الاحتمالات التی فی الباب
فاعلم أنّ فی الاستصحاب فی مقام التصوّر والثبوت احتمالاتٍ ینبغی التنبیه علیها:
الأول : أنّه من الأمارات العقلائیّة إلی الواقع.
الثانی : أنّه أمارة شرعیّة إلیه.
الثالث : أنّه أصل شرعیّ مجعول لحفظ الواقع، لا أنّه أمارة إلیه.
الرابع : أنّه أصل عملیّ عقلائیّ، نظیر أصالة الصحّة فی فعل الغیر.
الخامس : أنّه من الأحکام العقلیّة الغیر المستقلّة؛ لأنّ إحدی مقدّماته حکم شرعیّ مع دعوی الملازمة بین الکون السابق واللاحق.
فعلی الاحتمال الأوّل والثالث والخامس إطلاق الحجّة علیه صحیح، فهو حینئذٍ
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 7
من المسائل الاُصولیّة، لکن لایصحّ تعریفه بإبقاء ما کان ؛ سواء اُرید منه حکم الشارع بالإبقاء، کما علیه الشیخ الأعظم قدس سره، أم البناء العملی علیه، کما یظهر من شیخنا الحائری قدس سره.
أمّا صحّة إطلاق الحجّة علیه فلأنّ الحجّة : عبارة عن المنجِّز للواقع، وما یصحّح العقوبة علی مخالفة الواقع الذی أدّی إلیه ، والاستصحاب بناء علی الوجوه الثلاثة کذلک.
وأمّا أنّه من المسائل الاُصولیّة فلأنّ المناط فیها هو البحث عمّا هو کاشف عن الواقع، والبحث فی الاستصحاب ـ بناء علی هذه الوجوه ـ کذلک.
وأمّا عدم صحّة تعریفه حینئذٍ بإبقاء ما کان، فلأنّ الأمارة بناء علی هذه الوجوه هی نفس الاستصحاب، وهو غیر إیجاب الشارعِ العملَ به، أو عمل المکلّف به، کما أنّ نفس خبر الواحد حجّة، وهو غیر إیجاب الشارع العمل به، وغیر عمل المکلّف به، فإنّ إیجاب الشارع العمل به، أو نفس عمل المکلّف، لیس حجّة وأمارة إلی الواقع، فلایصحّ تعریف الاستصحاب الذی هو حجّة وأمارة: بأنّه إیجاب الشارع للعمل به، أو البناء العملی من المکلّف علی البقاء.
فالحقّ فی تعریفه بناء علی هذه الوجوه أن یقال : إنّ الأمارة إمّا هو الکون السابق؛ حیث إنّه ملازم للبقاء نوعاً، وإنّ ما ثبت یدوم، وإمّا الیقین السابق.
فعلی الأوّل : لابدّ أن یُعرّف الاستصحاب : بأنّه الکون السابق الملحوق بالشکّ فی البقاء، الکاشف عن الکون فی الزمان اللاّحق؛ أی زمان الشکّ.
وعلی الثانی : بأنّه الیقین السابق الکاشف عن الواقع فی زمان الشکّ.
وأمّا بناء علی أنّه مثل إیجاب الاحتیاط لحفظ الواقع لابدّ أن یُعرف: بأنّه الیقین
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 8
السابق الغیر الکاشف عن الواقع.
وحینئذٍ فما جعله الشیخ الأعظم قدس سره أسدّ التعاریف ـ بناء علی ما اختاره من أنّ الاستصحاب أمارة ـ هو أزیف التعاریف، وما جعله أزیف التعاریف هو أسدّها؛ سواء اُرید من الإبقاء الحکمُ الشرعی بالبقاء، کما صنعه الشیخ قدس سره، أم اُرید منه الإبقاء العملی، کما صنعه شیخنا الحائری قدس سره.
هذا کلّه بناء علی أنّه أمارة عقلائیّة، وأمّا بناء علی أنّه أمارة شرعیّة فکذلک، لکن باعتبار أنّ الملازمةَ بین الکون السابق واللاحق شرعیّةٌ بتتمیم الکشف.
وأمّا بناء علی أنّه لیس أمارة مطلقاً، ولا مثل إیجاب الاحتیاط، بل مجرّد وظیفة عملیّة شرعیّة أو عقلائیّة فی صورة الشکّ مع الیقین السابق، لا للتحفّظ عن الواقع، فتعریفُهُ: بـ «إبقاء ما کان» صحیحٌ، لکن لایصحّ إطلاق الحجّة علیه؛ لأنّ الحجّة: عبارة عمّا هو أمارة علی الواقع ومنجِّز له، أو المجعول للتحفّظ علی الواقع، کاحتمال التکلیف فی مورد وجوب الاحتیاط، فإنّ الاحتمال المذکور فیه منجِّز للواقع المحتمل، ومعنی الحجّة : هو أنّ للشارع أن یحتجّ به علی العبد علی مخالفته عند قیام الحجّة علیه، والاُصول العملیّة لیست کذلک، بل مجرّد وظیفة عملیّة وترتیب الآثار.
مضافاً إلی أنّه بناء علی ذلک فهو من المسائل الفرعیّة حتّی فی مورد استصحاب الأحکام، لا من المسائل الاُصولیّة.
فتحصّل من جمیع ما ذکرنا : أنّه لایمکن الجمع بین جمیع الاحتمالات فی تعریف الاستصحاب، ولیس فی الأخبار وغیرها من الأدلّة لفظ «الاستصحاب» حتی یبحث عن معناه اللغوی، ویستظهر من سائر مشتقّاته أنّه فعل المکلّف، کما فی «الدُّرر»
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 9
وغیره.
ثمّ اعلم: إنّ القائل بأماریّة الاستصحاب یمکن أن یتمسّک لذلک بالأخبار ، کما یمکنه التشبّث له ببناء العقلاء أو حکم العقل.
والقائل بأنّه أصل عملیّ یمکنه الاستناد لإثباته إلی بناء العقلاء، کما یمکنه الاستناد له إلی الأخبار؛ سواء کان لحفظ الواقع، مثل وجوب الاحتیاط، أم لا مثل البراءة الشرعیّة.
فما یظهر من خلال کلام الشیخ الأعظم قدس سره من أنّه إن کان أصلاً لابدّ أن یستند فیه إلی الأخبار، وإن کان أمارة فمستنده بناء العقلاء أو العقل لیس إلاّ، لاوجه له.
کتابتنقیح الاصول (ج.۴): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 10