مقتضی بناء العقلاء فی التقلید عن الأعلم
ثمّ إنّه ربّما یستدلّ لأصل التقلید بأنّ سیرة العقلاء قد استقرّت علی رجوع الجاهل فی کلّ صنعة وفنّ إلی العالم فی هذا الفنِّ.
واستشکل علی ذلک بأنّ السیرة دلیل لبّی لا لسان له حتّی یتمسّک بإطلاق رجوع الجاهل إلی العالم فالواجب إحراز السیرة فی خصوص ما نحن فیه من صناعة الفقه بالأحکام الشرعیة وإحراز اتّصالها إلی عصر النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة علیهم السلام حتّی یستکشف بعدم ردعهم عنها الإمضاء ، والمحرز فی عصرهم إنّما هو رجوع الناس إلی مثل زرارة وأمثاله العالمین بالأحکام وفتاوی
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 440
الأئمّة ولم یکن اجتهاداتهم مستندة إلی المقدّمات الظنّیة المعضلة التی یکثر فیها الخطأ ، کما فی أعصارنا ، بل کانوا عالمین بفتاوی الأئمّة فالرجوع إلی أمثالهم وإرجاع الأئمّة علیهم السلام إلیهم لا یثبت جواز الرجوع إلی المجتهدین فی أعصارنا ، وصرف احتمال کون اجتهادات مثل زرارة مبتنیة علی المقدّمات العلمیة المحفوظة عن الخطأ أیضاً یکفی فی عدم جواز التعدّی إلی غیرهم فإنّ الشرط فی إلغاء الخصوصیة هو إحراز عدم التفاوت فلابدّ فی إلغاء الخصوصیة من إحراز تحقّق مثل هذه الاجتهادات المبتنیة علی المقدّمات والتدقیقات المعضلة بین أصحاب الأئمّة وإحراز إرجاع الأئمّة مع ذلک إلیهم أو رجوع الناس إلیهم وعدم ردع الأئمّة علیهم السلام .
ولو لم یمکن إحراز هاتین المقدّمتین لزم التوسّل لإثبات جواز التقلید إلی دلیل آخر بأن یقال مثلاً : إنّ النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة علیهم السلام کانوا یعلمون بمجیء زمان هرج مثل زماننا لا بعلم الغیب فقط ، بل بحسب جریان الطبیعة ولذلک کانوا یشوّقون الأصحاب فی ضبط الأحکام والأخبار لمثل هذه الأعصار وحیث کانوا یعلمون بمجیء مثل هذا الزمان وحصول الاجتهادات الدقیقة وارتکاز رجوع الجهّال إلی العلماء ، فکان علیهم الردع جدّاً عن هذا الأمر المرتکز الذی کانوا یطّلعون علی تحقّقه بمقتضی العادة والطبیعة فبعدم الردع یستکشف رضی الشارع بهذا النحو من التقلید الدائر فی أعصارنا .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 441
والإنصاف أنّه لا تصل النوبة إلی هذا البیان ، فإنّ إحراز المقدّمتین المذکورتین سهل جدّاً ، أمّا رجوع الناس إلی أمثال زرارة وإرجاع الأئمّة علیهم السلام إلیهم فواضح ، کما یستفاد من روایات کثیرة أیضاً ، وأمّا ثبوت مثل الاجتهادات الدائرة فی أعصارنا بین أصحاب الأئمّة وإمضاء الأئمّة لها فیظهر بملاحظة أخبار کثیرة أیضاً :
فمنها : مرسلة ابن فرقد ، قال : سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول : «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معانی کلامنا ؛ إنّ الکلمة لتنصرف علی وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف کلامه کیف شاء ولا یکذب» .
ومنها : قول الرضا علیه السلام : «من ردّ متشابه القرآن إلی محکمه فقد هدی إلی صراط مستقیم» . ثمّ قال : «إنّ فی أخبارنا محکماً کمحکم القرآن ، ومتشابهاً کمتشابه القرآن ، فردّوا متشابهها إلی محکمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محکمها فتضلّوا» .
ومنها : الروایتان المنقولتان فی «مستطرفات السرائر» وحاصلهما : أنّ الإمام علیه السلام قال : «علینا إلقاء الاُصول ، وعلیکم أن تفرّعوا» ، فراجع ، إذ الاجتهاد عند الإمامیة لیس أمراً سوی تفریع الفروع .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 442
ومنها : روایة عبدالأعلی فی المسح علی المرارة ، حیث قال علیه السلام : «یعرف هذا وأشباهه من کتاب الله عزّ وجلِّ، قال الله تعالی : «وَمَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» امسح علیه» . فإنّه تعلیم وترغیب فی الاجتهاد ؛ والمورد من أدقّ موارد الاجتهاد .
ومنها : قوله علیه السلام فی المسح ببعض الرأس بعد ما سئل عن وجهه لمکان «الباء» ، فإنّه أیضاً تعلیم للاجتهاد .
ومنها : المقبولة حیث قال فیها : «ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا» . بتقریب ذکرناه سابقاً ، فإنّ تمیّز الأحکام الواقعیة الصادرة منهم من بین الأحکام المختلفة والروایات المتشتّتة الدائرة الموجودة فی أعصارهم یتوقّف علی إعمال الاجتهاد نحو ما تداول فی أعصارنا ولا سیّما إذا اُرید بقوله : «وکلاهما اختلفا فی حدیثکم» اختلافهما فی معنی حدیث واحد کما احتملناه سابقاً ، بل الظاهر أنّ جمیع أخبار الترجیح شاهدة لوجود سنخ للاجتهاد الدائر فی أعصارنا فی أعصارهم علیهم السلام أیضاً ، فإنّ مفاد هذه الأخبار لا تنحصر بأعصارنا قطعاً .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 443
فبهذا البیان یظهر جواز التمسّک بارتکاز العقلاء فی باب التقلید لما عرفت من استقرار بنائهم علی الرجوع فی کلّ صنعة وفنّ بأهل خبرتها .
ومنها : باب الاجتهاد فی الأحکام الشرعیة وقد تبیّن وجود هذا النحو من الاجتهاد فی أعصارهم علیهم السلام ، ومع ذلک کان یرجع إلی المجتهدین العقلاء ولم یردع عن ذلک الأئمّة علیهم السلام بل أرجعوا إلیهم ، کما فی أخبار کثیرة حیث أرجعوا آحاداً من الأصحاب إلی آحاد اُخر وأرجعوا إلی العلماء بنحو العموم أیضاً .
ثمّ إنّه بعد ما ثبت جواز الاعتماد فی باب التقلید بما هو مرتکز فی أذهان العقلاء من رجوع الجهّال إلی العالمین یجب أن یلاحظ أنّ بناءهم الرجوع إلی الأعلم أو یساوی هو مع غیره فی نظرهم . غایة الأمر : کون الرجوع إلی الأعلم أرجح رجحاناً غیر ملزم ، وقبل بیان ذلک لابدّ من الإشارة إلی منشأ بناء العقلاء وارتکازهم .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 444