الأمر الثانی بیان مقدّمات الاجتهاد
فلاریب فی أنّه بمجرّد وجود ملکة الاستنباط لشخص لایجوز الرجوع إلیه وتقلیده، بل له شرائط ـ بعضها دخیلة فی نفس الملکة، وبعضها فی جواز العمل برأیه ـ فمع عدم اجتماع تلک الشرائط لایجوز الرجوع إلیه، ولیس معذوراً لو قلّده وعمل برأیه.
فمن الاُمور التی هی دخیلة فی حصول القوّة وملکة الاستنباط : تحصیل العلوم العربیّة بمقدار یمیّز به اصطلاحات العرب، ویفتقر إلیها فی فهم معانی الکلمات العربیّة وتراکیب الکلام العربی، فمع عدم ذلک لیس معذوراً فی مخالفة الواقع لو ظنّ بالحکم الفعلی، بل ومع القطع به أیضاً.
ومنها : الاُنس بالاصطلاحات المتداولة عند أهل اللسان واستقامة ذهنه وعدم اعوجاجه؛ لکثرة اشتغاله بالمطالب العقلیّة والفلسفیّة وبعض مباحث الاُصول والمطالب العقلیّة الدقیقة فی المعانی الحرفیّة، فإنّ کثیراً من هذه المطالب مانع عن الاستنباط الصحیح المستقیم. نعم بعض مباحث المنطق والکلام والاُصول ممّا له دخْل فی الاستنباط، کمباحث الأقیسة ونحوها لتمییز الصحیحة عن السقیمة؛ وذلک لأنّ المخاطب بالخطابات الشرعیّة هم العرف العامّ، وأنّ المعیار فیها هو الانفهامات العرفیّة.
ومنها : علم الاُصول، وهو واضح، ولعلّ إنکار الأخباریّ له ناشٍ عن
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 589
زعمه: بأنّ ما ذهب إلیه الاُصولیّون من حجیّة الإجماع ـ مثلاً ـ یراد به ما هو حجّة عند العامّة: من حجّیّة اتّفاق العلماء وإجماعهم بما أنّه إجماعهم، وإلاّ فعلی مبنی الإمامیّة رضوان الله علیهم ـ من أنّ حجّیّته إنّما هی لأجل کشفه عن قول المعصوم علیه السلام ـ فلاسبیل له إلی إنکاره، وعدمُ کشف قول المعصوم علیه السلام به عنده، لایوجب الطعن علی من هو کاشف عنه عنده.
کما یحتمل أن یکون إنکاره القواعد الاُصولیّة، ناشٍ عن أنّ مثل العلاّمة والسیّد ونحوهما، قد یذکرون الاستحسانات والأقیسة الباطلة فی مقام الاستدلال، ولکنّه غفل عن أنّ ذکرهم لها لیس علی وجه الاستدلال بها للمسألة، بل ذکروها إلزاماً للمخالفین بمعتقدهم، بعد الفراغ عن ثبوت أصل المسألة علی طبق مبانیها الصحیحة؛ ألا تری أنّهم ربّما یستدلّون بالأخبار الواردة من طرق العامّة، مع وضوح عدم حجّیّتها عندهم، فطعن الأخباری بذلک علی الاُصولی إنّما هو لعدم التفاته إلی ذلک، وإلاّ فلا مفرّ للأخباری عن العمل بکثیر من المسائل والمطالب الاُصولیّة، مثل حجّیّة الظواهر وأخبار الآحاد وظهور الأمر فی الوجوب وأمثال ذلک.
ومنها : علم الرجال، ما یمیّز به الثقة عن غیره.
ومنها : العلم بالکتاب والسُّنّة ـ وهو العمدة ـ فلابدّ للمستنبط من ملاحظة الآیات فی کلّ مسألة وحکمٍ ومعرفة مورد نزولها، وکذلک الأخبار والغور فیها، وتحصیل الاُنس بمذاق الأئمّة علیهم السلام، وکیفیّة محاوراتهم.
ومنها : مراجعة أقوال الأصحاب خصوصاً المتقدّمین منهم الذین کانوا قریبی العهد بهم علیهم السلام؛ لئلاّ یخالف فتواه إجماعهم، واحترازاً عن الفتوی بخلاف الشهرة بینهم.
وذکر المحقّق البهبهانی قدس سره فی «فوائده» : أنّ من شرط الاجتهاد حصول
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 590
القوّة القدسیّة، وأطال الکلام فی ذلک، فراجع.
ومع اجتماع هذه الشرائط یجوز له العمل برأیه بعد الفحص عن الأدلّة ومعارضاتها.
ثمّ اعلم : أنّ هذا بعینه هو الموضوع لجواز الإفتاء؛ لعدم کونه من المناصب المفتقرة إلی الإذن والنصب، بل هو إظهار لرأیه الذی یجوز له العمل علی وفقه، فما طعن به الأخباری ومنعه عن الاجتهاد والاستنباط اغتراراً ببعض الروایات، منشؤه توهّم: أنّ المراد به هو ما عند العامّة ومنه طریقتهم، وإلاّ فلا محیص للأخباری عن الاجتهاد وإعمال المرجّحات عند تعارض الأخبار، والقول بحجیّة الإجماع الکاشف عن رأی المعصوم علیه السلام أو الإجماع الدخولی، کما أنّ المجتهد أخباریّ أیضاً؛ بمعنی أنّه یعمل علی طبق الأخبار، فالنزاع بین الفریقین لفظیّ.
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 591