الاستصحاب

الأمر الثانی: استصحاب الأحکام الوضعیّة

الأمر الثانی: استصحاب الأحکام الوضعیّة

‏ ‏

ثمّ أنّه ‏قدس سره‏‏ ذکر فی الکفایة :‏‏ أنّه لا فرق فی الأثر الشرعی المستصحب أو‏‎ ‎‏المترتّب علی الموضوع المستصحب؛ بین کونه من الأحکام التکلیفیّة والوضعیة، ولا‏‎ ‎‏بین المجعولة مستقلاًّ وغیرها‏‎[1]‎‏.‏

‏وهو صحیح، غیر أنّا ذکرنا سابقاً: أنّ جمیع الأحکام الوضعیّة قابلة للجعل‏‎ ‎‏المستقلّ أیضاً، ولا یمتنع ذلک فی شیء منها.‏

لکن هنا عویصة یصعب الذبّ عنها :‏ وهی أنّ الأمر متعلّق بالصلاة المتقیِّدة‏‎ ‎‏بالطهارة وعدم المانع، واستصحاب الطهارة من الحدث والخبث وسائر الشرائط،‏‎ ‎‏لایثبت أنّ هذه الصلاةَ المأتیّ بها مع استصحاب الطهارة متقیّدةٌ بالطهارة، وهکذا‏‎ ‎‏بالنسبة إلی استصحاب عدم المانع. نعم یترتّب علی استصحاب الطهارة الآثار‏‎ ‎‏الشرعیّة المترتّبة علی نفس الطهارة، مع أنّ استصحاب الطهارة من الحدث والخبث‏‎ ‎‏موردا روایتی زرارة‏‎[2]‎‏.‏


کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 193
وتوهّم:‏ أنّ الصلاة لیست متقیّدة بالطهارة، بل الطهارة والطهور من الأوصاف‏‎ ‎‏المعتبرة فی المصلّی‏‎[3]‎‏.‏

مدفوع :‏ بأنّه یستلزم عدم وجوب الصلاة علی من لیس علی طهارة، ولا یجب‏‎ ‎‏علیه حینئذٍ تحصیلها أیضاً؛ لأنّ مرجعه إلی أنّها شرط التکلیف لا المکلّف به،‏‎ ‎‏کالاستطاعة بالنسبة إلی وجوب الحجّ.‏

وتوهّم :‏ أنّ هنا واجبین وتکلیفین : أحدهما الوضوء مثلاً، وثانیهما الصلاة.‏

مدفوع أیضاً :‏ بأنّه یستلزم صحّة الصلاة والخروج عن العهدة بالإتیان بها‏‎ ‎‏بدون الطهارة وإن عصی بترک الطهارة والوضوء علی هذا التقدیر.‏

وتوهّم :‏ أنّهما مترتّبان .‏

مدفوع أیضاً :‏ بأنّه إن اُرید تقیید الأوّل ـ أی الطهارة الواجبة ـ بتحقّق الصلاة،‏‎ ‎‏ووقوعها بعدها، یلزم عدم صحّة الوضوء مع عدم الإتیان بالصلاة بعده.‏

‏وإن اُرید تقیید الصلاة بوقوعها عقیب الوضوء فهو معنی تقیید الصلاة به،‏‎ ‎‏ولایثبت ذلک التقیید باستصحاب الوضوء من الفاعل، والإشکال کما تری لایختصّ‏‎ ‎‏باستصحاب المانع وعدمه، بل الشروط أیضاً کذلک، فلا وجه لتخصیصه بالأوّل.‏

‏وأمّا التمسّک بروایتی زرارة بالنسبة إلی استصحاب الطهارة من الحدث والخبث‏‎ ‎‏لخروج الشرائط عن محطّ البحث والکلام، بخلاف الموانع.‏

ففیه :‏ أنّه قد تقدّم عدم اختصاص الأخبار بموردها؛ أی استصحاب الطهارة‏‎ ‎‏من الحدث والخبث؛ لأنّ المستفاد من أخباره: أنّ المناط نقض الیقین بالشکّ،‏‎ ‎‏ولا دَخْل لخصوصیّة موردها، وأنّ الخصوصیّة ملغاة عرفاً، فلو قلنا باعتبار المثبِت‏

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 194
‏من الاستصحاب فی خصوص الطهارة من الحدث والخبث، فغیرهما أیضاً کذلک‏‎ ‎‏بإلغاء الخصوصیّة، ومقتضاه حجّیّة المثبِت من الاستصحاب مطلقاً، وهو ممّا لایمکن‏‎ ‎‏الالتزام به.‏

هذا، ولکن یمکن دفع الإشکال :‏ بأنّ المستفاد من الآیات والروایات الواردة فی‏‎ ‎‏باب الوضوء، وکذا الإجماع وقوله ‏‏علیه السلام‏‏: (‏لاصلاة إلاّ بطهور)‎[4]‎‏ هو أنّ الصلاة‏‎ ‎‏مشروطة بصدورها من المتطهّر لقوله تعالی : ‏‏«‏وَإِنْ کُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا‏»‏‏ ، وقوله‏‎ ‎‏تعالی : ‏‏«‏إِذا قُمْتُمْ إِلی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ‏»‏‎[5]‎‏ الآیة، فأنّ هیئة الأمر فیها وإن‏‎ ‎‏استعملت فی معناها ـ أی البعث والطلب ـ لکن یستفاد منها أنّ الصلاة إذا صدرت‏‎ ‎‏عن فاعل غیر متطهّر فهی فاسدة، وإذا صدرت من المتطهّر فهی صحیحة، ولیس‏‎ ‎‏معنی ذلک إلاّ اشتراط الصلاة بصدورها من المتطهّر، وکذا قوله ‏‏علیه السلام‏‏: (‏لا صلاة إلاّ‎ ‎بطهور‏)، فأنّ معناه: أنّ الصلاة الصادرة من المتطهّر صحیحة، ومن الغیر المتطهّر‏‎ ‎‏فاسدة، فیستفاد منه اشتراطها بصدورها من الفاعل المتطهّر، وحینئذٍ فإذا کان المکلّف‏‎ ‎‏متطهّراً سابقاً، وشکّ فی بقائه علی الطهارة، فصلّی باستصحاب الطهارة، فالصلاة‏‎ ‎‏الصادرة منه بالوجدان صادرة عن المتطهّر تعبّداً، فهی واجدة للشرط؛ أی صدورها‏‎ ‎‏من المتطهّر، وهو کذلک تعبّداً.‏

‏وکذا الکلام بالنسبة إلی الموانع فأنّ المستفاد من قوله ‏‏علیه السلام‏‏ فی روایة ابن بکیر:‏‎ ‎‏(‏لاتُصلِّ فی وَبَر ما لا یُؤکل لحمه)‎[6]‎‏ أنّها إذا صدرت من اللاّبس لغیر المأکول فهی‏‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 195
‏فاسدة، فمع استصحاب کونه لابساً لغیر المأکول، تصیر الصلاة الصادرة منه وجداناً‏‎ ‎‏متّصفة بصدورها من اللاّبس لغیر المأکول تعبّداً، فهی فاسدة.‏

‏نعم یشکل الأمر بالنسبة إلی استصحاب عدم المانع وعدم الشرط لإحراز‏‎ ‎‏صحّة الصلاة ووقوعها صحیحة فی الأوّل وعدم وقوعها صحیحة فی الثانی؛ حیث أنّه‏‎ ‎‏لیس هناک کبری کلّیّة شرعیّة تدلّ علی صحّة الصلاة الصادرة من الفاعل‏‎ ‎‏الغیراللاّبس لغیر المأکول ، أو علی عدم صحّة الصادرة من الفاعل الغیر الواجد‏‎ ‎‏للشرط، بل هو حکم عقلیّ، والصادرمن الشارع عدم صحّة الصلاة الصادرة من‏‎ ‎‏اللاّبس لغیر المأکول، وصحّة الصلاة الصادرة من المتطهّر، وحینئذٍ فلا تثبت صحّة‏‎ ‎‏الصلاة وتحقّقها باستصحاب عدم لبسه لغیر المأکول، وعدم صحّة الصلاة باستصحاب‏‎ ‎‏عدم کونه متطهِّراً.‏

وتوهّم :‏ أنّ مرجع مانعیّة شیء للصلاة إلی اشتراط الصلاة بصدورها من الغیر‏‎ ‎‏اللاّبس لما لا یؤکل لحمه؛ لعدم تصوّر المانعیّة فیما نحن فیه؛ لعدم الضدّیّة التکوینیّة بین‏‎ ‎‏الصلاة وبین لبس ما لا یؤکل ، فلابدّ أنّ یکون عدمه قیداً للصلاة.‏

ففیه :‏ أنّ ذلک حکم عقلیّ لا یساعده فهم العرف المحکّم فهمه فی المقام؛ لوضوع‏‎ ‎‏أنّه لایفهم العرف من قوله ‏‏علیه السلام‏‏: (‏لاتُصلِّ فی وَبَر ما لا یُؤکل لحمه‏) إلاّ مانعیّته‏‎ ‎‏للصلاة، لا شرطیّة عدمه لها، کما أنّ المتبادر عرفاً من قوله ‏‏علیه السلام‏‏: (‏اغسل ثوبک من‎ ‎أبوال ما لا یُؤکل لحمه)‎[7]‎‏ هو شرطیّة الطهارة من الخبث للصلاة، کتبادر شرطیّة‏‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 196
‏الطهارة من الحدث من قوله تعالی : ‏‏«‏إِذا قُمْتُم إلی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا‏»‏‎[8]‎‏ الآیة،‏‎ ‎‏وحینئذٍ فاستصحاب عدم المانع لایثبت وقوع الصلاة مع عدم المانع وصحتها؛ لما‏‎ ‎‏عرفت أنّه أثر عقلیّ لا شرعیّ.‏

قال فی «الکفایة» :‏ لا فرق فی المستصحب أو المترتِّب علیه بین وجود الأثر‏‎ ‎‏وعدمه؛ ضرورة أنّ أمر نفیه بید الشارع کثبوته‏‎[9]‎‏.‏

توضیح ذلک وتحقیقه :‏ هو أنّه لیس مفادُ (‏لاینقض...‏) إلی آخره، الحکمَ بالبناء‏‎ ‎‏العملی علی بقاء المتیقَّن، بل معناه الأمر بعدم نقض الیقین السابق، والتعبّد بأنّه علی‏‎ ‎‏یقین، ویعتبر فی استصحاب الموضوعات أنّ لایکون التعبّد بذلک لغواً، ولا یعتبر‏‎ ‎‏ترتّب الأثر العملی علیه، فقد یکون الشیء مسبوقاً بالوجوب، فباستصحابه یجب‏‎ ‎‏الامتثال، وقد یکون مسبوقاً بالعدم، فباستصحابه یکون المکلّف فی السعة، ولیس‏‎ ‎‏مفاد (‏لاینقض‏) جعل المماثل ؛ کی یرد علیه: أنّ العدم غیر مجعول.‏

والحاصل :‏ أنّه کما أنّ للشارع رفع الأحکام بمثل (‏رُفع ... ما استُکرهوا‎ ‎علیه)‎[10]‎‏ ونحوه، کذلک له الحکم تعبّداً ببقاء عدم الوجوب، خصوصاً علی القول‏‎ ‎‏بوجوب الاحتیاط فی الشبهات، کما ذهب إلیه الأخباریّة‏‎[11]‎‏.‏

وفائدة هذه الاستصحاب :‏ أنّ المکلّف فی سعة من وجوب الامتثال، وهکذا‏

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 197
‏الکلام فی الموضوعات، فکما یصحّ استصحاب العالمیّة لزید، وبه ینقّح موضوع دلیل‏‎ ‎‏وجوب إکرام العلماء، ویکون ذلک توسعة لموضوعه، کذلک یصحّ استصحاب عدم‏‎ ‎‏عالمیّته، فیتضیّق به موضوع وجوب إکرام العالم، وفائدته أنّ المکلّف فی سعة من‏‎ ‎‏وجوب إکرامه.‏

وتوهّم :‏ أنّه مثبِت؛ حیث أنّ المجعول هو وجوب إکرام العالم، وأمّا عدم وجوب‏‎ ‎‏إکرام غیر العالم فهو حکم عقلیّ لا شرعیّ، فلا یترتّب علی استصحاب عدم العالمیّة.‏

فیه :‏ أنّه لیس المقصود إثبات عدم وجوب الإکرام، بل المقصود أنّه یکفی عدم‏‎ ‎‏ثبوته لأجل انتفاء موضوعه، ومرجعه أیضاً إلی تنقیح موضوع الدلیل الاجتهادی، کما‏‎ ‎‏فی استصحاب العالمیة.‏

أقول :‏ لکن استصحاب عدم المانع لیس من هذا القبیل؛ حیث أنّه لایثبت‏‎ ‎‏باستصحاب عدم کون المصلّی لابساً له وقوع الصلاة وصحتها، کما عرفت توضیحه بما‏‎ ‎‏لامزید علیه.‏

‏نعم لو کان هناک أثر شرعیّ مترتّب علی نفس عدم وجود المانع فلا إشکال فی‏‎ ‎‏ترتّبه باستصحاب عدمه.‏

فتلخّص :‏ أنّه لا مجال لاستصحاب عدم الشرط والمانع، بخلاف استصحاب‏‎ ‎‏وجودهما.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 198

  • )) کفایة الاُصول : 474 .
  • )) تهذیب الأحکام 1 : 8 و 421 / 11 و 1335 ، وسائل الشیعة 1 : 174، کتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحدیث 1، و 2 : 1053 و 1065 ، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37 و 43، الحدیث 1 .
  • )) الرسائل الفشارکیة : 394 ، منیة الطالب 2 : 293 سطر 7 ، مستمسک العروة الوثقی 5 : 344 ـ 346 .
  • )) تهذیب الأحکام 1 : 49 / 144 ، الاستبصار 1 : 55 / 15 ، وسائل الشیعة 1 : 256، کتاب الطهارة ، أبواب الوضوء، الباب 1، الحدیث 1 و 2 و 6 .
  • )) المائدة (5) : 6 .
  • )) الکافی 3 : 397 / 1، تهذیب الأحکام 2 : 209 / 818 ، وسائل الشیعة 3 : 250، کتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّی، الباب 2، الحدیث 1، وهو منقول بالمعنی ولم نعثر علیه بالنصّ فی مصادرنا .
  • )) الکافی 3 : 57 / 3، تهذیب الأحکام 1 : 264 / 770، وسائل الشیعة 2 : 1008، کتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحدیث 2 .
  • )) المائدة (5) : 6 .
  • )) کفایة الاُصول : 475 .
  • )) التوحید : 353 / 24، الخصال: 417 / 9، وسائل الشیعة 11: 295، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحدیث 1 .
  • )) وسائل الشیعة 18 : 119، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، الباب 12، الحدیث 28، الدرر النجفیّة: 115 سطر5، الفوائد المدنیّة: 106 سطر 12 .