الخاتمة فی الاجتهاد والتقلید

مقتضی بناء العقلاء فی التقلید عن الأعلم

مقتضی بناء العقلاء فی التقلید عن الأعلم 

‏ ‏

‏ثمّ إنّه ربّما یستدلّ لأصل التقلید بأنّ سیرة العقلاء‏‎[1]‎‏ قد استقرّت علی رجوع‏‎ ‎‏الجاهل فی کلّ صنعة وفنّ إلی العالم فی هذا الفنِّ.‏

‏واستشکل علی ذلک بأنّ السیرة دلیل لبّی لا لسان له حتّی یتمسّک بإطلاق‏‎ ‎‏رجوع الجاهل إلی العالم فالواجب إحراز السیرة فی خصوص ما نحن فیه من‏‎ ‎‏صناعة الفقه بالأحکام الشرعیة وإحراز اتّصالها إلی عصر النبیّ ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‎ ‎‏والأئمّة‏‏   ‏‏علیهم السلام‏‏ حتّی یستکشف بعدم ردعهم عنها الإمضاء‏‏  ‏‏، والمحرز فی عصرهم‏‎ ‎‏إنّما هو رجوع الناس إلی مثل زرارة‏‎[2]‎‏ وأمثاله‏‎[3]‎‏ العالمین بالأحکام وفتاوی‏‎ ‎


کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 440
‏الأئمّة ولم یکن اجتهاداتهم مستندة إلی المقدّمات الظنّیة المعضلة التی یکثر فیها‏‎ ‎‏الخطأ‏‏  ‏‏، کما فی أعصارنا‏‏  ‏‏، بل کانوا عالمین بفتاوی الأئمّة فالرجوع إلی أمثالهم‏‎ ‎‏وإرجاع الأئمّة‏‏   ‏‏علیهم السلام‏‏ إلیهم لا یثبت جواز الرجوع إلی المجتهدین فی أعصارنا‏‏  ‏‏،‏‎ ‎‏وصرف احتمال کون اجتهادات مثل زرارة مبتنیة علی المقدّمات العلمیة‏‎ ‎‏المحفوظة عن الخطأ أیضاً یکفی فی عدم جواز التعدّی إلی غیرهم فإنّ الشرط‏‎ ‎‏فی إلغاء الخصوصیة هو إحراز عدم التفاوت فلابدّ فی إلغاء الخصوصیة من‏‎ ‎‏إحراز تحقّق مثل هذه الاجتهادات المبتنیة علی المقدّمات والتدقیقات المعضلة‏‎ ‎‏بین أصحاب الأئمّة وإحراز إرجاع الأئمّة مع ذلک إلیهم أو رجوع الناس إلیهم‏‎ ‎‏وعدم ردع الأئمّة‏‏   ‏‏علیهم السلام‏‏  .‏

‏ولو لم یمکن إحراز هاتین المقدّمتین لزم التوسّل لإثبات جواز التقلید إلی‏‎ ‎‏دلیل آخر بأن یقال مثلاً‏‏  ‏‏: إنّ النبیّ ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ والأئمّة‏‏   ‏‏علیهم السلام‏‏ کانوا یعلمون بمجیء‏‎ ‎‏زمان هرج مثل زماننا لا بعلم الغیب فقط‏‏  ‏‏، بل بحسب جریان الطبیعة ولذلک‏‎ ‎‏کانوا یشوّقون الأصحاب فی ضبط الأحکام والأخبار لمثل هذه الأعصار‏‎ ‎‏وحیث کانوا یعلمون بمجیء مثل هذا الزمان وحصول الاجتهادات الدقیقة‏‎ ‎‏وارتکاز رجوع الجهّال إلی العلماء‏‏  ‏‏، فکان علیهم الردع جدّاً عن هذا الأمر‏‎ ‎‏المرتکز الذی کانوا یطّلعون علی تحقّقه بمقتضی العادة والطبیعة فبعدم الردع‏‎ ‎‏یستکشف رضی الشارع بهذا النحو من التقلید الدائر فی أعصارنا‏‏  .‏


کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 441
‏والإنصاف أنّه لا تصل النوبة إلی هذا البیان‏‏  ‏‏، فإنّ إحراز المقدّمتین‏‎ ‎‏المذکورتین سهل جدّاً‏‏  ‏‏، أمّا رجوع الناس إلی أمثال زرارة وإرجاع الأئمّة‏‏   ‏‏علیهم السلام‏‎ ‎‏إلیهم فواضح‏‏  ‏‏، کما یستفاد من روایات کثیرة أیضاً‏‏  ‏‏، وأمّا ثبوت مثل الاجتهادات‏‎ ‎‏الدائرة فی أعصارنا بین أصحاب الأئمّة وإمضاء الأئمّة لها فیظهر بملاحظة‏‎ ‎‏أخبار کثیرة أیضاً‏‏  :‏

فمنها‏  :‏‏ مرسلة ابن فرقد‏‏  ‏‏، قال‏‏  ‏‏: سمعت أبا عبدالله  ‏‏علیه السلام‏‏ یقول‏‏  ‏‏: ‏«أنتم أفقه الناس‎ ‎إذا عرفتم معانی کلامنا‏  ‏؛ إنّ الکلمة لتنصرف علی وجوه‏  ‏، فلو شاء إنسان لصرف‎ ‎کلامه کیف شاء ولا یکذب»‏  .‏‎[4]‎

ومنها‏  :‏‏ قول الرضا ‏‏علیه السلام‏‏  ‏‏: ‏«من ردّ متشابه القرآن إلی محکمه فقد هدی إلی‎ ‎صراط مستقیم»‏  ‏‏. ثمّ قال‏‏  ‏‏: ‏«إنّ فی أخبارنا محکماً کمحکم القرآن‏  ‏، ومتشابهاً‎ ‎کمتشابه القرآن‏  ‏، فردّوا متشابهها إلی محکمها‏  ‏، ولا تتّبعوا متشابهها دون‎ ‎محکمها فتضلّوا»‏  .‏‎[5]‎

ومنها‏  :‏‏ الروایتان المنقولتان فی «مستطرفات السرائر» وحاصلهما‏‏  ‏‏: أنّ‏‎ ‎‏الإمام ‏‏علیه السلام‏‏ قال‏‏  ‏‏: ‏«علینا إلقاء الاُصول‏  ‏، وعلیکم أن تفرّعوا»‏  ،‏‎[6]‎‏ فراجع‏‏  ‏‏، إذ‏‎ ‎‏الاجتهاد عند الإمامیة لیس أمراً سوی تفریع الفروع‏‏  .‏


کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 442
ومنها‏  :‏‏ روایة عبدالأعلی فی المسح علی المرارة‏‏  ‏‏، حیث قال ‏‏علیه السلام‏‏  ‏‏: ‏«یعرف‎ ‎هذا وأشباهه من کتاب الله عزّ وجلِّ، قال الله تعالی‏  ‏‏«‏‏وَمَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی‏‎ ‎‏الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ‏‏»‏‎[7]‎‏ امسح علیه»‏‏  .‏‎[8]‎‏ فإنّه تعلیم وترغیب فی الاجتهاد‏‏  ‏‏؛ والمورد‏‎ ‎‏من أدقّ موارد الاجتهاد‏‏  .‏

ومنها‏  :‏‏ قوله ‏‏علیه السلام‏‏ فی المسح ببعض الرأس بعد ما سئل عن وجهه لمکان‏‎ ‎‏«الباء»‏‏  ،‏‎[9]‎‏ فإنّه أیضاً تعلیم للاجتهاد‏‏  .‏

ومنها‏  :‏‏ المقبولة حیث قال فیها‏‏  ‏‏: ‏«ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف‎ ‎أحکامنا»‏  .‏‎[10]‎‏ بتقریب ذکرناه سابقاً‏‏  ‏‏، فإنّ تمیّز الأحکام الواقعیة الصادرة منهم من‏‎ ‎‏بین الأحکام المختلفة والروایات المتشتّتة الدائرة الموجودة فی أعصارهم‏‎ ‎‏یتوقّف علی إعمال الاجتهاد نحو ما تداول فی أعصارنا ولا سیّما إذا اُرید بقوله‏‏  ‏‏:‏‎ ‎‏«وکلاهما اختلفا فی حدیثکم» اختلافهما فی معنی حدیث واحد کما احتملناه‏‎ ‎‏سابقاً‏‏  ‏‏، بل الظاهر أنّ جمیع أخبار الترجیح شاهدة لوجود سنخ للاجتهاد الدائر‏‎ ‎‏فی أعصارنا فی أعصارهم‏‏   ‏‏علیهم السلام‏‏ أیضاً‏‏  ‏‏، فإنّ مفاد هذه الأخبار لا تنحصر‏‎ ‎‏بأعصارنا قطعاً‏‏  .‏


کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 443
‏فبهذا البیان یظهر جواز التمسّک بارتکاز العقلاء فی باب التقلید لما عرفت‏‎[11]‎‎ ‎‏من استقرار بنائهم علی الرجوع فی کلّ صنعة وفنّ بأهل خبرتها‏‏  .‏

‏ومنها‏‏  ‏‏: باب الاجتهاد فی الأحکام الشرعیة وقد تبیّن وجود هذا النحو من‏‎ ‎‏الاجتهاد فی أعصارهم ‏‏علیهم السلام‏‏  ‏‏، ومع ذلک کان یرجع إلی المجتهدین العقلاء‏‎ ‎‏ولم یردع عن ذلک الأئمّة ‏‏علیهم السلام‏‏ بل أرجعوا إلیهم‏‏  ‏‏، کما فی أخبار کثیرة‏‎[12]‎‏ حیث‏‎ ‎‏أرجعوا آحاداً من الأصحاب إلی آحاد اُخر وأرجعوا إلی العلماء بنحو العموم‏‎ ‎‏أیضاً‏‏  .‏

‏ثمّ إنّه بعد ما ثبت جواز الاعتماد فی باب التقلید بما هو مرتکز فی أذهان‏‎ ‎‏العقلاء من رجوع الجهّال إلی العالمین یجب أن یلاحظ أنّ بناءهم الرجوع إلی‏‎ ‎‏الأعلم أو یساوی هو مع غیره فی نظرهم‏‏  ‏‏. غایة الأمر‏‏  ‏‏: کون الرجوع إلی الأعلم‏‎ ‎‏أرجح رجحاناً غیر ملزم‏‏  ‏‏، وقبل بیان ذلک لابدّ من الإشارة إلی منشأ بناء العقلاء‏‎ ‎‏وارتکازهم‏‏  .‏

 

کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 444

  • - کفایة الاُصول : 539 ؛ درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 703 ؛ نهایة الأفکار ، القسم الثانی 4 : 241 .
  • - وسائل الشیعة 27: 143، کتاب القضاء، أبواب صفات القاضی ، الباب 11، الحدیث 9.
  • - کمحمّد بن مسلم ، زکریّا بن آدم ، أبان بن تغلب ، یونس بن عبدالرحمان ، برید بن معاویة وأبو بصیر ، راجع : وسائل الشیعة 27 : 142 ـ 148 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 11 ، الحدیث 15 ، 23 ، 27 ، 30 ، 33 ، 34 و35 ؛ مستدرک الوسائل 17 : 315 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 11 ، الحدیث 11 و14 .
  • - معانی الأخبار : 1 / 1 ؛ وسائل الشیعة 27 : 117 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 9 ، الحدیث 27 .
  • - عیون أخبار الرضا علیه السلام 1 : 290 / 39 ؛ وسائل الشیعة 27 : 115 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 9 ، الحدیث 22 .
  • - السرائر 3 : 575 ؛ وسائل الشیعة 27 : 61 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 6 ، الحدیث 51 و52 .
  • - الحجّ (22) : 78 .
  • - تهذیب الأحکام 1 : 363 / 1097 ؛ وسائل الشیعة 1 : 464 ، کتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 39 ، الحدیث 5 .
  • - الفقیه 1 : 56 / 212 ؛ وسائل الشیعة 1 : 412 ، کتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 23 ، الحدیث 1 .
  • - الکافی 1 : 67 / 10 ؛ وسائل الشیعة 27 : 106 و136 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 9 و11 ، الحدیث 1 .
  • - تقدّم فی الصفحة 440 .
  • - تقدّم ذکر مصادر بعض الأحادیث فی الصفحة 440 ـ 441 ومضافاً إلی ذلک راجع : إکمال الدین : 484 / 4 ؛ الاحتجاج 2 : 542 ؛ وسائل الشیعة 27 : 140 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 11 ، الحدیث 9 .