وظیفة المجتهد بالنسبة إلی نفسه
أمّا البحث من حیث وظیفة نفسه ، فمحصّل الکلام فیه : أنّ الاجتهاد الأوّل لو کان مستنداً إلی القطع فلا إشکال فی أنّ تبدّله یوجب بحسب القاعدة عدم الإجزاء ، والقول بأنّ الحکم الواقعی لم یکن فعلیاً فی حقّ من قطع بخلافه باطل ؛ بعد ما أسّسناه فی باب جعل الأحکام وأ نّها ممّا تشترک فیها الجمیع . غایة الأمر : عدم حجّیتها وتنجّزها فی حقّ من لم یکن له حجّة علیها . ولا فرق فی عدم الإجزاء فی هذه الصورة بین کون المستند للرأی الثانی القطع أو غیره من الاُمور الأربعة .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 473
ومثل هذه الصورة ما إذا کان المستند للرأی الأوّل هو الأمارة العقلائیة غیر المردوعة شرعاً ، کما هو الحال فی جمیع الأمارات عندنا ، حیث نقّحنا فی محلّه عدم تحقّق أمارة تأسیسیة فی الشریعة .
والسرّ فی عدم الإجزاء فی هذه الصورة : أنّ عمل العقلاء بالأمارات لیس من باب السببیة ولیس فیه شائبتها ، بل هو لمحض الطریقیة والوصول إلی الواقع ، فإذا قام حجّة أقوی وانکشف حقیقة أو تعبّداً مخالفة الأمارة الأوّلیة للواقع ، فمقتضی القاعدة هو عدم الإجزاء والمفروض أ نّه لیس فی البین جعل شرعی حتّی یقال بظهوره فی الإجزاء وتقبّل مؤدّی الأمارة مقام الواقع .
والقول بأنّ المستند للرأی الثانی لو کان هو الأمارة أیضاً فلا دلیل علی عدم الإجزاء لکونه اجتهاداً فی قبال اجتهاد ولا مزیّة لأحدهما کلام إقناعی ، فإنّ تبدّل الرأی إنّما هو من جهة کون الأمارة الثانیة أقوی ، ککونه خاصّاً فی قبال العامّ مثلاً فبسببه ینکشف خطأ الاجتهاد الأوّل .
نعم ، هو کان حجّة فی ظرفه ولکن باب الاحتجاج وعدم استحقاق العقوبة غیر باب إحراز الواقع .
وهکذا الکلام فی الأمارة التأسیسیة الشرعیة لو فرض تحقّقها ، إذ جعل وجوب العمل بها إنّما هو لکشفها عن الواقع وطریقیتها له لا لکونها مستـتبعة لجعل حکم فی قبال الواقع أو تقبّل مؤدّاها مقام الواقع .
وبالجملة : فجعل وجوب العمل إنّما هو من باب طریقیتها وإیصالها إلی الواقع فإذا انکشف الخلاف ، کان مقتضی القاعدة عدم الإجزاء . والقول بظهور إیجاب العمل بها فی مقام الإثبات فی تقبّل مؤدّاها مقام الواقع فیما إذا کانت مربوطة
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 474
بخصوصیات الواجبات المعلومة کأجزاء الصلاة وشرائطها کلام خطابی ؛ بعد ما ذکرنا من أنّ المستفاد من دلیل حجّیتها لیس إلاّ وجوب العمل بها لمحض الطریقیة والوصول إلی الواقع .
ومثل ذلک ، الکلام فی الأصل العقلی وأمّا الأصل الشرعی ، کما إذا صلّی فی مستصحب الطهارة أو فی مشکوک الطهارة المحکومة بالطهارة بمقتضی قاعدة الطهارة أو غیرها ، فالواجب هو النظر فی مفاد دلیل کلّ واحد واحد من الاُصول وتحقیق أ نّه هل یکون ظاهراً فی الإجزاء أم لا ؟
فنقول : فمنها قاعدة الطهارة والحلّیة وقد اختلف فی مفاد قوله : «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم أ نّه قذر» .
والتحقیق : أنّ الطهارة لا تقبل الجعل لا واقعاً ولا ظاهراً وإنّما الأشیاء طاهرة بحقیقة ذاتها ، والنجاسة أمر طارٍ والطهارة موضوع فی الشرع لأحکام ، فإذا قال الشارع : «کلّ شیء طاهر حتّی تعلم أ نّه قذر» فلیس معناه جعل الطهارة بحسب الظاهر ، بل معناه وجوب ترتیب آثار الطهارة علی المشکوک مادام الشکّ من الصلاة فیه والتطهیر به ونحو ذلک ؛ ولهذا الدلیل حکومة علی ما دلّ علی اشتراط الصلاة بالطهارة حکومة واقعیة لا ظاهریة ، إذ طولیة الطهارة الظاهریة إنّما هی بالنسبة إلی الطهارة الواقعیة لا بالنسبة إلی الدلیل الثالث المستفاد منه شرطیة الطهارة للصلاة .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 475
فما فی کلام بعض الأعلام من أنّ الحکم الظاهری متأخّر عن الواقعی بمرتبتین فلا یمس هو کرامته فلا محالة تکون الحکومة ظاهریة فقط ونتیجته عدم الإجزاء ، فاسد جدّاً . إذ الحکم الظاهری متأخّر عن الحکم الواقعی الذی أخذ الشکّ فیه موضوعاً له لا عن کلّ حکم واقعی فقوله : «کلّ شیء طاهر» فی طول الطهارة والنجاسة الواقعیة لا فی طول الدلیل الثالث الواقعی ؛ أعنی قوله : «یشترط فی الصلاة الطهارة» فعلی هذا لا مانع من حکومته علی هذا الدلیل الثالث بالحکومة الواقعیة ، بمعنی أنّ ضمّه إلی دلیل الاشتراط موجب لاستفادة تحقّق مصداق الصلاة حقیقة مع الشکّ والبناء علی الطهارة ، ومع تحقّق مصداقها یسقط الأمر قطعاً ، وانکشاف الخلاف بعد ذلک إنّما هو بالنسبة إلی الواقع الذی هو فی طوله لا بالنسبة إلی دلیل الصلاة .
بل یمکن أن یقال : بأ نّه لا معنی لانکشاف الخلاف ، إذ قوله : «طاهر» لو کان إخباراً عن کونه طاهراً فی الواقع احتمل الموافقة والمخالفة للواقع وتصوّر له انکشاف الخلاف . وقد عرفت : أنّ معناه لیس ذلک لعدم کونه أمارة ولا جعل طهارة ظاهراً ، بل معناه وجوب ترتیب أثر الطهارة ، وهذا حکم إنشائی واقعی فی موضوع الشکّ لا یفرض له انکشاف الخلاف فإنّ کون الشیء نجساً فی الواقع لیس معارضاً لوجوب ترتیب أثر الطهارة .
وبالجملة : فانکشاف الخلاف إنّما یتصوّر فی الأخبارات فقط کالأمارات المجعولة طرقاً إلی الواقعیات والحکومة بالنسبة إلی دلیل الصلاة حکومة واقعیة ، ومقتضی ذلک هو الإجزاء ، والنقض بأنّ مقتضی ذلک طهارة الملاقی
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 476
وتطهیره للمتنجس المغسول به غیر وارد .
أمّا الأوّل : فلأنّ المجعول شرعاً إنّما هو نجاسة الملاقی بالملاقاة لا طهارته بها فإنّها ثابتة فی حدّ ذاته وقد فصّلنا ذلک فی محلّه .
وأمّا الثانی : فلأنّ التطهیر به یجوز فی زمان الشکّ ویترتّب علیه آثار الطهارة حینئذٍ ، وأمّا بعد انکشاف کونه نجساً فی الواقع فلا مجال لترتیب آثار الطهارة علیه لحصول الغایة والعلم بالنجاسة ، فافهم .
وأمّا الاستصحاب فالمحتملات فیه أربعة :
الأوّل : أن یکون أمارة عقلائیة کما توهّم وعلیه القدماء .
الثانی : أن یکون أمارة شرعیة تأسیسیة .
الثالث : أن یکون أصلاً محرزاً للواقع بمعنی کونه مجعولاً لتحفّظ الواقع مهما أمکن نظیر أصالة الاحتیاط فی باب الفروج والدماء .
الرابع : أن یکون أصلاً عملیاً صرفاً بمعنی کونه وظیفة عملیة فی ظرف الشکّ من غیر نظر إلی تحفّظ الواقع نظیر أصل الطهارة .
ومقتضی القاعدة علی الفروض الثلاثة الاُوَل عدم الإجزاء ، وعلی الفرض الرابع الإجزاء ، إذ علی الفروض الثلاثة یکون المنظور فیه إصابة الواقع وتطرّقه لیصل إلیه أو تحفّظه ، فإذا فرض عدم الواقع وعدم الوصول إلیه وعدم انحفاظه کان مقتضی القاعدة عدم الإجزاء ، وعلی الرابع یکون مفاده وجوب ترتیب الآثار وظاهره الإجزاء والتعمیم فی دلیل الصلاة ونحوها کما مرّ فی القاعدة .
والحقّ هو الفرض الرابع ، فإنّ الفرض الأوّل مبنیّ علی کون صرف ثبوت
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 477
الشیء فی زمان مع ثبوت اقتضاء البقاء فیه أمارة عقلائیة علی بقائه ولو فی زمان الشکّ وهو ممنوع ، إذ لا معنی لأماریة الثبوت السابق ولو مع الاقتضاء وعمل العقلاء لیس إلاّ علی طبق الوثوق والاطمئنان ففی صورة الشکّ أو الظنّ بالخلاف، لیس بناءهم علی العمل علی طبق الحالة السابقة إلاّ من باب الاحتیاط.
والفرض الثانی أمر کنّا نقوّیه سابقاً بتقریب أنّ الشرط فی کون شیء أمارة تأسیسیة هو أن یکون له بالذات طریقیة ناقصة وأن لا یکون بناء العقلاء علی العمل بها وأن یکون الدلیل الشرعی المعتبر له ظاهراً فی جعله حجّة بما هو طریق والقیود الثلاثة متحقّقة فی الاستصحاب ، فإنّ الیقین السابق له طریقیة تامّة بالنسبة إلی الزمان السابق وطریقیة ناقصة بالنسبة إلی زمان الشکّ ولیست طریقیته له بحیث یعتمد علیها العقلاء مع قطع النظر عن الشرع حتّی لا یبقی مجال للتأسیس ، وظاهر قوله : «لا ینقض الیقین بالشکّ» إطالة عمر الیقین تعبّداً وإلغاء احتمال خلافه فی ظرف الشکّ ومقتضاه تتمیم کشفه تعبّداً .
أقول : المقدّمة الاُولی والثالثة ممنوعتان .
أمّا الاُولی : فلأنّ الیقین لا یکشف إلاّ عن متعلّقه ، ولا یعقل کشفه عن غیر متعلّقه ، فإذا تعلّق بحیاة زید یوم الجمعة فلا یعقل کشفه عن حیاته یوم السبت ، وأماریة الاستصحاب عند القدماء لم تکن مبتنیة علی أماریة الیقین السابق لظرف الشکِّ، بل علی أماریة نفس الکون السابق مع الاقتضاء ولذلک کانوا یعبّرون بأنّ «ما ثبت یدوم» . وقد عرفت منّا إنکار أماریة الکون السابق أیضاً .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 478
وأمّا المقدّمة الثالثة : فلأنّه بعد ما لم یعقل أماریة الیقین السابق لظرف الشکّ لم یعقل اعتباره بما هو أمارة وطریق فلا محالة یکون المراد وجوب ترتیب الآثار عملاً .
والفرض الثالث أیضاً احتمال بلا دلیل ، إذ لا یستفاد من قوله : «لا تنقض» کون النظر إلی الواقع وإلی تحفّظه ، وإنّما المستفاد جعل الوظیفة عملاً فی ظرف الشکّ فحکمه حکم قاعدة الطهارة .
فإن قلت : فلِمَ یکون حاکماً علیها ؟
قلت : لأنّ الحکومة إنّما هی بلحاظ لسان الدلیل ولسان دلیل الاستصحاب إبقاء الیقین وإلغاء الشکّ فیرتفع موضوع القاعدة وهو الشکّ وإن کان معنی إبقاء الیقین لیس إلاّ ترتیب الآثار عملاً ، فتدبّر جیّداً .
وظهر بما ذکر : أنّ قولهم إنّ الاستصحاب من الاُصول المحرزة دون مثل القاعدة ، تحکّم صرف ولا دلیل علیه .
وبالجملة : فمقتضی القاعدة فی الاستصحاب أیضاً هو الإجزاء .
وأمّا حدیث الرفع ، فالرفع فیه فی غیر ما لا یعلمون رفع واقعی ، وأمّا فیما لا یعلمون ، فالرفع الواقعی فیه یوجب التصویب واختصاص الواقعیات بالعالمین وهو مستحیل عند الأکثر ، وعندنا وإن لم یکن مستحیلاً ولکنّه باطل بالإجماع والضرورة ؛ حیث إنّ من ضروریات مذهب الإمامیة هو التخطئة ، فالرفع فیه رفع ظاهری لا محالة .
فان قلت : إطلاقات الأحکام الواقعیة فعلیة مطلقاً مع قطع النظر عن الرفع ، وأمّا بملاحظته فیرتفع الفعلیة بالنسبة إلی الجهّال ، فالرفع تعلّق بما هو حقیقة
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 479
الحکم وهو الفعلیة فهو رفع حقیقی ، ولا إجماع علی بطلان مثل ذلک وإنّما المجمع علی بطلانه هو اختصاص الإنشاء أوّلاً بخصوص العالمین أو اختصاص فعلیتها بخصوصهم حتّی مع قطع النظر عن الترخیص والرفع .
وبالجملة : فالإنشاء یعمّ العالم والجاهل ، والفعلیة أیضاً تعمّهما مع قطع النظر عن الترخیص الشرعی وهذا کافٍ فی الاشتراک .
قلت : المجمع علیه بین العدلیة الإمامیة فی قبال غیرهم التخطئة وهی إنّما تتحقّق بفعلیة الأحکام مطلقاً حتّی بملاحظة الرفع . والقول بأنّ الإجماع هنا إجماع کلامی صرف لا إجماع فقهی فی غیر محلّه .
والحاصل : أنّ الرفع فیما لا یعلمون ظاهری محض ، ولکنّه مع ذلک ظاهر فی الإجزاء ، فإنّ رفع الجزئیة ظاهر فی انطباق عنوان الصلاة علی ما بقی فیجب حفظ هذا الظهور ما لم یقم محذور عقلی علی خلافه ولا یلزم فی المقام محذور عقلی ، إذ من المحتمل کون الصلاة بلا سورة فی ظرف الشکّ واجدة لمقدار من المصلحة یتدارک بها مصلحة الصلاة مع السورة أو کون إدراک هذه المرتبة من المصلحة وإن کانت ناقصة مانعاً عن إدراک المصلحة التامّة بعد ذلک ، کما قیل بهذا التصویر فی مثل «لا تعاد» وفی الإتیان بالإتمام بدل القصر أو الجهر بدل الإخفات جهلاً أو بالعکس . وصرف الاحتمال کافٍ بعد ظهور الدلیل فی انطباق عنوان الصلاة الظاهر فی الإجزاء فتدبّر جیّداً .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 480
هذا کلّه بالنسبة إلی وظیفة نفس المجتهد المتبدّل رأیه .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 481