الحکم الثالث: هل هی من سائر السور؟
الـظاهر ثبوت الـملازمـة بین الـمسألـة الـسابقـة وهذه الـمسألـة قولاً؛ فإنّ من اعتبرها جزء الـفاتحـة أطلق بالـنسبـة إلـیٰ غیرها، ومن منع جزئیّتها بالـنسبـة إلـیها أیضاً أطلق الـمنع.
نعم فی خصوص الـفرض الأوّل حکی عن ابن الـجنید الـتفصیل بینها وبین سائر الـسور، وعن الـمخالـفین أحمد وحمزة من قرّاء الـکوفـة، بل قیل عن الـشافعی: إنّـه تردّد فی هذه الـمسألـة وأتیٰ بالـقولین الـمخالـفین. وأمّا فی الـفرض الـثانی فلا یوجد من فصّل فیـه، فیقول بجزئیّتها فی سائر الـسور دون الـفاتحـة.
وقد استدلّ بروایات وأحادیث، أهمّها سنداً ودلالـة ما رواه الـصدوق بإسناده عن جماعـة ـ ومنهم عمر بن اُذینـة ـ عن أبی عبداللّٰه علیه السلام ـ فی حدیث طویل معراجیـة ـ وفیـه: «فلمّا بلغ «وَلاَ الضَّالِّینَ» قال النبی صلی الله علیه و آله وسلم: والحمد للّه ربّ العالمین شکراً، فقال العزیز الجبّار: قطعت ذکری فسمّ باسمی، فمن أجل ذلک جعل «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمـٰنِ الرَّحِیمِ» بعد الحمد فی استقبال السورة الاُخریٰ، فقال له: اقرأ «قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ» ...» الـحدیث.
فما هو الـحجر الأساسی هو الاتّفاق الـمحکی والإجماعات الـکثیرة عن الـعامّـة والـخاصّـة.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. ۱)صفحه 51
ومن أحادیث العامّة ما یدلّ علیٰ أنّها لیست من سائر الـسور؛ بناءً علیٰ ثبوت الإجماع المرکّب علیٰ أنّها إذا لم تکن من بعض منها فلیست من الاُخریات:
«مستدرک الـحاکم» و«صحیح الـترمذی» فی باب ما جاء فی فضل سورة الـملک، و«کنز الـعمّال» فی فضائل الـسور والآیات، أخرجا عن أبی هریرة: «أنّ سورة الـملک ثلاثون آیـة»، فلو کانت هی منها لزادت علیها بآیـة.
وفی روایـة اُخریٰ عنـه: «أنّ سورة الـکوثر ثلاث آیات».
ولکنّها معارضـة بما أخرجـه مسلم عن أنس، قال: «بینا رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله وسلمذات یوم بین أظهرنا إذ أغفیٰ إغفاءة، ثم رفع رأسـه متبسّماً، فقلنا ما أضحکک یا رسول اللّٰه؟ قال: «نزلت علیَّ آنفاً سورة، فقرأ: «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمـٰنِ الرَّحِیمِ إِنَّا أَعْطَیْنَاکَ الْکَوْثَرَ...»» الـحدیث.
وأمّا الـروایـة الاُولیٰ فهی هکذا: قال أبو هریرة: قال الـنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم: «إنّ سورة من کتاب اللّٰه ما هی إلاّ ثلاثون آیة، شفعت لرجل حتّیٰ أخرجته من النّار یوم القیامة، وأدخلته الجنّة، وهی سورة تبارک». أخرجها الـترمذی، وقال: «هو حدیث حسن». انتهیٰ.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. ۱)صفحه 52
ویکفی فی کذبـه ـ کما هو دأبـه ـ أنّ سورة الـفجر وسورة الـسجدة ـ أیضاً ـ ثلاثون آیـة، فراجع.
ثمّ إنّ فی أحادیثنا ما یظهر منـه عدم وجوب الـبسملـة مع الـسورة، وهی مذکورة فی الـباب الـثانی عشر من أبواب الـقراءة من «الـوسائل»، ولکنّها لا تدلّ علیٰ عدم الـجزئیّـة؛ لأنّ عدم الـوجوب أعمّ من ذلک، مع أنّها عندنا محمولـة علی الـتقیّـة، وهی تستلزم اشتهار فتوی الـعامّـة علیٰ عدم الـوجوب فی الـصلاة، وهو ـ أیضاً لا یدلّ علیٰ عدم الـجزئیّـة عندهم.
وما یدلّ من روایاتنا علی الوجوب فهو ـ أیضاً ـ أعمّ من الـجزئیّـة، مع أنّ فی دلالتها علی الـوجوب إشکالاً؛ لاحتمال کون الـنظر إلـی الـترخیص بالإتیان؛ لما کان ذلک ممنوعاً ـ علی الـکراهـة ـ عند مالـک وبعض آخر.
إن قلت: إذا لم یکن واجباً فهو یلازم عدم الـجزئیّـة، وهکذا فی عکسـه؛ لأنّ اعتبار الـجزئیـة متقوّم بوجوب الـقراءة مع الـسورة وعدمـه.
قلت: کلاّ، فإنّ للجزئیّـة آثاراً اُخر غیر ذلک:
1 ـ إذا کانت جزء الـتوحید والـحمد فلایجوز عندنا الـعدول بعدما قرأها.
2 ـ إذا کانت من الـسورة فتُعدّ آیـة منها، فلایجوز الـعدول إذا بلغ إلـیٰ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. ۱)صفحه 53
الـنصف باعتبارها فی سائر الـسور.
3 ـ إذا کانت آیـة منها فلابدّ ـ علی الـمعروف بین أصحابنا ـ من قصدها مع تلک الـسورة؛ أی قصد بسملـة الـسورة الـخاصّـة، وإلاّ فیجوز بلا قصد.
4 ـ إذا کانت منها یجوز الـرکوع بعدها فی صلاة الآیات.
5 ـ إذا کانت منها فلا یشرع للجُنُب قراءتها عن سُوَر الـعزائم، وهکذا تُعدّ من الـسبع الـمکروه علی الـجُنُب قراءة الأکثر منها... وغیر ذلک.
وبالجملة: فذلکـة الـبحث أنّ هذه الـمسألـة من اُمّهات الـمسائل الـفقهیّـة، حتّیٰ أفرد فیها الـرسائل جمع، وقد بلغت الأقوال ـ علیٰ ما قیل ـ إلـیٰ عشرة، ولکنّـه خلط بین الأقوال والاحتمالات، والأمر سهل. کما لم یذکر فی طیّها قول من یریٰ أنّها لیست من الـقرآن رأساً:
الأوّل: أنّها لیست آیـة من الـسور رأساً وأصلاً.
الثانی: أنّها آیـة من جمیع الـسور إلاّ براءة.
الثالث: أنّها آیـة من الـفاتحـة دون غیرها.
الرابع: أنّها بعض آیـة منها فقط.
الخامس: أنّها آیـة فذّة اُنزلت لبیان رؤوس الـسور تیمُّناً وللفصل بینها.
السادس: أنّـه یجوز جعلها آیـة منها وغیر آیـة؛ لتکرّر نزولها بالـوصفین.
السابع: أنّها بعض من جمیع الـسور.
الثامن: أنّها آیـة من الـفاتحـة وجزء آیـة من الـسور.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. ۱)صفحه 54
التاسع: عکسـه.
العاشر: أنّها آیات فذّة وإن اُنزلت مراراً، والـمحکی عن الـشهاب لبیان الـقول الـعاشر: أنّها آیـة فذّة. ولکنّـه عین الـقول الـخامس، کما أنّ الـقول الـعاشر قرینـة علیٰ أنّ الـخامس هو أنّها آیـة واحدة نزلت مرّة، وجیء بها فی أوائل الـسور، کما نجیء بها لسائر الأفعال والأقوال.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. ۱)صفحه 55