الجهة الرابعة : فیمن یجوز له القضاء
وأمّا الموضوع للقضاء : فتفصیل المقال فیه ، هو أنّ مقتضی الأصل الأوّلی عدم نفوذ قضاوة أحد فی حقّ أحد کغیرها من الحکومات ، فالأصل أن لا ینفذ حکم أحد فی حقّ الإنسان إلاّ الله تعالی ، فإنّه مالک للعبد بشراشر وجوده فالعبد محکوم عقلاً بحکمه ، وعلیه إطاعة أوامره وینفذ فی حقّه حکوماته ولیس هذه الحیثیة لغیره تعالی حتّی الأنبیاء والرسل فإنّ صرف جعل منصب النبوّة والرسالة لهم لا یقتضی تسلّطهم علی أموال الناس وأعراضهم ، بل مقتضاهما کونهم سفراء بین الله وبین خلقه فی تبلیغ أحکامه ، وأوامرهم من هذه الجهة أوامر إرشادیة ولا تحرم مخالفتهم إلاّ من حیث مخالفة حکم الله الواصل إلی العبد بتبلیغهم ولا یجب علی العبید إطاعتهم أصلاً من هذه الجهة .
نعم ، بعد ما علمنا قطعاً بأنّ دین الإسلام دین سیاسی اجتماعی ، شرّع لتأمین سعادة اجتماع البشر وراء تأمینه لسعادة اُخراه فلا محالة یحصل لنا العلم بأ نّه تعالی نصب بین عباده حکّاماً واُمراءً وفوّض أمر الحکومة والقضاوة إلی بعض أفراد الناس فیصیر النبیّ والولیّ قدراً متیقّناً منهم ؛ ودلّ علی التفویض إلیهما الآیات القرآنیة کقوله : «النَّبِیُّ أَوْلَی بِالْمُؤمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» .
وقوله : «أَطِیعُوا الله وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِی الأَمْرِ مِنْکُمْ» . دلّت الآیة
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 423
علی کون إطاعة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم واُولی الأمر فی قبال إطاعة الله تعالی .
وقد عرفت : أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من حیث کونه مبلّغاً لأحکام الله تعالی لا إطاعة له وراء إطاعة الله فیکون المراد إطاعته فی أوامره المولویة فی قبال أوامر الله ، فیظهر من ذلک أنّ له الحکومة علی الناس والأمارة علیهم ویجب علیهم إطاعته بسبب هذا المنصب المفوّض إلیه من قبل الله تعالی ، وکذلک اُولو الأمر . ولعلّه لأجل ذلک لم یتکرّر کلمة «أَطِیعُوا» بالنسبة إلی «أُوْلِی الأَمْرِ» وکرّرت بالنسبة إلی «الرَّسُولَ» فیظهر من ذلک أنّ إطاعة الرسول واُولی الأمر من سنخ واحد فی قبال إطاعة الله .
وبالجملة : فالحکومة والأمارة بین الناس مفوّض من قبل الله تعالی إلی أنبیائه ورسله ویظهر من قوله تعالی :
«یَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاکَ خَلِیفَةً فِی الأَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» . أنّ تفویض الأمارة إلی شخص یستعقب تفویض منصب القضاوة إلیه أیضاً مضافاً إلی العلم بأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم والإمام علیه السلام کانا یتصدّیان للقضاوة .
ویدلّ بعض الروایات أیضاً علی أنّ القضاوة من مناصب النبیّ والإمام کقوله علیه السلام لشریح : «یا شریح ، قد جلست مجلساً لا یجلسه إلاّ نبیّ أو وصیّ نبیّ أو شقیّ» .
وقوله علیه السلام : «اتّقوا الحکومة ؛ فإنّ الحکومة إنّما هی للإمام العالم
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 424
بالقضاء ، العادل فی المسلمین ، لنبیّ أو وصیّ نبیّ» .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 425