المطلب الثالث فی جواز التعدّی عن المرجّحات المنصوصة
ظاهر أدلّة المرجّحات وجوب الترجیح فیجب العمل بظاهرها ، وقد عرفت أنّ المرجّحات المنصوصة لیست کثیرة حتّی یستلزم الترجیح بها حمل أخبار التخیـیر علی الفرد النادر ؛ إنّما الإشکال فی أ نّه هل یقتصر علی المرجّحات المنصوصة أو یتعدّی عنها إلی کلّ ما یوجب أقربیة مضمون أحد
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 411
الخبرین إلی الواقع ولو کان هو الظنّ الشخصی بکون مضمون أحدهما حکم الله الواقعی .
ویستفاد من کلام الشیخ قدس سره فی المقام ما حاصله :
إنّ التعدّی عنها موقوف علی أحد أمرین : إمّا إنکار الإطلاق لأدلّة التخیـیر فیکون مقتضی الأصل الذی أسّسناه تقدیم کلّ ما فیه مزیّة للعلم بحجّیته والشکّ فی حجّیة الآخر المساوق للعلم بعدم حجّیته ، وإمّا أن یستفاد من أدلّة المرجّحات ولو بمعونة الفتاوی وجوب العمل بکلّ ذی مزیّة بسبب إلغاء الخصوصیة وتنقیح المناط ، والظاهر إمکان دعوی کلّ من الأمرین ، ولذا ذهب جمهور المجتهدین إلی التعدّی .
ویمکن استفادة المطلب من فقرات من الروایات :
الأوّل : الترجیح بالأصدقیة والأوثقیة فی المقبولة والمرفوعة فإنّ اعتبار الصفتین لیس إلاّ لترجیح الأقرب إلی مطابقة الواقع من غیر مدخلیة خصوصیة سبب ولیستا کالأعدلیة والأفقهیة ، حیث یحتمل فیهما اعتبار الأقربیة الحاصلة من السبب الخاصِّ. ویؤیّد ذلک أنّ الراوی بعد سماع الترجیح بمجموع الصفات لم یسأل عن صورة وجود بعضها فلولا فهمه أنّ کلّ واحد من الصفات مزیّة مستقلّة لم یکن وقع للسؤال عن صورة عدم المزیّة فیهما رأساً ، بل ناسبه السؤال عن حکم عدم اجتماع الصفات .
الثانی : تعلیله علیه السلام الأخذ بالمشهور بقوله : «فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه»
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 412
فإنّ المراد فیه اللا ریب الإضافی، فیستفاد منها أنّ کلّ ما لا ریب فیه بالإضافة إلی غیره فیجب الأخذ به .
الثالث : تعلیله علیه السلام لتقدیم المخالف للعامّة بقوله : «ما خالف العامّة ففیه الرشاد» إذ الرشاد فیه أیضاً إضافی .
الرابع : قوله علیه السلام : «دع ما یریبک إلی ما لا یریبک فإنّک لن تجد فقد شیء ترکته لله عزّ وجلّ» ، انتهی .
أقول : قد عرفت أنّ الأصل الأوّلی یقتضی الترجیح بکلّ مزیّة ، ولکن هذا لو لا ثبوت إطلاق لأدلّة التخیـیر ، وعرفت أنّ عمدة أدلّته خبر ابن الجهم وله إطلاق مستحکم وإرساله وضعفه منجبر بالشهرة بل الإجماع علی التخیـیر .
اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ انجبار الضعف بالشهرة فرع استناد المشهور إلیه ولم یثبت ، فالتخیـیر إجمالاً ثابت فی المتکافئین ولکنّ المدرک له هو الشهرة أو الإجماع وهما دلیلان لبّیان یقتصر فیهما علی القدر المتیقّن وهو صورة فقد المزیّة ، أیّ مزیّة کانت ؛ ولا سیّما بعد اشتهار التعدّی عن المرجّحات المنصوصة ، ولیس لنا دلیل لفظی یکون حجّة علی التخیـیر حتّی یستلزم تخصیصه بصورة فقد جمیع المزایا التخصیص بالفرد النادر .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 413
فتلخّص ممّا ذکرنا: أنّ المعتمد فی الحکم بالتخیـیر لو کان خبر ابن الجهم لوجب الأخذ بإطلاقه فیما سوی المرجّحات المنصوصة لو لم نستفد من أدلّتها التعدّی ، وأمّا إذا کان المعتمد فی الحکم به هو الإجماع أو الشهرة ، فاللازم هو الأخذ بالقدر المتیقّن وهو صورة التکافؤ من جمیع الجهات ، والرجوع فیما عداه إلی خصوص ذی المزیّة للأصل الذی أسّسناه .
ولعلّه لذا اشتهر بین الأصحاب التعدّی عن المرجّحات المنصوصة ، والظاهر عدم ثبوت حجّیة خبر ابن الجهم ، إذ حجّیته مع إرساله فرع استناد المشهور إلیه ولم یثبت ولا سیّما بعد اختلاف مضمونه لما علیه المشهور ، إذ المشهور وجوب العمل بالتخیـیر والأخذ بأحد الخبرین فی صورة التکافؤ ، ومضمون خبر ابن الجهم جوازه فمقتضی الأصل هو التعدّی إلی کلّ مزیّة وفاقاً لما علیه جمهور المجتهدین .
وأمّا ما ذکره الشیخ قدس سره من استفادة التعدّی من فقرات من أدلّة المرجّحات ومن قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «دع ما یریبک» .
فیرد علی الأوّل منها : أنّ الأوثقیة مذکورة فی المرفوعة ، وقد عرفت ضعفها والأصدقیة مثل الأفقهیة وغیرها من حیث احتمال الخصوصیة فیها ، ولا سیّما وأنّ الأصدقیة فی الصدر الأوّل کان من أرکان الفقاهة فإنّ الفقاهة فی الصدر الأوّل کان بضبط الروایات . هذا مضافاً إلی أنّ الأصدقیة وغیرها من صفات الراوی فی المقبولة من مرجّحات الحَکَمین لا الراویین .
وأمّا ما ذکره من التأیید ، ففیه : أنّ عدم سؤال الراوی عن صورة فقد بعض الصفات الأربعة یؤیّد أنّه فهم دخالة مجموعها لا أنّه فهم کون کلّ منها مزیّة
مستقلّةکتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 414
، کیف ولو فهم استقلال کلّ منها لناسب أن یسأل عن صورة وجدان أحد الخبرین لبعضها ووجدان الآخر لبعضها الآخر .
ویرد علی الثانی : ما عرفت من کون «اللا ریب» فی الحدیث لا ریباً حقیقیاً ، وکون المراد بـ «الشهرة» اشتهار مضمون أحد الخبرین بین الأصحاب وهو ممّا یجعله مصداقاً لـ «بیّن الرشد» ویجعل خلافه مصداقاً لـ «بیّن الغیّ» .
ویرد علی الثالث : أنّ مخالفة العامّة نحو أمارة علی الحکم الواقعی ، بناءً علی ما روی من أنّهم کانوا یسألون أمیر المؤمنین علیه السلام عن حکم الله ویأخذون بخلافه ، وقد عرفت ما حکی عن أبی حنیفة . فغایة ما یستفاد من هذه الفقرة هو التعدّی إلی کلّ أمارة تکون فی مرتبة هذه الأمارة .
ویرد علی الرابع : مضافاً إلی إرسال الحدیث أنّ الظاهر من اللا ریب ، اللا ریب الحقیقی فناسب أن یذکر فی مقابله ما لا ریب فی بطلانه لا ما فیه ریب ، وحفظ هذا الظاهر یؤیّد تعین احتمال آخر فی الحدیث بأن یکون المراد بما یریب الشبهات وبما لا یریب ثواب الله الحتمی لتارک الشبهات ویؤیّد هذا المعنی ذیل الحدیث ، فتدبّر .
وعلی هذا فلا یرتبط الحدیث بما نحن فیه .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 415
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 416