المسألة الثالثة
حول الوجود اللائق بحضرته الربوبیّة
اختلفت مسالـک أهل اللّٰه والـعرفان، وأهل الـحکمـة والـبرهان، وأهل الأخذ بظواهر الـکتاب والـقرآن من متکلّمی الـعامّـة والـخاصّـة فی أنّ الـوجود الـذی یلیق بالـلّٰـه تعالـیٰ، ویکون هذه الـکلمـة الـشریفـة حاکیـة عنـه، هو الـوجود الإطلاقی الـذاتی الـلا بشرط الـمقسمی ـ وهذا هو رأی أرباب الـکشف والـیقین وأصحاب الإیمان والـعرفان ـ أو هو الـوجود الـخاصّ الـلا بشرط الـقسمی، الـمنحاز عن سائر الـوجودات بالـتشکیک أو بالـتباین؛ علیٰ اختلاف مذاهب الـمشّائین والإشراقیّـین وأصحاب الـحکمـة الـمتعالـیـة وأرباب الـکلام.
فقالت الطائفة الاُولیٰ: الـوجود هو الـحقّ من حیث هو، وهذا غیر اعتبار الـوجود الـخارجی والـذهنی؛ إذ کلٌّ منهما نوع من أنواع ذلک الـوجود، فهو من حیث هو هو لا بشرط شیء؛ غیر مقیّد بالإطلاق والـتقیـید، ولا هو کلّیّ ولا جزئیّ، ولا عامّ ولا خاصّ، ولا واحد بالـوحدة الـزائدة علی ذاتـه ولا کثیر، بل هذه الأشیاء لوازم تلک الـذات بحسب مراتبـه ومقاماتـه الـمنبّـه
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. ۱)صفحه 128
علیها قولـه تعالـیٰ: «رَفِیعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ»، فیصیر معنوناً بأحد الـعناوین الـمزبورة، مع عدم الـتجافی عن مقامـه الـمنیع ومنزلـه الـرفیع، فهو لیس بجوهر ولا عرض ولا بأمر اعتباریّ کما یقولـه الـظالـمون؛ لعدم تقوّمـه بالاعتبار ولا بالـمعتبرین، کما ورد: «کان اللّٰه ولم یکن معه شیء»، فلایکون معنی «اللّٰه» وهذه الـکلمـة الـشریفـة إلاّ تلک الـحقیقـة، الـتی تکون تلک الـعناوین اعتبارات زائدة فی الـوجود وداخلـة فی سلطانـه. وهذه الـحقیقـة أعمّ الأشیاء، ولیس من صفاتـه أنّـه لا بشرط، بل ما هو الـلا بشرط وجود خاصّ، لا تلک الـحقیقـة الـمطلقـة، وهو الـظِّلّ الـمشار إلـیـه ـ مثلاً ـ فی الـکتاب الـعزیز: «أَلَمْ تَرَ إِلَیٰ رَبِّکَ کَیْفَ مَدَّ الظِّلَّ».
ولهذا الـمسلک الـظاهر فساده محمل صحیح راقٍ، ولذلک تراهم یعتبرون الـوجود الآخر، وهو الـظلّ للوجود الأصیل، فلایکون الـوجودات الـمقیّدة ـ کوجود زید هو الـوجود الـواجبی الأزلی الـذاتی، بل الـوجودات الـمقیّدة هی الـوجودات الـخاصّـة الـمضافـة، وحصص تلک الـظِّلّـة، وسنشیر إلـیـه إن شاء اللّٰه.
وقالت الطائفة الثانیة؛ أی المشّاؤون: إنّ الـوجود الـلائق بجنابـه
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. ۱)صفحه 129
تعالـیٰ، یباین سائر الـوجودات تبایناً ذاتیّاً، ووجودات الـمعالـیل غیر ذاک الـوجود وفی مقابلـه؛ بحیث یحکم علیـه بالأحکام الاستقلالیّـة، وهذا غیر صحیح؛ لا لما قیل: إنّ مفهوم الـوجود الـواحد لا ینتزع عن الـمتباینات؛ ضرورة أنّ الـوحدة الـسنخیّـة ـ کوحدة الـماء ـ مورد تسالـم الـکلّ، ولا یُریدون أنّ نسبـة الـوجود إلـی الـوجود، کنسبـة الـبقر إلـی الـفرس. ولکنّها خالـیـة عن الـتحقیق؛ لما ثبت أنّ الـوجودات الـمعالـیل لیست مستقلاّت فی قبال الـوجود الـواجبی، وإلاّ یلزم تعدّد الـوجوب، وإذا کانت هی الـفقراء والـروابط فلیست مستقلاّت، وإذا کانت غیر مستقلاّت بذواتها ونفس الارتباط إلـی ربّها، لا یحمل علی موضوعاتها علی حسب الـحقیقـة، بل نسبتها إلـی الـماهیّات کنسبـة حرکـة الـسفینـة إلـی الـجالـس فیها.
وقالت طائفة راقیة من المشّائین، وفیهم شریکنا فی الـرئاسـة أبو علی ابن سینا، قال فی «الـمباحثات»: إنّ الـوجود فی ذوات الـماهیّات لا یختلف بالـنوع، بل إن کان اختلاف فیـه فبالـتأکّد والـضعف، وإنّما یختلف الـماهیّات بالـنوع، وما فیها من الـوجود غیر مختلف الـنوع.
وقال فی «الـتعلیقات»: الـوجود الـمستفاد من الـغیر کونـه متعلّقاً بالـغیر هو مقوّم لـه، کما أنّ الاستغناء عن الـغیر مقوّم لواجب الـوجود بذاتـه والـمقوّم للشیء لا یجوز أن یفارقـه إذ هو ذاتیّ لـه. انتهیٰ.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. ۱)صفحه 130
والذی یکشف عن هذه المقالات: أنّـه فی موقف إثبات أنّ جمیع الـوجودات الإمکانیّـة والإنّیّات الارتباطیّـة الـتعلّقیّـة، اعتبارات وشؤون للوجود الـواجبی وأشعّـة وظِلال للنّور الـقیّومی، لا استقلال لها بحسب الـهویّـة لا یمکن لحاظها ذواتاً مستقلّـة منفصلـة، وإنّیّات مقابلـة لتلک الـحقیقـة والإنّیّـة، بل الـتبعیّـة والـظلّیـة والـتعلُّق عین حقائقها، ولیست هی ذواتاً مرتبطـة، بل هی نفس الـربط إلـیٰ الـعلّـة، ولا غیرها، ولا شؤون تلک الـحقیقـة وحیثیّاتها وأطوارها ولمعاتها وظلال ضوئها وتجلّیات ذاتها.
کلّ ما فی الکون وهم أو خیال
أو عکوس فی المرایا أو ظِلال
وهذه الـطریقـة هی مسلک أرباب الـحکمـة الـمتعالـیـة، ورئیسهم صدر الـمتألّهین الـشیرازی قدس سره، الـذی لا یماثلـه مماثل فی نشأتـه الـعلمیّـة وتفکیره الـعرفانی ومذاقـه الـبرهانی.
بعد ما تبیّن هذه الـسبل والـمسالـک واختلافات عبائرهم فلیعلم:
أنّ من المتصوّفة من یرید إثبات الـوحدة الـشخصیّـة الإطلاقیّـة لحقیقـة الـوجود وهو عین الـوجود الـواجبی، وتکون الـماهیّات إضافات إلـیٰ تلک الـحقیقـة حسب مراتبها، فیکون هذه الـحقیقـة ـ بمراتبها الـقدیمـة الـذاتیّـة والأزلیّـة ـ واجب الـوجود بالـذات، فلا وجود للآخر؛ لا ظلاًّ ولا استقلالاً، وهذا هو وحدة الـوجود والـموجود وکثرة الـعناوین الـعقلیّـة
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. ۱)صفحه 131
والـوهمیّـة والـخیالـیّـة.
وقد مثّلنا لهم: بأنّ الـنظر إلـیٰ حقیقـة الـماء فی الأوانی الـمختلفـة، یؤدّی إلـیٰ وحدة الـماء وحدة سِنخیّـة لا شخصیّـة، وتلک الـکثرة الـمترائیـة فی هذه الـحقیقـة، نشأت من کثرة الأوانی والـحوائل، فلو فرضنا انعدام الـحائل بین الـماء الـموجود فی الـکوز والـماء الـموجود فی الإناء الآخر، لسال کلّ واحدٍ منهما إلـیٰ طرف الآخر، ولا تبقیٰ الاثنینیّـة فی الـبین بالـضرورة، ویُعدّان ماءً واحداً وهکذا، فإذا کانت حقیقـة الـوجود مشتبکـة باشتباکات الـموضوعات، فإن کان تلک الـموضوعات متمکّنـة وقادرة علی إیجاد الـفصل والـبینونـة الـحقیقیّـة فی تلک الـحقیقـة، تحصل کثرة الـوجود واقعاً، وتحصل الـوجودات الـمتعدّدة ثبوتاً وحقیقـة، ولکنّها قاصرة عن إیجاد الـخَلَل فی تلک الـحقیقـة؛ لأنّها لیست شیئاً ذات تحصُّل، بل نسبتها إلـیٰ تلک الـحقیقـة نسبـة الـحکم إلـی الـموضوع والـعرض إلـی الـجوهر، فهل یُعقل أن یوجد الـعرض قِسْمـة فکّیّـة فی الـجسم. نعم هو یورث الـقِسْمـة الـوهمیّـة، کما إذا کان الـجسم أبلق بحسب الـلون.
فإذاً تبیّن: أنّ الـوجود الـواجبی هو تلک الـحقیقـة، وهذا هو الـلائق بحضرتـه الـربوبیّـة ولا شیء وراء ذلک، بل لک إنکار کونها ذات مراتب؛ حتّیٰ لایُعقل الـمرتبـة الـدانیـة والـعالـیـة إلاّ بالـتشکیک الـخاصّ، وهو لا یحصل إلاّ بالـفناء والـفقر، وهما یستلزمان الـعلّیّـة، والـعلّیّـة تستلزم الـمغایرة فی وجـه؛ لعدم إمکان اعتبار الـعلّیّـة بین الـشیء ونفسـه، ولا تکون الـوحدة ـ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. ۱)صفحه 132
حینئذٍ ـ شخصیّـة إطلاقیّـة، بل هی وحدة سِنخیّـة مختلفـة إطلاقاً وحملاً.
وما أشبـه هذه الـمقالـة بمقالـة أهل الـکشف، ولکنّهم أیضاً مختلفون فی مدارج الـکشف والـشهود. وما ذکرناه عنهم کان من الـقِشریّـین منهم.
وهنا تمثیل آخر: إذا حبست رجلاً محبوساً مسجوناً لا یعرف الـشمس من الـقمر ولا الـلیل من الـنهار ولا الـظلّ من الـضوء فحصل بینـه وبین إظلال الـطیور فی جوّ الـسماء ثقبـة یمکن أن یریٰ تلک الإظلال، فإذا سُئل عنـه فلا یجیب إلاّ بجواب یرجع إلـی اعتقاده أنّ هذه الأظلّـة حقائق خارجیّـة مشغولـة بالـحرکـة والـسیر. واللّٰه الـعالـم.
وربّما قیل: إلـیٰ هذه الـمرتبـة من الـتوحید یشیر قولـه تعالـیٰ: «هُوَ مَعَکُمْ» فلو کانت الـمعیّـة ثابتـة لظلّـه الـشریف، لما صحّت الآیـة فی ظاهرها الـلغوی من أنّ الـمشار إلـیـه هی الـذات الأحدیّـة، وأنّها مع الـماهیّات والـمخاطبین، لا الأمر الآخر الـذی اعتقده أرباب الـعرفان والـبرهان، خلافاً للقرآن مثلاً وقولـه تعالـیٰ: «مَا یَکُونُ مِنْ نَجْوَیٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ»، فإنّ الـثلاثـة هی الأظلّـة، والـرابع هو الـوجود، والأظلّـة هی الـماهیّات.
وغیر خفیّ: أنّ ما نسب إلـیٰ أهل الـمعرفـة من أصالـة الـماهیّـة ـ جعلاً لا تحقُّقاً ـ یُناسب هذه الـبارقـة الـملکوتیّـة؛ لأنّ ما هو الـموجود بالـذات هو الـوجود، وما هو الـموجود الـمتوهّم هی الـماهیّات ولا أمر
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. ۱)صفحه 133
ثالـث فی الـبین یکون مجعولاً وموجوداً حقیقـة، حتّی الـظلّ الـمنبسط علیٰ رؤوس الـماهیّات الإمکانیّـة، کما عرفت سابقاً من أرباب الـفلسفـة والـبرهان دون الـشهود والـوجدان.
والإنصاف أنّ الاعتقاد بذلک الـمنهج فی غایـة الإشکال، وخروج عن طور الـشرائع، حسب ما یظهر منها لأهلها وإن کان موافقاً لعدّة آیات مضت الإشارة إلـیٰ بعضها.
ومنها قولـه تعالـیٰ: «اَللّٰهُ نُورُ السَّمَـٰوَاتِ والأَرْضِ»، وإذا لم یکن هو نوره الـحسّی فهو نوره الـحقیقی وما هو بـه تقوم الـسماوات والأرض، هی الـحقیقـة الـظِّلِّیّـة، لا الأصیلـة، فإنّها لا تباشر الـماهیّات ولا تُسافح الأنواع والـعناوین.
ولذلک أفاد الوالد الکامل الـجامع بین شتات الـعلوم الـعقلیّـة والـنقلیّـة، والـراحل بقدمیـه الـعلمیّـة والـعملیّـة إلـیٰ قصویٰ مدارج الـعلوم الـنظریّـة والـتطبیقیّـة، وإلـیٰ نهایـة مباحث الـعلوم الـمتعارفـة الـمتشتّـتـة؛ فی حواشیـه علیٰ «مصباح الاُنس فی شرح مفتاح غیب الـجمع بین الـشاهد والـمشهود»: أنّ الـوجود هو الأصل جعلاً وتحقّـقاً، وأنّ الـماهیّات تظهر بتلک الـحقیقـة الـظِّلِّیّـة والـحقّ الـمخلوق بـه، ولکنّها لمکان أنّها من الـروابط الـمطلقـة فی ذاتها، ولیست إلاّ معنیً اندکاکیّاً وحرفیّاً ونفس الـتدلّی بالـذات الـحیّ الـقیّومیّ، لا یمکن أن یُنظر إلـیها وفیها، ولا یثبت لها حکم اسمیّ؛ لأنّ کلّ ما نشاهده بوجـه اسمیّ، فهو غیره؛ لأنّـه بحقیقتـه مرهون الـغفلـة وعدم
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. ۱)صفحه 134
الـشهود، فإذا ینتسب جمیع الأحکام الـثابتـة للحقّ الأوّل إلـی الـحقّ الـمخلوق بـه الـذی هی حقیقـة الـولایـة الأحمدیّـة الـمحمّدیّـة والـمحمودیّـة الـعلویّـة، وهی الـظِّلّ الـمنبسط علیٰ رؤوس الـماهیّات الإمکانیّـة، وهی حثیثیّـة خالـقیّتـه تعالـیٰ، فإنّـه بها یصیر خالـقاً، ویوصف الأوصاف الـبارزة الإلهیّـة والـربوبیّـة، وهو الـفیض الـمقدّس الـتابع للفیض الأقدس. فکأنّـه ـ مدّ ظلّـه ـ جمع بین شتات الـمسالـک بتقریب ذکرناه وفصّلناه، فلْیتدبّر.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. ۱)صفحه 135