الاستصحاب

الأمر الثالث : فی جعل الجزئیّة والشرطیّة والسببیّة استقلالاً

الأمر الثالث : فی جعل الجزئیّة والشرطیّة والسببیّة استقلالاً

‏ ‏

‏ذهب بعض الاُصولیّین إلی انّه لایمکن جعل الجزئیّة والشرطیّة والمانعیّة لما هو‏‎ ‎‏جزء وشرط ومانع استقلالاً؛ بدون التصرّف فی المأمور به بنسخه، ثمّ الأمر بالمجموع‏‎ ‎‏من هذا الجزء وسائر الأجزاء متقیّداً بهذا الشرط أو عدم المانع، وأنّه لو اُرید إضافة‏‎ ‎‏جزء أو شرط أو مانع للمأمور به، أو إسقاط جزء أو شرط أو مانع عن الجزئیّة‏‎ ‎‏والشرطیّة والمانعیّة، لابدّ وأن ینسخ وجوب المأمور به أوّلاً ثمّ الأمر بالواجد لها أو‏‎ ‎‏الفاقد لها‏‎[1]‎‏.‏

‏وأظنّ أنّهم قاسوا الانتزاعیّات الشرعیّة والاعتباریّة بالانتزاعیّات التکوینیّة،‏‎ ‎‏وأنّه کما لایمکن جعل الفوقیّة والتحتیّة ونحوهما من الانتزاعیّات التکوینیّة بدون‏‎ ‎‏التصرّف والتغییر فی منشأ انتزاعها؛ أی الجسم الذی هو أقرب إلی المرکز بالنسبة إلی‏‎ ‎‏ماهو الأبعد منه، فلابدّ أن ینقل کلّ منهما إلی مکان الآخر، وإلاّ لم یمکن جعلهما،‏‎ ‎‏فکذلک الانتزاعیّات الشرعیّة والاعتباریّة لایمکن جعلها واعتبارها بدون التصرّف‏‎ ‎‏فی المأمور به بنسخه أوّلاً، ثمّ الأمر بالمجموع الواجد للجزء والشرط أو الفاقد لهما؛‏‎ ‎‏لینتزع منه الشرطیّة والجزئیّة، وإن لم یصرِّحوا بهذه المقایسة.‏

‏ولکن القیاس فی غیر محلّه کما عرفت؛ لعدم المانع من ذلک؛ لعدم قیام دلیل ولا‏‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 77
‏برهان علی امتناعه، ولا یحتاج فی الاعتباریّات إلی أزید من الاعتبار؛ فلا مانع من‏‎ ‎‏جعل الاستقبال إلی القبلة شرطاً للصلاة بعد ما لم یکن شرطاً؛ بدون التصرّف فی‏‎ ‎‏المأمور به بنسخه لمصلحة فی ذلک، وکذلک إسقاطه شرطیّة استقبال بیت المقدس؛‏‎ ‎‏لاستدعاء النبی ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ وطلبه ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ منه تعالی، أو لأجل مصلحة سیاسیّة، ولا یعدّ‏‎ ‎‏ذلک من النسخ بالضرورة.‏

‏وکذلک الکلام فی إسقاط الجزء.‏

نعم قد یستشکل فی ذلک‏ فی جعل الجزئیّة لشیء للمأمور به بعدما لم یکن جزءً‏‎ ‎‏له؛ حیث إنّ الجزئیّة إنّما تنتزع باعتبار تعلّق الأمر بمجموع یکون هذا بعضه، فإذا لم‏‎ ‎‏یلاحظ شیء فی متعلّق الأمر، واُرید جعل الجزئیّة له بعد ذلک، فلابدّ أوّلاً من نسخ‏‎ ‎‏الأمر الأوّل ، ثمّ الأمر بالواجد له لینتزع منه الجزئیّة، وإلاّ فلایمکن جعلها ابتداءً‏‎[2]‎‏.‏

لکنّه أیضاً مدفوع :‏ بأنّ الأمر متعلّق بعنوان الصلاة، وامتثاله إنّما یتحقّق‏‎ ‎‏بالإتیان بالأجزاء والشرائط المقرّرة لها، کالأمر ببناء المسجد، فإنّ امتثاله إنّما یحصل‏‎ ‎‏بتحصیل الأجزاء وترتیبها بنحو خاصّ، ولیس لکلّ واحد من الأجزاء أمر مستقلّ؛‏‎ ‎‏بانحلال الأمر المتعلّق بالکلّ إلی أوامر متعدّدة بعدد الأجزاء والشرائط، أو بانبساط‏‎ ‎‏الأمر بالکلّ علی جمیع الأجزاء، بل الأمر متعلّق بعنوان الصلاة لا الأجزاء، فلیس‏‎ ‎‏معنی «صلِّ» قم وارکع واسجد ـ مثلاً ـ غایة الأمر أنّ کیفیّة الامتثال وتحقّقه یتوقّف‏‎ ‎‏علی الإتیان بالأجزاء والشرائط، کما فی مثال الأمر ببناء المسجد، فمرجع إضافة جزء‏‎ ‎‏إلیها إلی تغیّر کیفیّة الامتثال بإتیان هذا الجزء أیضاً.‏

وبالجملة :‏ لاریب ولا إشکال فی إمکان جعل جزئیّة شیء أو شرطیّته أو‏‎ ‎‏مانعیّته للمأمور به استقلالاً بعدما لم تکن کذلک، وکذلک إسقاط شیء عن الجزئیّة أو‏‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 78
‏الشرطیّة أو المانعیّة، بدون نسخ الحکم الأوّل بل قوله ‏‏علیه السلام‏‏: (‏لاتعاد الصلاة إلاّ من‎ ‎خمس)‎[3]‎‏ معناه إسقاط جزئیّة ماعدا الخَمْس أو شرطیّته حال النسیان، ولیس معناه‏‎ ‎‏نسخ الحکم الأوّل، ثمّ الأمر بالفاقد لها.‏

‏هذا کلّه بالنسبة إلی جزئیّة شیء للمأمور به أو شرطیّته له.‏

‏وأمّا السببیّة والشرطیّة لما هو سبب للتکلیف أو شرطه، فذکر المیرزا‏‎ ‎‏النائینی ‏‏قدس سره‏‏ لامتناع مجعولیّتهما أصلاً ـ لا استقلالاً ولا تبعاً، ولا تکویناً ولاتشریعاً ـ‏‎ ‎‏وجهین :‏

الوجه الأوّل :‏ أنّ ماهو قابل للجعل هو ذات السبب والشرط ووجودهما‏‎ ‎‏العینی، وأمّا السببیة فهی من لوازم ذاته کزوجیّة الأربعة، فإنّ السببیّة عبارة عن‏‎ ‎‏الرَّشَح والإفاضة القائمة بذات السبب التی تقتضی المسبّب؛ وهذا الرشح من لوازم‏‎ ‎‏الذات التی لایمکن أن تنالها ید الجعل التکوینی، فضلاً عن التشریعی، بل هی کسائر‏‎ ‎‏لوازم الماهیّة التی تکوینها إنّما هو بتکوین الماهیّة، وإفاضة الوجود علی الذات‏‎ ‎‏والسببیّة إنّما تنتزع عن مقام الذات، ولیس لها ما بحذاء فی الخارج، ولا فی وعاء‏‎ ‎‏الاعتبار، فهی من خارج المحمول، فهی لاتقبل الإیجاد التکوینی‏‎[4]‎‏. انتهی.‏

‏وفیما ذکره ‏‏قدس سره‏‏ وجوه من الإشکال :‏

الأوّل :‏ أنّ الرَّشَح والإفاضة عبارة عن الإیجاد الحقیقی، فلا مناسبة بینهما وبین‏‎ ‎‏لوازم الماهیّة، فإنّ لازم الماهیّة أمر اعتباریّ لا حقیقة له مجعول بالجعل العرضی تبعاً‏‎ ‎‏للماهیّة، ومعنی عدم مجعولیّة الماهیّة ولازمها ذاتاً أنّها دون مرتبة الجعل ومقامه،‏‎ ‎‏فتنظیره ‏‏قدس سره‏‏ الإفاضة والرَّشَحَ للمسبّب من السبب بلزوم الزوجیّة للأربعة، لا وجه له،‏‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 79
‏وکذلک تنظیره ‏‏قدس سره‏‏ ذلک بوجوب الواجب وامتناع الممتنع؛ لما عرفت من أنّ عدم‏‎ ‎‏مجعولیّة الماهیّة ولوازمها إنّما هو لأجل أنّها دون مرتبة الجعلِ، وعدمَ مجعولیّة وجوب‏‎ ‎‏الواجب ـ وامتناع الممتنع إنّما هو لأنّهما فوق مرتبة الجعل، ولا مشابهة بینهما.‏

الثانی :‏ أنّ الجمعَ بین الرَّشَح والإفاضة للمسبَّب من السبب، وبین اقتضاء‏‎ ‎‏السبب للمسبَّب فی عبارته ‏‏قدس سره‏‏، غیرُ سدید، فإنّ الإیجاد الذی هو معنی الرَّشح غیر‏‎ ‎‏المقتضی.‏

الثالث :‏ أنّ سببیّة السبب وعلیّة العلّة لیست من خارج المحمول، کما ذکره ‏‏قدس سره‏‏،‏‎ ‎‏بل هی من المحمول بالضمیمة؛ لأنّ المراد من خارج المحمول هو المنتزع من حاقّ‏‎ ‎‏الشیء بدون اعتبار انضمام أمر وجودی حقیقیّ، ولا اعتباریّ ولا عدمیّ معه، کانتزاع‏‎ ‎‏الإنسانیّة من الإنسان والحجریّة من الحجر، والمحمول بالضمیمة هو ما ینتزع عن‏‎ ‎‏الشیء بلحاظ انضمام أمر معه، ولایلزم أن یکون هذا الأمر المنضمّ إلیه من الحقائق أو‏‎ ‎‏الأجسام ، بل یکفی فیه انضمام الأمر العدمی أو الاعتباری أیضاً، فانتزاع المقابلة من‏‎ ‎‏جسم إنّما هو باعتبار أنّ له وضعاً خاصّاً مع الجسم الآخر، لیس من مرتبة الذات‏‎ ‎‏لیکون من خارج المحمول، بل هی من المحمولات بالضمیمة، والسببیّة والعلّیّة من هذا‏‎ ‎‏القبیل، لا من قبیل انتزاع الإنسانیّة من الإنسان.‏

الرابع ـ وهو العمدة ـ :‏ قد عرفت أنّ قیاس الاُمور الانتزاعیّة الشرعیّة علی‏‎ ‎‏المنتزعات التکوینیّة فی غیر محلّه، فإنّ السبب من لوازم ذات المسبَّب فی التکوینیّات،‏‎ ‎‏ولایمکن التفکیک بینهما أصلاً، بخلاف السببیّة الشرعیّة کسببیّة الدلوک لوجوب صلاة‏‎ ‎‏الظهر، أو طلوع الفجر لوجوب صلاة الصبح؛ لإمکان انفکاکهما ؛ ضرورة أنّ هذا‏‎ ‎‏النحو من السببیّة اعتباریّة یمکن جعلها وسلبها، ولو کانت سببیّة الدلوک ذاتیّة‏‎ ‎‏للوجوب لزم أن تکون کذلک قبل الإسلام أیضاً، ولو کان للشرط الشرعی اقتضاء‏‎ ‎‏ذاتیّ لابدّ أن یکون کذلک أزلاً وأبداً، ویلزمه امتناع إسقاط شرطیّة الشرط، مثل‏‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 80
‏استقبال بیت المقدس، وهو کما تری.‏

فالحقّ :‏ أنّ السببیّة لما هو سبب للتکلیف ، وکذلک الشرطیّة لما هو شرط‏‎ ‎‏للتکلیف والمکلّف به، قابلة للجعل استقلالاً؛ لأنّه مجرّد اعتبار لأجل جهة عامّة‏‎ ‎‏ومصلحة مقتضیة لذلک، کما أنّ الأحکام التکلیفیّة أیضاً مجعولة لمکان مصلحة فی ذلک،‏‎ ‎‏کحلّیّة البیع وحرمة الربا لمصلحة سیاسیّة أو اقتصادیّة مقتضیة لذلک، وکما أنّه یمکن‏‎ ‎‏جعل السببیّة للسبب یمکن جعل المسبَّب أیضاً، لکن الأوفق بالاعتبار هو جعل‏‎ ‎‏السببیّة.‏

الوجه الثانی الذی ذکره المیرزا النائینی ‏قدس سره‏‏:‏‏ وهو أنّه لو أمکن جعل السببیّة‏‎ ‎‏للدلوک ـ مثلاً ـ لوجوب صلاة الظهر، لزم عدم کون الوجوب أمراً اختیاریّاً للشارع،‏‎ ‎‏بل من الوضعیّات والتکالیف التی تحصل قهراً بلا إنشاء من الشارع، فإنّ ترتّب‏‎ ‎‏المسبّب علی السبب قهریّ لا یعقل فیه التخلّف، ولایمکن أن یدخله الإرادة‏‎ ‎‏والاختیار، وهو کما تری لایمکن الالتزام به‏‎[5]‎‏. انتهی.‏

وفیه :‏ أنّه إن أراد أنّه یلزم من مجعولیّة السبب حصول إرادة غیر اختیاریّة أو‏‎ ‎‏بعث غیر اختیاریّ من الشارع.‏

ففیه :‏ أنّه لایستلزم ذلک، بل کما أنّه یُستفاد الوجوب من الأمر مع عدم وضعه‏‎ ‎‏له، بل بضمیمة اُصول خارجیّة، مثل کشفه عن إرادة المولی ذلک ومطلوبیّته عنده،‏‎ ‎‏وأنّ ذلک حجّة علی العبد یفتقر إلی الجواب عنه، فکذلک یُستفاد الوجوب من جعل‏‎ ‎‏الدلوک سبباً للوجوب، فإنّه بعد تحقّق السبب یُستفاد منه الوجوب، فهو أیضاً أحد‏‎ ‎‏طرق إنشاء الوجوب، ولا یلزم منه حصول الوجوب قهراً، وبلا اختیار؛ کیف وقد‏‎ ‎‏جُعلت سببیّته للوجوب بالإرادة والاختیار؟! ومعه کیف یصیر المسبّب قهریاً وبلا‏‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 81
‏اختیار؟! وهو واضح‏‎[6]‎‏.‏

إذا عرفت ذلک فنقول :‏ الاُمور المقرّرة شرعاً تُتصوَّر علی وجهین ونحوین :‏

أحدهما :‏ ماهو مجعول ابتداءً واستقلالاً؛ بدون لحاظ تعقُّبه لشیء تکوینیّ أو‏‎ ‎‏تشریعیّ، کجعل سببیّة الدلوک للوجوب، أو سببیّة الید للضمان، وسببیّة صیغ النکاح‏‎ ‎‏والطلاق؛ لتحقّق الزوجیّة وزوالها ونحو ذلک.‏

ثانیهما :‏ ماهو المجعول هو الواقع عقیب شیء تکویناً أو تشریعاً، کجعل الضمان‏‎ ‎‏عقیب تحقّق الید العادیة ، والزوجیّة عقیب وقوع صیغتها، وزوالها عند وقوع صیغة‏‎ ‎‏الطلاق، وجعل ثبوت حقّ التحجیر عقیب التحجیر، وکذلک سائر الحقوق المالیّة‏‎ ‎‏وغیرها، بل جمیع الجزائیّات، کجعل وجوب قطع ید السارق عقیب تحقّق السرقة،‏‎ ‎‏وحقّ القصاص والدِّیة بعد القتل الخارجی، وجمیع أقسام الحدود والدِّیات، فإنّها من‏‎ ‎‏الأحکام الوضعیّة لا التکلیفیّة، فإنّ جعل وجوب الثمانین جلدةً لشرب الخمر ـ مثلاً ـ‏‎ ‎‏من الأحکام الوضعیّة.‏

وبالجملة، یمکن أن یقال :‏ إنّ المجعول فی جمیع تلک الموارد هو السببیّة للسبب،‏‎ ‎‏کسببیّة الید للضمان، وسببیّة السرقة لقطع الید، وهکذا.‏

کما أنّه یمکن أن یقال فیها :‏ إنّ المجعول هو الضمان عقیب الید وثبوت الحقّ بعد‏‎ ‎‏التحجیر، لکنّ الأوفق ـ کما تقدّم ـ هو الأوّل، والمتّبع هو لسان الدلیل فی هذه الموارد،‏‎ ‎‏وأمّا مثل جزئیّة شیء أو شرطیته أو مانعیته للمأمور به، فکما أنّه یمکن انتزاعها من‏‎ ‎‏التکلیف والأمر المتعلّق بالکلّ ذی الأجزاء بلحاظها لا بشرط أو بشرط لا، کذلک‏‎ ‎‏یمکن جعلها استقلالاً کما عرفت.‏

لکن فصّل المحقّق العراقی ‏قدس سره‏‏ بین الجزئیّة وبین الشرطیّة والمانعیّة والقاطعیّة‏‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 82
‏وعنوان المقدّمیّة الجامعة لجمیع تلک العناوین، وقال: إنّ جزئیّة شیء للمأمور به فی‏‎ ‎‏مرتبة متأخّرة عن تعلّق الحکم بالطبیعة ، فهی منتزَعة عن الحکم التکلیفی، ویستحیل‏‎ ‎‏انتزاعها قبل تعلّق الأمر بالطبیعة، بخلاف شرطیّة شیء أو مانعیّته أو قاطعیّته التی هی‏‎ ‎‏مقدّمات الطبیعة؛ فإنّه إمّا أن یکون بینها وبین الطبیعة ارتباط تکوینیّ أو لا، فالأوّل‏‎ ‎‏کنصب السُّلّم للکون علی السطح، فهو خارج عن المقام، ومحلّ الکلام هو الثانی، فأمر‏‎ ‎‏دخْلها وارتباطها فی موضوع وجوبه فی رتبة سابقة علی وجوبه؛ للحاظ الآمر هذا‏‎ ‎‏الربط فی رتبة سابقة علی التکلیف فی مقام تصوُّره، نعم إضافة ذلک الربط إلی‏‎ ‎‏الوجوب متأخّرة عنه، کإضافة المکان إلیه، لا ربط له بنفس حقیقة الشرطیّة المنتزعة‏‎ ‎‏عن الربط المعروض للتکلیف، وحینئذٍ فکم فرق بین الشرطیّة المنتزعة عن مثل ذلک‏‎ ‎‏الربط، وبین الجزئیّة المنتزعة عن الوحدة الطارئة علی المتعدّدات من قبل وحدة‏‎ ‎‏الوجوب؛ إذ مثل تلک الارتباطات بحسب مرتبة ذاتها متأخّرة عن الوجوب، بخلاف‏‎ ‎‏منشأ انتزاع الشرطیّة ـ التی هی عبارة عن الربط ـ المأخوذة فی موضوع الوجوب،‏‎ ‎‏وهکذا المانع.‏

وتوهّم :‏ أنّه لایمکن انتزاع الشرطیّة وأمثالها إلاّ بعد تعلّق الحکم بالموضوع،‏‎ ‎‏کانتزاع وصف الموضوعیّة المتأخّرة عنه وإن کان بنفس ذاتها فی رتبة سابقة.‏

مدفوع :‏ بأنّ هذه الدعوی لایمکن ادّعاؤها؛ ألا تری أنّ المضاف إلیه قید‏‎ ‎‏للمضاف، کان فی العالم حکم أم لا، فهو شاهد علی أنّ منشأ انتزاع القیدیّة نفس‏‎ ‎‏الإضافة فی رتبة سابقة علی التکلیف‏‎[7]‎‏. انتهی.‏

أقول :‏ یرد علیه : أنّ التفکیک بین الجزئیّة والشرطیّة ونحوهما ممّا لا وجه له؛‏‎ ‎‏لأنّه إن کان لحاظ الربط وتصوّره فی مرتبة سابقة علی الحکم، کافیاً فی انتزاع هذه‏‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 83
‏العناوین بدون الاحتیاج إلی تعلّق الحکم بالموضوع، فلیکن الأمر فی الجزئیّة أیضاً‏‎ ‎‏کذلک، وإن لم یکن مجرّد اللحاظ والتصوّر کافیاً فیه ففی الشرطیّة ونحوها أیضاً کذلک،‏‎ ‎‏فلا وجه للتفصیل بینهما‏‎[8]‎‏.‏

والتحقیق :‏ أنّ مجرّد تصوّر الربط ولحاظه لیس کافیاً فی الانتزاع فی الجمیع؛‏‎ ‎‏لأنّ الوضع عبارة عن الجعل التصدیقی، ولایکفی مجرّد تصوّر الربط ، فإنّه ربط‏‎ ‎‏تصوّری لا تصدیقی، والتصدیقی منه لایتحقّق إلاّ بعد تعلّق الحکم بموضوعه، وتقدّم‏‎ ‎‏أنّ المجعول فی الوضعیّات علی نحوین متقدّمین، فلابدّ من ملاحظة الأدلّة الدالّة علی‏‎ ‎‏الوضع، فإن کان لسانها جعل السببیّة للأسباب، کجعل الید سبباً للضمان، فلا مجال‏‎ ‎‏للاستصحاب فی ذلک، فإنّ السببیّة وإن کانت مجعولة حینئذٍ إلاّ أنّ ترتّب المسبَّب علی‏‎ ‎‏السبب عقلیّ، وکذلک لو قلنا : إنّ المجعول هو سببیّة الغلیان للحرمة أو النجاسة فی‏‎ ‎‏العصیر العنبی، وإن کان لسانها جعل المسبّبات عقیب أمر تکوینیّ، کجعل الضمان‏‎ ‎‏عقیب الید، أو جعل النجاسة والحرمة عقیب الغلیان، فلجریان الاستصحاب فیه مجال‏‎ ‎‏بعد فرض تحقّق هذه الاُمور التکوینیّة.‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 84

  • )) اُنظر فوائد الاُصول 4 : 393 .
  • )) اُنظر نهایة الأفکار (القسم الأوّل) 4 : 90 .
  • )) الهدایة، ضمن الجوامع الفقهیة : 53 سطر 20، مستدرک الوسائل 4 : 429، کتاب الصلاة، أبواب الرکوع، الباب 9، الحدیث 1.
  • )) فوائد الاُصول 4 : 394 ـ 395 .
  • )) فوائد الاُصول 4 : 394 .
  • )) مضافاً إلی أنّه یلزم علی ما ذکره قدس سره أن یکون جمیع الأفعال التولیدیّة قهریّة وبلا اختیار. [المقرّر حفظه الله ].
  • )) اُنظر نهایة الأفکار (القسم الأول) 4 : 90 ـ 93 .
  • )) أقول والسرّ فی الفرق بینهما ـ کما أشار هو قدس سره إلیه ـ : أنّ انتزاع الجزئیّة متوقّف علی طریان الوحدة علی الأجزاء المتعدّدة، وإنّما تطرأ بسبب وحدة الحکم، فما لم یتعلّق الحکم بالموضوع لم یمکن انتزاع الجزئیّة؛ لعدم وحدة المتعدّدات إلاّ به، ولایکفی فی طروّها مجرّد تصوّرها شیئاً واحداً، بخلاف الشرطیّة ونحوها؛ حیث إنّ انتزاعها لایتوقّف علی طروّ الوحدة؛ حتّی یتوقّف علی تعلّق الحکم، بل یکفی فیه تصوّر الربط ولحاظها واحدة، ویکفی ذلک فی عروض الوحدة الاعتباریّة. [المقرّر حفظه الله ].