفصیل بین صورتی سعة الوقت لإتیانهما قبل دخول شهر رمضان ، وعدمها ، فلا یجب التعیین فی الصورة الأولی ، بخلاف الصورة الثانیة . وبعد أن ردّ أکثر الأقوال فی المسألة لأکثر من فقیه، قال33: « وأما ما فی کلام الوالد مد ظله من أنه مع ضیق الوقت لابد من ذلک ( أی التعیین ) فهو أیضاً بلا وجه ، لأنه إذا قصد قضاء رمضان یقع عن رمضان المطلق ، وأما وقوعه عن رمضان الذی یکون موضوع الأثر فلا یحتاج إلی القصد، فبالجملة ، لا یلزم من هذه التفصیلات لزوم تعیین النیة ، بل یلزم ذلک إذا أُرید ترتب الأثر علیه ، وذلک نظیر ما إذا کان الإنسان مدیناً بدین یقابله الرهن ودین بلا رهانة ، ثم أعطی من دینه مقداراً أقل من مجموع الدینین ، فإنه یقع عن دینه بلا رهن ، وفی لزوم فک الرهن یحتاج إلی القصد الخاص . . . الخ .
حتی فی کتاب التفسیر ، عثرت علی مورد یصبّ فی الإطار نفسه . فبعد أن ذکر قدس سرهدعوی من یدعی أن الواضع للمعانی هو الله تعالی أو الأنبیاء والرسل أو الملائکة المقدسة ، وردّ تلک الدعوی، قال 34: « وکان الوالد المحقق فی بعض کتبه العقلیة والأخلاقیة مصراً فی تثبیت تلک المقالة وفاقاً لأرباب العرفان
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 253
والسلوک وأصحاب الأیقان والشهود ، ولا أظن التزامه بذلک فی محله وهو العلوم الاعتباریة کالفقه والأصول ، فالحق أحق أن یتبع من عقول الرجال » .
بقی أن أشیر إشارة إلی محطة أخیرة فی هذا المجال ، أعتقد أنّ لها مدلولاً عمیقاً فی الإفصاح عما کان یختزنه أُستاذنا الشهید من حس علمی مرهف وعمیق تنطوی علیه روح مبدعة خلاّقة تملک إمکانات عالیة من الوضوح والأصالة والجرأة فی حلبة الصراع الفکری . حیث إنه رضوان الله علیه فی أغلب المسائل التی بحثها فی تحریراته الأصولیة وغیرها کان ـ بعد أن یقرر آراء الآخرین فیها ثم یناقشهم حججهم وأثناء تقریره لمختاره أو بعد تقریره ـ ینشئ إشکالاً محتملاً علی تقریره ثم یدفعه ، مستعملاً أسلوب إن قلت قلتُ . أو ولو قیل قلنا . أو أقول. وهذا الأسلوب وإن لم یکن هو المبتکر له بل کان موجوداً فی کتب قدامی علمائنا رضوان الله علیهم، إلاّ أنه فاقهم فی استعماله کماً وکیفاً ، إضافة إلی أنه أعاد له الحرارة والحیویة من جدید، بعد أن کاد یغیب عن الساحة العلمیة فی العصور الأخیرة . وهذا إن دل علی شیء، فإنّما یدل علی مدی فهمه بأذواق العلماء ، ممن سبقه أو عاصره ومدی وضوح أفکارهم وأنماطهم العلمیة بحیث یمکنه ذلک الفهم وهذا الوضوح من استشفاف ما سوف تکون علیه ردة فعلهم إزاء ما یطرحه فی قبال طروحاتهم من نقوض أو نظریات ، فیوردها هو ثم یردّ علیها .
کما نجده قدس سره حریصاً أشد الحرص علی توضیح مراداته وأفکاره ونظراته من خلال إثباته لعناوین فرعیة أثناء بحوثه أو بعدها تجدها منبثة بشکل لافت للنظر فی ثنایا کتبه ، ومن هذه العناوین الفرعیة : إفادة وفذلکة ، وهم ودفع ، عقد وحل ، إعضال وانحلال ، تتمیم ، ومیض ، إفاضة وإبانة ، تنبیه ، ذنابة ، تذنیب ، إیقاظ ، فرع ، تفریع . . .الخ .
وبعد؛ هذه هی خصائص المنهج الفکری لعظیمنا المحتفی به بعد استشهاده بعشرین عاماً ، المنهج الفکری الذی أتم رسم خطوطه ونسج خیوطه ربما قبل استشهاده بعشرة أعوام علی الأقل . ومعنی ذلک أن بلوغه مرحلة الاجتهاد بنبوغ غیر عادی کان متزامناً مع سنی بلوغه الأولی ، فَقَدّروا معی ما کان سوف یکون علیه هذا النابغة الفذ لو شاء الله أن یمدّ فی أجله عشر سنین أخری ، ولکنه
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 254
قضاء الله الذی لا مردّ له یجعلنا نقف عند حقیقة تذکّرنا بألاّ نسأل عن العظماء ـ وهم صانعو أحداث التاریخ ـ کم عاشوا ، لأن الحیاة بالنسبة إلیهم لا تقاس ب(کم) السنین بل بکیفها .
وفی الختام ، أوّد أن أوجه الشکر إلی مؤسسة تنظیم ونشر تراث الإمام الخمینی قدس سره علی دعوتها لعقد هذا المؤتمر ، ولکنی أود فی الوقت نفسه أن أتقدم منها بتمنٍ أکید مع رجاء أن یأخذ القیّمون علیها هذا التمنی بجدیة وحرص .
أولاً : إن ما وقع تحت یدی من آثار الشهید آیة الله السید مصطفی المطبوعة کان ملیئاً بالأخطاء ، ولا أعنی الأخطاء المطبعیة فقط بل اللغویة والنحویة والإملائیة ، کما أننی لاحظت بعض المواقع فی تحریرات الأصول وغیرها التی ربما یکون قد حصل سقط فیها أو خلط یجعل ما تضمنته من مطالب غامضاً غیر مفهوم المراد . ولعل ذلک حصل نتیجة غفلة بعض النساخ للأصل عنها أو تهاونهم فی ضبطها کما ینبغی .
ثانیاً : أرجو إعادة النظر فی تبویب المواضیع وترتیب العناوین وضبطها من جدید ، إذ ربما یکون من المستحسن تقدیم بعضها وتأخیر بعض آخر .
ثالثاً : إرفاق هذه الآثار بنبذة وافیة عن حیاة السید الشهید ونشاطه السیاسی والعلمی والاجتماعی تکون مقدّمة معبّرة بین یدی أی باحث لآثاره .
رابعاً : العنایة بإخراج موسوعة آثاره حسب تسلسلها الزمنی إن أمکن بحلة انیقة وإطار جمیل یلیق بمکانة صاحبها العلمیة والاجتماعیة مع إلحاقها بفهارس علمیة مشتملة علی موضوعات جمیع تلک الآثار .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمین
والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته .
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 255
الهوامش
1 و 2 و 3 ـ تفسیر القرآن الکریم ، الجزء الأول ص 11 .
4 ـ تفسیر القرآن الکریم ، الجزء الأول ، ص 12 .
5 و 6 ـ المصدر نفسه ، ص 13 .
7 ـ المصدر نفسه، ص 57 .
8 ـ المصدر نفسه، ص 145 .
9 ـ المصدر نفسه، ص 209 .
10 ـ المصدر نفسه، ص 269 .
11 ـ المصدر نفسه، ص 247 .
12 ـ المصدر نفسه.
13 ـ المصدر نفسه، ص 17 وما بعدها .
14 ـ کتاب الصوم ، ص 219 .
15 ـ المصدر نفسه، ص 18 و 19 .
16 ـ المصدر نفسه، ص 21 .
17 ـ تحریرات فی الأصول ، الجزء الأول ، ص 21 .
18 ـ المصدر نفسه، ص 23 .
19 ـ المصدر نفسه، ص 45 وما بعدها .
20 ـ المصدر نفسه، ص 545 وما بعدها .
21 ـ تفسیر القرآن الکریم ، الجزء الأول ، ص 45 .
22 ـ المصدر نفسه، ص 149 ـ 150 .
23 ـ المصدر نفسه، ص 151 .
24 ـ الإسراء : 110 .
25 ـ البقرة : 163 .
26 ـ راجع تفسیر القرآن الکریم ، الجزء الأول ، ص 297 .
27 ـ المصدر نفسه، ص 340 و 274 .
28 ـ المصدر نفسه، ص 353 .
29 ـ المصدر نفسه، ص 170 ـ 171 ـ 236 ـ 256 ـ 359 .
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 256
30 ـ المصدر نفسه، ص 40 ـ 41 .
31 ـ المصدر نفسه، ص 123 ـ 124 .
32 ـ تحریرات فی الأصول ، الجزء الثانی ، ص 475 ـ 476 .
33 ـ کتاب الصوم ، ص 107 ـ 108 .
34 ـ تفسیر القرآن الکریم ، الجزء الأول ، ص 158 ـ 159 .
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 257
کتابمجموعه مقالات کنگره شهید آیت اللّه مصطفی خمینی(ره)صفحه 258