الروایات التی ذکرت فی المقام ومدی دلالتها
فمنها : قوله : «العلماء ورثة الأنبیاء ، إنّ الأنبیاء لم یورّثوا دیناراً ولا درهماً ، وإنّما ورّثوا العلم . . .» بناءً علی استفادة عموم التنزیل من الصدر فی جمیع شؤون الأنبیاء وخواصّهم إلاّ ما خرج بالدلیل ، کتزویج التسعة لنبیّنا صلی الله علیه و آله وسلممثلاً ، ولا ینافی عموم التنزیل ذیل الحدیث ، فإنّ العلم ذکر من باب أ نّه أظهر المصادیق وأظهر شؤونهم ، فذکر لینبّه علی أنّ الوراثة لیست وراثة فی المال ، بل هی وراثة فی هذا القبیل من الاُمور من الأوصاف التی ثبتت للأنبیاء بما هم أنبیاء والمال لیس للنبیّ بما هو نبیِّ، کما لا یخفی .
وبالجملة : فلو استفید من الصدر عموم التنزیل لم یضرّ الذیل بعمومه ، ولکن
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 427
لقائل أن یقول : إنّ إثبات الوراثة لعنوان العلماء مشعر بأنّ العلم هو الموروث لا مثل الشؤون الجعلیة والمناصب المفوّضة من قبل الله تعالی ، فافهم .
مضافاً إلی أنّ کون الولایة والقضاء من مناصب جمیع الأنبیاء فیه ما لا یخفی . بداهة أنّ مثل أنبیاء بنی إسرائیل لم یکونوا یتصدّون لهما ولذا لم یتصدّ سموئل لأمر الولایة وجعل الله تعالی طالوت ملکاً ، والمستفاد من الروایة وراثة العلماء لحیثیة یشترک فیها جمیع الأنبیاء .
وعمدة ما فی الباب روایة عمر بن حنظلة المتلقّاة بالقبول فالواجب ملاحظة مفادها ، قال علیه السلام بعد النهی عن رجوع المترافعین إلی قضاة الجور وسؤال الراوی بقوله : فکیف یصنعان ؟
قال علیه السلام : «ینظران من کان منکم ممّن قد روی حدیثنا ، ونظر فی حلالنا وحرامنا ، وعرف أحکامنا ، فلیرضوا به حکماً ؛ فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً ، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه ، فإنّما استخفّ بحکم الله . . .» .
والمستفاد من الحدیث فی شرائط من فوّض إلیه الإمام علیه السلام أمر القضاء اُمور:
الأوّل : أن یکون إمامیاً ویستفاد هذا الشرط من قوله : «منکم» . ولا یتوهّم أنّ القائل لهذا الکلام هو الإمام الصادق علیه السلام فیشمل قوله : «منکم» لمثل الواقفة والإسماعیلیة ونحوهما ، فإنّه قد ورد فی روایات کثیرة : «أنّ المنکر لآخرنا کالمنکر لأوّلنا» أیضاً فلا یشمل قوله : «منکم» إلاّ للاثنی عشریة .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 428
الثانی : أن یکون مجتهداً فلا یکفی مطلق معرفة الأحکام . ویستفاد هذا الشرط من مواضع :
منها : قوله : «نظر» .
ومنها : إضافة «الحلال» و«الحرام» إلیهم علیهم السلام وکذلک إضافة «الأحکام» ، فإنّ الأحکام لله تعالی فهو شارعها وإضافتها إلی الأئمّة علیهم السلام من جهة کونها مبیّنة من قبلهم ، والمقلّد لا یستفید الحکم من قبل الإمام ومن کلامه ، بل یتبیّنها من المجتهد ، ولو قُرء له کلام الإمام علیه السلام یقول : لا یرتبط هذا بی فإنّ الحجّة فی حقّی هو قول المجتهد ، فالناظر فی حلالهم وحرامهم وأحکامهم المبیّنة من قبلهم لیس إلاّ المجتهد وهو العارف بأحکامهم والمشخّص لها عن أحکام غیرهم .
والمستفاد من قوله : «عرف أحکامنا» کون الشخص عارفاً بمذاقهم علیهم السلام بحیث یمیّز من بین الأخبار المختلفة المتعارضة ما هی أحکامهم ویفرق بینها وبین الأحکام والأخبار المعطاة من جراب النورة ، وهذا المعنی یستدعی ممارسة الأخبار والاطّلاع علی أقوال العامّة والمحیط الذی صدرت فیه الأخبار عنهم علیهم السلام حتّی یظهر ما هی أحکامهم وما لیست بأحکامهم ، بل
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 429
صدرت عنهم تقیّة مثلاً أو نسبت إلیهم کذباً .
ومنها : قوله علیه السلام بعد فرض اختلاف الحکمین فی الحدیث : «الحکم ما حکم به أفقههما» ، إذ یستفاد من ذلک اشتراط أصل الفقاهة فی الحکم .
والمراد باختلافهما فی الحدیث نقل کلّ منهما حدیثاً أو اختلافهما فی معنی حدیث واحد ، ولعلّ الثانی هو الأقرب ، إذ یبعد عدم اطّلاع الفقیه علی معارض الحدیث الذی اعتمد علیه ، فافهم .
الثالث : أن یکون بحیث یطلق علیه أ نّه عارف بالأحکام ، والظاهر من العارفیة هو العارفیة الفعلیة وهی بالنسبة إلی جمیع الأحکام غیر ممکنة عادة فیکون المراد اطّلاعه علی أکثر الأحکام فعلاً .
اللهمّ إلاّ أن یقال : بأ نّا نعلم أنّ الاطّلاع علی الأحکام غیر المربوطة بباب القضاء ممّا یقطع بعدم اعتباره فی القاضی ، فالمراد بقوله : «عرف أحکامنا» أن یکون أساس قضائه أحکامنا لا أحکام المخالفین . وهذا هو المراد بقوله : «ممّن قد روی حدیثنا» ، إذ من المقطوع عدم وجوب أن یروی القاضی للغیر حتّی یجوز له القضاء ، فالمراد هو أن یکون مطّلعاً علی روایاتنا وتکون هی المبنی والأساس لأقضیته ، فإذا صار الشخص واجداً لهذه الشرائط الثلاثة صار منصوباً من قبل الإمام علیه السلام لمنصب القضاء ، بل المستفاد من الروایة کونه منصوباً من قبله علیه السلام لمنصب الولایة والحکومة المطلقة التی أحد شؤونها القضاوة حیث قال : «فلیرضوا به حکماً ، فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً» فإنّ تعدیة الحاکم بـ «علی» تدلّ علی الحکومة المطلقة ، إذ لا استعلاء للقاضی فکأ نّه علیه السلام قال : فلیرضوا به قاضیاً فإنّه حاکم مطلق من قبلی والحاکم أحد شؤونه القضاء .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 430
وبالجملة : فالأخذ بعموم قوله : «جعلته علیکم حاکماً» متعیّن فیرجع إلیه فی الاُمور التی هی شأن الحکومة الشرعیة .
ثمّ لو فرض فی البین روایات اُخر دالّة علی منصوبیة الأعمّ من المجتهد والمقلّد للحکومة والقضاء وجب حملها علی هذه الروایة حملاً للمطلق علی المقیّد فالاجتهاد شرط فی القاضی والحاکم بحسب الروایات ولو فرض قطع النظر عنها أیضاً یکون المجتهد هو القدر المتیقّن ، کما عرفت ولا دلیل علی منصوبیة غیره .
فإن قلت : الجاعل فی هذه الروایة هو الإمام الصادق علیه السلام ومقام الإمامة کان له فی زمان حیاته وبعده انتقل إلی الأئمّة الاُخر ، فکیف جعل الحاکم والقاضی لجمیع الأزمنة .
قلت : لیست الإمامة له محدودة بزمن حیاته فله إمامة مطلقة وله جعل الحاکم والقاضی بنحو الإطلاق . غایة الأمر : أ نّه بوفاته علیه السلام ینتقل الإمامة فهی نظیر الملکیة الثابتة للإنسان بالنسبة إلی ماله ، حیث لا تکون محدودة ولذا لا یبطل إجارته بموته ، ومثل هذا الحکم جار فی المجتهد أیضاً ، فإنّه لو عیّن نائباً لنفسه فبموته ینعزل ، وأمّا إذا جعل أحداً قیّماً للصغار أو متولّیاً لوقف أو نحو ذلک ، فبموت المجتهد لا ینعزل القیّم والمتولّی .
ومن روایات الباب أیضاً روایة أبی خدیجة . والظاهر أنّ فی سندها سقطاً . ومنها غیر ذلک .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 431
ولکنّ المتأمّل یری ضعف سندها حتّی التوقیع المنسوب إلی صاحب الزمان علیه السلام فالعمدة هی المقبولة ، فتـتبّع .
وقد تحصّل ممّا ذکرنا : اشتراط الاجتهاد فی القاضی بمعنی کونه بحیث یتمکّن من تحصیل فتاوی الأئمّة علیهم السلام وکونه فقیهاً ، ویختلف ذلک بحسب الأزمنة ولا یکفی صرف وجود القوّة ، بل یشترط کونه بحیث یصدق علیه أ نّه یعرف أحکامهم وإن کان الظاهر بمناسبة الحکم والموضوع هو اشتراط اطّلاعه علی الأحکام المربوطة بباب القضاء لعدم ارتباط غیرها به . ویظهر ذلک بملاحظة المقابلة ، فإنّه بعد ما نهی عن الرجوع إلی فقهائهم وقضاتهم أمر بالرجوع إلی من عرف أحکامهم ، فیعلم من ذلک أنّ المناط کون القضاء مبتنیاً علی أحکامهم وحلالهم وحرامهم لا علی الأحکام الدائرة بین قضاة الجور .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 432