مبحث التعارض واختلاف الأدلّة

مقتضی الأصل علی الطریقیّة

مقتضی الأصل علی الطریقیّة

‏ ‏

‏أمّا البحث فی بیان مقتضی القواعد العقلیّة فیهما بناءً علی الطریقیّة، فعلی القول‏‎ ‎‏بأنّ مستند حجّیّة الأمارات هو بناء العقلاء وإمضاء الشارع لها، لا تأسیساً من‏‎ ‎‏الشارع، فلابدّ فی صورة تکافئهما من الرجوع إلی ملاحظة بنائهم فی تلک الحال، فقد‏‎ ‎‏یقال: إنّ بناءهم علی التساقط والتوقّف لوجهین :‏

الأوّل :‏ أنّه لاریب فی أنّ حجّیّة خبر الواحد عندهم، إنّما هی من باب الطریقیّة‏‎ ‎‏لا السببیّة، وفی صورة تعارض الخبرین والعلم بمخالفة أحدهما للواقع، لیس واحد‏‎ ‎‏منهما کاشفاً عن الواقع، ولیس بناؤهم علی العمل بواحد منهما لتکاذبهما؛ لأنّ کلّ‏

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 517
‏واحد منهما مستلزم لعدم کاشفیّة الآخر عن الواقع، فلا أماریّة عندهم لواحد منهما،‏‎ ‎‏وهو معنی التساقط والتوقّف.‏

الثانی :‏ أنّه لیس احتجاج العقلاء بخبر الواحد لأجل حصول العلم بالواقع، بل‏‎ ‎‏لأجل عدم المُؤمِّن من العقاب علی الواقع، وعدم معذوریّة العبد فی مخالفة الواقع لو‏‎ ‎‏خالف الأمارة؛ أی المؤدّیة إلی الواقع، والأمارة منجّزة للواقع عندهم إذا کانت واصلة‏‎ ‎‏إلیهم، فمع عدم الظفر بأمارة تدل علی وجوب صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ بعد الفحص عنها،‏‎ ‎‏فإنّه لایصحّ للمولی الاحتجاج علی العبد فی ترک صلاة الجمعة، ولو فرض وجود‏‎ ‎‏الامارة علیه واقعاً ولکن لم تصل إلیه؛ لعدم وجود ما یصلح للاحتجاج به علیه،‏‎ ‎‏ووجودها فی الواقع غیر صالح لذلک.‏

‏ولو قامت علی وجوب صلاة الجمعة، وکان هناک أمارة اُخری أقوی منها علی‏‎ ‎‏عدم الوجوب، ولکن لم تصل إلی المکلّف بعد الفحص والیأس عنها، فإنّه یصحّ‏‎ ‎‏للمولی الاحتجاج علی العبد بالأمارة الاُولی، فلو فرض مصادفتها للواقع وترک‏‎ ‎‏العمل بها، فقد خالف الواقع بلا حجّة وعذر؛ لفرض أنّ الأمارة الثانیة ـ التی هی‏‎ ‎‏أقوی ـ غیر واصلة إلیه، وحینئذٍ فهو مستحقّ للعقوبة.‏

والحاصل :‏ أنّ الأمارة بوجودها الواقعی لاتصلح للاحتجاج بها، فکما أنّها‏‎ ‎‏بحسب وجودها الواقعی غیر صالحة للاحتجاج بها، بل الحجّة هی الأمارة الواصلة‏‎ ‎‏بالطرق المتعارفة، کذلک الأمارة الواصلة المبتلاة بأمارة اُخری معارضة لها ومکذّبة‏‎ ‎‏لها، فإنّها حینئذٍ أیضاً لاتصلح للاحتجاج بها. وبعبارة اُخری : الأمارة المعارَضة‏‎ ‎‏بأمارة اُخری ولیست واحدة منهما حجّة، ولیس سواهما شیء آخر هو الحجّة.‏

‏هذا کلّه بالنسبة إلی مضمونهما المطابقی.‏

‏وأمّا بالنسبة إلی لازم مضمونهما المطابقی؛ لو فرض لهما لازم، کما لو قامت أمارة‏‎ ‎‏علی وجوب صلاة الجمعة، الذی لازمه عدم استحبابها وعدم حرمتها وعدم کراهتها،‏

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 518
‏وقامت اُخری علی حرمتها التی لازمها عدم وجوبها واستحبابها وکراهتها، فإنّ کلّ‏‎ ‎‏واحدة منهما وإن کانت معارِضة للاُخری فی الحرمة والوجوب، لکنّهما بالنسبة إلی نفی‏‎ ‎‏الاستحباب والإباحة والکراهة متّفقتان، بل تدلاّن معاً علیه، لکن الحجّة علی ذلک،‏‎ ‎‏هل هو کلّ واحد منهما ـ کما هو مذهب بعض ـ أو أنّ الحجّة علی تلک المدلولات‏‎ ‎‏الالتزامیّة هو أحدهما الواقعی الغیر المعلوم لنا تعییناً، لا أحدهما المعیّن، أو أنّه لیس‏‎ ‎‏واحداً منهما حجّة بالنسبة إلی تلک اللوازم أیضاً، وجوه.‏

‏قد یقال ـ والقائل هو المیرزا النائینی ‏‏قدس سره‏‏ ـ بالأوّل؛ لأنّ تعارضهما إنّما هو‏‎ ‎‏بالنسبة إلی مدلولهما المطابقی؛ أی الوجوب والحرمة فی المثال، فیتساقطان فیه، وأمّا‏‎ ‎‏بالنسبة إلی مدلولهما الالتزامی فلا یتعارضان لیتساقطا فیه، فکلّ واحد منهما باقٍ علی‏‎ ‎‏حجّیّته بالنسبة إلیه.‏

وتوهّم :‏ أنّ الدلالة الالتزامیّة تابعة للدلالة المطابقیّة، فلا مجال لبقائها بعد‏‎ ‎‏سقوطهما بالنسبة إلی المطابقیّة‏‎[1]‎‏.‏

‏فاسد، فإنّ الدلالة الالتزامیّة فرع المطابقیّة فی الوجود لا فی الحجّیّة.‏

وبعبارة أوضح :‏ الدلالة الالتزامیّة للکلام تتوقّف علی دلالته التصدیقیّة؛ أی‏‎ ‎‏دلالته علی المؤدّی ، وأمّا أنّ المؤدّی مراد فهو ممّا لا تتوقّف علیه الدلالة الالتزامیّة،‏‎ ‎‏فسقوط المتعارضین عن الحجّیّة والمؤدّی ، لا یلازم سقوطهما عن الحجّیّة فی نفی‏‎ ‎‏الثالث‏‎[2]‎‏. انتهی.‏

أقول :‏ یرد علیه : أنّه ‏‏قدس سره‏‏ إن أراد بقوله: ـ إنّها تابعة لها فی الوجود لا فی‏‎ ‎‏الحجّیّة ـ أنّه مع العلم بکذب الخبر فی المدلول المطابقی وعدم مطابقته للواقع، هو‏‎ ‎‏کاشف عن المدلول الالتزامی.‏


کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 519
‏فهو کما تری ، فإنّه کیف یمکن وجود ما هو تابع لشیء بدون وجود المتبوع،‏‎ ‎‏وتقدّم سابقاً: أنّ الحقّ هو أنّ الدلالة الالتزامیّة لیست من الدلالات اللفظیّة، بل اللفظ‏‎ ‎‏لایدلّ إلاّ علی معناه المطابقی، لکن المعنی المطابقی یکشف بوجوده عن المعنی‏‎ ‎‏الالتزامی، فاللاّزم لازم للمعنی ، لا للفظ؛ کی یقال: إنّه لیس حجّة بالنسبة إلی المعنی‏‎ ‎‏المطابقی عند المعارضة، وهو حجّة بالنسبة إلی المعنی الالتزامی، فمع عدم إرادة وجوب‏‎ ‎‏صلاة الجمعة بالإرادة الجدّیّة من قوله: «تجب صلاة الجمعة»، لا معنی لکشفه عن‏‎ ‎‏لازم الوجوب کعدم الإباحة والاستحباب والکراهة، فإنّ الانتقال إلی اللازم إنّما هو‏‎ ‎‏لأجل التضادّ بین الوجوب والاستحباب، وأنّه یعلم من ثبوت الوجوب لشیء عدم‏‎ ‎‏استحبابه، وأمّا مع عدم ثبوت الوجوب لشیء فأین ما یُنتقل به إلی عدم استحبابه؟!‏

وبعبارة اُخری :‏ إنّما یصلح خبر الثقة للاحتجاج به، بعد سدّ باب احتمال المجاز ـ‏‎ ‎‏واستعمالِ اللفظ فی غیر ما وضع له ـ بجریان أصالة الحقیقة، وبعد جریان أصالة الجدّ؛‏‎ ‎‏لدفع احتمال عدم إرادة المعنی الحقیقی جدّاً.‏

‏والاستدلال به بالنسبة إلی المدلول الالتزامی، متوقّف علی جریان أصالة الجدّ‏‎ ‎‏فی الملزوم الذی هو المعنی المطابقی، فلو لم تحرز الإرادة الجدّیّة بالنسبة إلی الملزوم،‏‎ ‎‏کوجوب صلاة الجمعة فی المثال، لما صحّ الاحتجاج به بالنسبة إلی لازمه العرفی أو‏‎ ‎‏العقلی کعدم استحبابها، فلیس موضوع للحجیّة وصحّة الاحتجاج، مجرّد دلالة اللفظ‏‎ ‎‏علی المعنی بالإرادة الاستعمالیّة، بل هی مع جریان أصالة الجدّ، وحینئذٍ فلایتمّ ما‏‎ ‎‏ذکره ‏‏قدس سره‏‏: من أنّ الدلالة الالتزامیّة فرع المطابقیّة فی الوجود لا فی الحجّیّة، کما لایخفی .‏

‏هذا کلّه بناءً علی المختار: من أنّ مستند حجّیّة خبر الواحد هو بناء العقلاء.‏

‏وأمّا بناءً علی أنّ المستند لها هی الأدلّة الشرعیّة من الآیات والروایات، ففیها‏‎ ‎‏احتمالات بحسب التصوّر العقلی:‏

أحدها :‏ أنّها مهملة بالنسبة إلی حال التعارض، بل هی فی مقام إثبات حجّیّة‏

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 520
‏خبر الواحد فی الجملة.‏

ثانیها :‏ أنّ مفادها حجّیّة خبر الواحد مقیّداً بصورة عدم التعارض.‏

‏وهذان الاحتمالان مجرّد تصوّر عقلیّ، لاینبغی تطویل الکلام والبحث عنهما.‏

ثالثها :‏ أنّها تعمّ صور التعارض بالإطلاق اللحاظی؛ أی لحاظ الإمام ‏‏علیه السلام‏‏أو‏‎ ‎‏الشارع حال التعارض أیضاً حال الحکم بالحجّیّة.‏

‏وفیه أنّه لو سلّمنا الإطلاق اللحاظی، فلایمکن أن یراد به لحاظه وإرادته العمل‏‎ ‎‏بکلا الخبرین المتعارضین؛ لاستحالته؛ لعدم إمکان العمل بالضدّین أو المتنافیین. وإن‏‎ ‎‏اُرید منه أنّ الشارع لاحظ الخبرین وجعلهما حجّة؛ لیقع بینهما التعارض، ثمّ أهملهما،‏‎ ‎‏فهو أیضاً ممّا لا معنی له لتنزّه مقام الشارع عن ذلک.‏

‏فلابدّ أن یراد منه أنّ الشارع لاحظهما فی مقام جعل الحجّیّة أیضاً، وأنّه أحاله‏‎ ‎‏إلی حکم العقل والعقلاء عند التعارض، فکما أنّهم یحکمون بالتخییر بینهما لو صرّح:‏‎ ‎‏بأنّ هذا حجّة وذاک حجّة، کذلک لو لاحظهما فی مقام جعل الحجّیّة لخبر الواحد، لکن‏‎ ‎‏تقدّم عدم تسلیم الإطلاق اللحاظی.‏

وإن قلنا :‏ بأنّ حجّیّة خبر الواحد مستفادة من إطلاق الآیات والأخبار ذاتاً؛‏‎ ‎‏بمعنی أنّ الشارع جعل تمام الموضوع للحجّیّة نفس الطبیعة الشاملة لحال التعارض‏‎ ‎‏ـ کما هو کذلک ـ فهل تقتضی القواعد التوقّف أو التخییر عند التعادل؟ وجهان.‏

فقد یقال :‏ مقتضی القاعدة هو التخییر؛ سواء قلنا بالطریقیّة فی حجّیّة أخبار‏‎ ‎‏الآحاد، أم السببیّة؛ لشمول أدلّة حجیّة خبر الواحد لجمیع الأفراد بنحو العموم،‏‎ ‎‏والمفروض شمول إطلاقها الذاتی لحال التعارض، فمع عدم إمکان الجمع فی العمل بها،‏‎ ‎‏فإمّا أن یُطرحا ویُترک العمل بهما معاً، أو یقیّد الإطلاق بما یرتفع المحذور، وحیث إنّه‏‎ ‎‏بحکم العقل یقتصر فیه علی ما یرتفع به المحذور والعذر العقلی، وهو عدم إمکان الجمع‏‎ ‎‏بینهما فی العمل، فتصیر النتیجة وجوب الأخذ بهذا الخبر عند ترک العمل بالآخر‏

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 521
‏وبالعکس، وهو معنی التخییر، ولا سبیل إلی الأوّل ـ أی طرحهما ـ فتعیّن الثانی.‏

وقد یقال :‏ إنّ هذا البیان إنّما یصحّ بناءً علی السببیّة ؛ لأنّه مثل وجوب إنقاذ‏‎ ‎‏الغریق فی تعلّق حکمٍ نفسیٍّ به، واشتمال کلّ واحد منهما علی مصلحة مقتضیة‏‎ ‎‏لمطلوبیّته ذاتاً، فإنّ العقل یحکم بالتخییر فیه عند عدم إمکان الجمع بینهما، أو یکشف‏‎ ‎‏عن وجود قید فیه.‏

‏وأمّا بناءً علی الطریقیّة فی حجّیّة خبر الواحد، فلا یستقیم هذا البیان لإثبات‏‎ ‎‏التخییر؛ لأنّه بناءً علی ذلک فالعمل بکلّ واحد منهما حینئذٍ لیس مطلوباً ذاتاً؛ لأنّ‏‎ ‎‏وجوب العمل بخبر الواحد طریقیّ للوصول إلی الواقع، ولا یعقل کشف کلّ واحد‏‎ ‎‏منهما عن الواقع أیضاً، ولا یعقل کاشفیّة کلّ واحد منهما علی تقدیر طرح الآخر، الذی‏‎ ‎‏هو معنی التخییر أیضاً، فلا مناص حینئذٍ من التوقّف.‏

‏لکن یرد علی البیان المذکور للتخییر بناءً علی السببیّة أیضاً: بأنّه إن اُرید من‏‎ ‎‏التقیید العقلی، تقیید العقل إرادة الشارع المطلقة أو العامّة، فلا معنی له؛ لأنّ العقل لیس‏‎ ‎‏مشرِّعاً، فلابدّ أن یراد به أنّ العقل کاشف عن وجود التقیید الشرعی واقعاً؛ بناءً علی‏‎ ‎‏ما هو المشهور فی المتزاحمین، أو أنّ العقل یحکم بمعذوریّته مع شمول الدلیل لهما معاً،‏‎ ‎‏وهو الحقّ، وحینئذٍ فالأمر فیما نحن فیه دائر بین تخصیص عموم «صدِّق العادل» بغیر‏‎ ‎‏صورة التعارض ـ وحینئذٍ فلیس واحد منهما حجّة ـ وبین تقیید إطلاقه، وحینئذٍ‏‎ ‎‏فأحدهما حجّة بنحو التخییر، وتقدّم أنّ تقیید الإطلاق إنّما یقدّم علی التخصیص عند‏‎ ‎‏دوران الأمر بینهما إذا کان التعارض بینهما ذاتیّاً، مثل «أکرم العلماء»، و«لاتکرم‏‎ ‎‏الفاسق»، فإنّ العامّ یصلح للبیانیّة، فلا یعارضه الإطلاق فی المطلق، وأمّا مع عدم کونه‏‎ ‎‏ذاتیّاً، بل علم من الخارج إجمالاً: إمّا بورود قید للمطلق، أو مخصّص للعامّ، کما فیما نحن‏‎ ‎‏فیه، فلیس التقیید فیه أولی من التخصیص؛ لأنّ کلّ واحد منهما صالح للاحتجاج به،‏‎ ‎‏فلیس کشف العقل عن وجود قید لإطلاق «صدِّق کلّ عادل»، أولی من کشفه عن‏

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 522
‏وجود مخصِّص لعمومه؛ حتّی ینتج التخییر.‏

‏هذا کلّه لو قلنا بأنّ الدلیل علی حجّیّة خبر الواحد هو الأدلّة الشرعیّة.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 523

  • )) کفایة الاُصول : 499 ، حاشیة فرائد الاُصول ، المحقّق الخراسانی : 266 سطر 11 .
  • )) فوائد الاُصول 4 : 755 ـ 756 .