التحقیق فی المقام
ولکنّ التحقیق : أنّ هذا لا یفید فی جریان الاستصحاب فی المقام ، فإنّ هذا البیان ونظائره إنّما یفید لجریان الاستصحاب فی الأحکام والموضوعات المحرزة بالأمارات والاُصول ، إذا شکّ فی بقاء هذه الأحکام والموضوعات علی فرض ثبوتها ، کما إذا قام الخبر علی وجوب الجمعة مثلاً ، ثمّ شکّ فی بقائه علی فرض ثبوته واقعاً لاحتمال النسخ مثلاً ، أو قامت بیّنة علی طهارة شیء ، ثمّ شکّ فی بقاء الطهارة المحرزة بالبیّنة . وما نحن فیه لیس کذلک ، إذ الشکّ فی بقاء حجّیة الحجّة لا فی بقاء الواقع المحرز بها علی فرض ثبوته .
فقول العلاّمة فی زمان حیاته کان حجّة علی الواقع ولیس شکّنا فعلاً فی بقاء الواقع المحرز به ، بل نقطع ببقائه علی فرض ثبوته وإنّما شککنا فی بقاء حجّیة ما کان حجّة ، فوزان المقام وزان ما إذا أحرز وجوب الجمعة بخبر زرارة ، ثمّ شکّ فی بقاء الحجّیة لخبر زرارة لا فی بقاء وجوب الجمعة علی فرض ثبوته واقعاً ، ففی مثل المقام لا مجال للاستصحاب إلاّ بأحد وجوه ثلاثة :
الأوّل : أن یقال بالتصویب وجعل حکم واقعی علی طبق ما یؤدّی إلیه ظنّ المجتهد ، فبالشکّ فی حجّیة قوله یشکّ فی بقاء الواقع فیستصحب .
الثانی : أن یقال بجعل حکم ظاهری تکلیفی علی طبق المؤدّی فیستصحب الحکم الظاهری .
الثالث : أن یکون لنا فی باب التقلید حکم تکلیفی مجعول ، کوجوب الرجوع أو جواز التقلید أو نحو ذلک بأن یکون فی هذا الباب تأسیس من الشارع ونحن
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 467
لا نقول بواحد من هذه الوجوه الثلاثة ، فجریان الاستصحاب فی المقام وإحراز جواز تقلید المیّت وحجّیة قوله بالاستصحاب یشکل جدّاً من غیر فرق بین الابتدائی والاستمراری .
وربّما یقال : إنّه لابدّ فی الأمارات من القول بجعل الوجوب ظاهراً لاتّفاق الفقهاء علی وجوب الجزم فی النیّة فی العبادات وأکثر أجزائها وشرائطها تثبت بالأمارات ، فلو لا جعل حکم علی طبق مؤدّیاتها واقعاً أو ظاهراً لما أمکن الجزم فی النیّة ، بل کان الواجب الإتیان بها رجاءً لإصابتها .
وإن شئت قلت : إنّ الإجماع علی الجزم فی النیّة یکشف بدلالة الاقتضاء عن الجعل الشرعی علی طبق المؤدّیات فیجری الاستصحاب .
أقول : أوّلاً : أنّه لا دلیل علی وجوب الجزم ، والإجماع إجماع کلامی لا فقهی ، حیث توهّموا توقّف صدق عنوان الإطاعة علی الجزم ونحن ننکر ذلک . بداهة أنّ الإطاعة تتحقّق فی الاحتیاطات أیضاً .
وثانیاً : أنّ الآتی بمؤدّی الأمارة یأتی به بما أنّه واقع وواجب فی الواقع لا بما أنّه مؤدّی الأمارة وموضوع لحکم واقعی أو ظاهری ثابت لهذا العنوان فإنّ هذا العنوان مغفول عنه . فهو یری نفسه آتیاً بالواقع فتصویر الحکم الثانوی لا یفید فی الجزم .
فالتحقیق : أنّ الجزم إنّما یحصل من جهة أنّ احتمال الخطأ والاشتباه فی نظر المکلّف ملغی ولا یلتفت إلی احتمال المخالفة . وقد عرفت : أنّ هذا هو الملاک فی عمل العقلاء بالأمارات لا ما ذکروه من الانسداد ونحوه .
نعم ، لقائل أن یقول : إنّ الرجوع إلی المجتهد ، کما عرفت إنّما هو من جهة
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 468
أماریة قوله ، ومقتضی القاعدة فی الأمارتین المتعارضتین ، کما عرفت هو التساقط ، ففیما إذا تخالف المجتهدان فی الرأی یسقط قولهما عن الحجّیة وتقتضی القاعدة الاحتیاط التامّ أو الأخذ بأحوطهما ، ولکنّک عرفت أنّ الأخذ بالاحتیاط التامّ أو أحوط القولین خلاف الإجماع ومرغوب عنه شرعاً ، إذ الأغلب اختلاف المجتهدین ، فالقول بالاحتیاط فی صورة الاختلاف یوجب ابتناء أمر الشریعة علی الاحتیاط ، ونحن نعلم من مذاق الشارع عدم رضایته بذلک والقول بأحوط القولین أمر مستحدث فی کلمات بعض المتأخّرین .
وعلی هذا ، فیستکشف من هذا الإجماع جعل تخیـیر شرعی فی المجتهدین المختلفین فی الرأی ، کما فی الخبرین المتعارضین ، وحینئذٍ فإذا کان هنا مجتهدان حیّان فقلّد أحدهما ومات یجوز للآخر إجازة البقاء علی التقلید عن الأوّل مطلقاً اتّفقا فی الرأی أو اختلفا ، إذ فی صورة الاتّفاق یکون أقوال المیّت مطابقة للواقع بنظر الحیّ أیضاً وفی صورة الاختلاف یستصحب التخیـیر الذی ثبت للمقلّد شرعاً .
فإن قلت : فی صورة الاتّفاق یکون الرجوع من باب بناء العقلاء حیث لا کاشف عن جعل شرعی ، فالبقاء علی تقلید المیّت مشکل لعدم الحکم الشرعی حتّی یستصحب .
قلت : لیس باب التقلید باب السببیة ، بل نفس الطریقیة المحضة ، ففی صورة الموافقة یجوز العمل علی طبق کلّ من القولین وکلّ منهما صحیح بنظر الآخر .
وبالجملة : فإذا لاحظ الحیّ أنّ فتاوی المیّت حجّة للمقلّد إمّا لکونها مطابقة لفتاواه أو لجریان استصحاب التخیـیر الشرعی الثابت فی صورة المخالفة جاز
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 469
له الفتوی بالبقاء ولا یشترط فی ذلک تعلّم المسائل من المیّت فضلاً عن العمل لثبوت التخیـیر قبل التعلّم أیضاً .
فإن قلت : التساقط المستعقب لکشف التخیـیر شرعاً إنّما هو فی صورة إحراز المقلّد للمخالفة لا فی صورة المخالفة بوجودها الواقعی ، فکیف یحکم المجتهد الحیّ بالبقاء بمقتضی الاستصحاب مع عدم إحراز المقلّد للمخالفة .
قلت : لا نسلّم ذلک ، إذ مخالفة الأمارتین موجبة لتساقطهما . غایة الأمر : کون المقلّد معذوراً فی الأخذ بأحدهما ما لم یعثر علی المخالف ، فتأمّل . فإنّ الطریق حجّة قطعاً ما لم یقع العثور علی المخالف .
ثمّ إنّ ما ذکرنا من الطریق لجواز الإفتاء بالبقاء إنّما هو فیما إذا أدرک المقلّد المجتهدین حتّی یثبت له التخیـیر فیستصحب فلو لم یدرک المیّت والحیّ فی زمان واحد لم یجز له تقلید المیّت ولکن مقتضی هذا الطریق جواز التقلید ابتداءً أیضاً من المجتهد المیّت الذی أدرکه ولم یقلّده لثبوت التخیـیر فیستصحب .
اللهمّ إلاّ أن یقال : بالإجماع علی عدم الجواز فی هذه الصورة ، فافهم .
هذا کلّه بالنسبة إلی الاستصحاب .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 470