المبحث السادس : المناسبة بین الاستدلال بوحدة العالم علیٰ وحدة إلٰه العالم وهذه الآیة

‏‏المبحث السادس‏

‏‏ ‏

‏‏المناسبة بین الاستدلال بوحدة العالم‏

‏‏ ‏

‏‏علیٰ وحدة إلٰه العالم وهذه الآیة‏

‏‏ ‏

‏‏قد اشتهر بین أبناء الـفلسفـة الـعُلیا الاستدلال لوحدة إلٰـه الـعالَم‏‎ ‎‏بوحدة الـعالَم‏‎[1]‎‏، وهذا لایناسبـه الآیـة الـکریمـة الـشریفـة الـصریحـة فی‏‎ ‎‏تعدّد الـعالَم، ولا الـمآثیر والأخبار الـواردة عن الأئمّـة الـمعصومین ـ علیهم‏‎ ‎‏صلوات الـمصلّین ـ الـصریحـة فی أنّ للّٰه تعالـیٰ ألف ألف عالَم‏‎[2]‎‏، فکیف‏‎ ‎‏الـجمع بین ذاک وبین هذه الاُمور؟‏

‏‏أقول :‏‏ استدلّوا علیٰ وحدة إلـه الـعالَم حتّیٰ قیل:‏

‏‏ ‏

‏‏فبالنظام الجُمَلی العالَمُ‏

‏‎ ‎‏شخص من الحیوان لا، بل آدمُ‏

‏‏ ‏

‏‏لکن لا رأس لـه کالإنسان الـبشری، ولا ذَنَبَ کالـحیوان الـعنصری،‏
‏‎

‏‏وأنت خبیر :‏‏ بأنّ فی هذا الـتقریب قصوراً لاینتهی إلـی الـتحقیق؛ لأنّـه‏‎ ‎‏لایفید إلاّ الـوحدة الاعتباریّـة فلایکشف عن وحدة الإلٰـه.‏

‏‏وقیل :‏‏ إنّ مجموع الـعالَم شخص واحد لـه وحدة طبیعیّـة، ولیست‏‎ ‎‏وحدتـه کوحدة أشیاء متغایرة، اتّفق أن صارت بالاجتماع والانضمام کشیء‏‎ ‎‏واحد، مثل اجتماع الـبیت من الـلبنات واجتماع الـعسکر من الأفراد؛ وذلک‏‎ ‎‏لأنّ بین أجزاء الـعالـم علاقـة ذاتیّـة؛ لأنّها حاصلـة علیٰ الـترتیب الـعلّی‏‎ ‎‏والـمعلولی، وهی مترتّبـة بالأشرف فالأشرف إلـیٰ الأحسن فالأحسن، ومن‏‎ ‎‏الأعلیٰ فالأعلیٰ إلـیٰ الأدنیٰ فالأدنیٰ، وکلّ جمعیّـة تقع علیٰ هذا الـوجـه‏‎ ‎‏تکون الـوحدة فیها وحدة ذاتیّـة؛ وذلک لما عرفت أنّ الـعلّـة تمام الـمعلول،‏‎ ‎‏والأشرف تمام الـذی دونـه فی الـشرف، والـشیء الـذی یکون مع تمامـه هو‏‎ ‎‏أولیٰ بـه أن یکون مع نفسـه، فیکون واحداً بوحدتـه.‏

‏‏وبالجملة :‏‏ صرّح صاحب «الـحکمـة الـمتعالـیـة»: بأنّ الـعالَم واحد‏‎ ‎‏شخصیّ بالـبرهان عندنا وعند الـحکیم أرسطو؛ حیث قال: بأنّ الـعالَم حیوان‏‎ ‎‏واحد مطلب «ما هو» و«لمَ هو» فیـه واحد، فمن علم أنّـه ماهو علم أنّـه لَم هو،‏
‏‎

‏‏وغیر خفیّ:‏‏ أنّـه ‏‏قدس سره‏‏ ما عقد فصلاً فی کتابـه الـکبیر لإثبات وحدة إلٰـه‏‎ ‎‏الـعالَم‏‎[5]‎‏؛ وإن أصرّ فی موضع آخر علی وحدة الـعالـم وحدة شخصیّـة. وأنت‏‎ ‎‏خبیر بأنّـه لو کان یتمّ هذا الـبرهان فی حدّ ذاتـه، لکان یمکن الـجمع بین ذلک‏‎ ‎‏وبین تلک الأدلّـة؛ بحملها علیٰ الـکثرة الاعتباریّـة؛ لما قد مضیٰ من أنّ لفظـة‏‎ ‎‏«الـعالَم» موضوعـة لشیء یکون سعـة مصداقـه وضیقـه تابعین لاعتبار‏‎ ‎‏الـمستعمل، فیصحّ إطلاقـه وإرادة ما سواه تعالـیٰ، بل قد مضیٰ أنّ من الـعوالـم‏‎ ‎‏عالَم الـسرمد وعالَم الـهاهوت، وهی وعاء الـذات فی وجـه تخیّلی ترشیحی،‏‎ ‎‏ولکن ما راموه بنبال أفکارهم الـقدیمـة ـ الـغیر الـمشفوعـة بالـکشفیّات‏‎ ‎‏الـعرفانیّـة، وغیر الـمصحوبـة مع أرباب الـوحی والـتنزیل ـ غیر موافق‏‎ ‎‏للذوق الـسلیم والـعقل الـمستقیم؛ من غیر احتیاج فی مسألـة من الـمسائل‏‎ ‎‏الإلهیّـة والـطبیعیّـة إلـیٰ إثبات تلک الـوحدة الـطبیعیّـة الـوهمیّـة الـتخیّلیّـة،‏‎ ‎‏الـفاقدة لأوّل مرتبـة الـتحقیق، فضلاً عن أعلاه؛ وذلک لما تقرّر فی هذه‏‎ ‎‏الأعصار من أجنبیّـة هذه الـزاویـة من الـمنظومـة الـشمسیّـة عن الـزوایا‏‎ ‎‏الـبعیدة عنّا بما لایحیط بـه علماء الـسلف؛ حتّیٰ تکون الـجواذب الـمدّعاة‏‎ ‎‏بین الأشیاء منقطعـة؛ وإن لم یثبت عندنا قانون الـجاذبـة بعدُ، بل أقمنا بعضاً من‏
‏‎

‏‏1 ـ علیّ بن ابراهیم الـقمّی الـکوفی ‏‏رحمه الله‏‏ عن أبی الـحسن الـرضا ‏‏علیه السلام‏‎ ‎‏قال: سمعتـه یقول: ‏‏«إنّ اللّٰه خلق هذا النطاق زَبَرْجَدَةً خضراء، فمنها اخضرّت‏‎ ‎‏السماء. ‏‏قلت: وما الـنطاق؟ قال: ‏‏الحجاب للّٰه عزّوجلّ، وراء ذلک سبعون ألف‏‎ ‎‏عالَم أکثر من عدّة الجنّ والإنس»‏‎[6]‎‏.‏

‏‏2 ـ وبإسناد آخر عن أبی جعفر ‏‏علیه السلام‏‏، قال: ‏‏«من وراء شمسکم هذه‏‎ ‎‏أربعون عین شمس؛ ما بین عین شمس إلیٰ عین شمس أربعون عاماً فیها خلق‏‎ ‎‏کثیر، ما یعملون أنّ اللّٰه خلق آدم أو لم یخلق، وإن من وراء قمرکم هذا أربعین‏‎ ‎‏قرصاً؛ بین القرص إلیٰ القرص أربعون عاماً، فیها خلق کثیر لایعلمون أنّ اللّٰه‏‎ ‎‏خلق آدم أو لم یخلقه»‏‎[7]‎‏، الـحدیث.‏

‏
‏‎

‏‏4 ـ وغیـر ذلـک ممّـا هـو مسطـور فی کتـاب «الـکافی» وغیـره، ومـن‏‎ ‎‏شـاء فلیراجع‏‎[9]‎‏.‏

‏‏فعلیٰ ما تقرّر تکون الآیـة الـشریفـة وهذه الأحادیث الـمنیفـة، دلیلاً‏‎ ‎‏ظاهراً علیٰ عدم توحّد الـعالـم وحدة حقیقیّـة، خلافاً لما هو الـمعروف عن‏‎ ‎‏أبناء الـبرهان، فافهم ولاتکن من الـهالـکین.‏

‏‎

• )) الأسفار 6 : 92 ـ 100، شرح المنظومة (قسم الفلسفة) : 150 ـ 153 .
• )) اُنظر الخصال 2 : 796 / 54، تفسیر القمی 2 : 409 .
• )) اُنظر شرح المنظومة (قسم الفلسفة) : 153 .
• )) اُنظر الأسفار 7 : 113 .
• )) بل قد عقد فصلاً ، اُنظر الأسفار 6 : 92 .
• )) بصائر الدرجات: 512 / 7، تفسیر البرهان 1 : 47 / 9، بحار الأنوار 54: 330 / 15.
• )) بصائر الدرجات: 513 / 9، تفسیر البرهان 1 : 47 / 12، بحارالأنوار 27: 45 ـ 46 / 6.
• )) بصائر الدرجات: 421 / 15، تفسیر البرهان 1 : 48 ـ 49 / 16 .
• )) راجع بحار الأنوار 27: 41.