المطلب الثانی فی حال الأخبار العلاجیة
ثمّ إنّه بعد لحاظ الأخبار العلاجیة هل الترجیح واجب أو مستحبِّ، وعلی الأوّل فهل أصل الترجیح واجب دون الترتیب فیه فهو مستحبّ أو الواجب هو الترجیح بالترتیب المذکور فی الأخبار العلاجیة . وهل یجب أو یستحبّ بکلّ مرجّح أو بخصوص المرجّحات المنصوصة ، ثمّ علی فرض وجوب الترجیح بالترتیب فکیف یجمع بین الأخبار العلاجیة ؟ فهنا جهات
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 390
من البحث یجب أن تنقّح لابتناء أساس الفقه علیها .
فنقول : ربّما یقال باستحباب الترجیح وعمدة ما ألجأ القائل بذلک علی القول به أمران :
الأمر الأوّل : اختلاف نفس الأخبار العلاجیة ، إذ قد اقتصر فی بعضها علی ذکر بعض المرجّحات بنحو الإطلاق ، وفی بعضها علی ذکر بعض آخر کذلک ، وذکر فی بعضها عمدتها علی اختلاف فی الترتیب أیضاً ، فبملاحظة هذا الاختلاف الکثیر یطمئن النفس بعدم لزوم الترجیح وإلاّ لوجب العنایة بذکرها علی الترتیب فی جمیع الأخبار ، فالاختلاف یدلّ علی عدم العنایة به وکونه ناشئاً من اختلاف مراتب الفضل .
الأمر الثانی : أنّ وجوبه یستلزم حمل إطلاقات أدلّة التخیـیر علی الأفراد النادرة مع کونها فی مقام البیان ، إذ قلّما یتّفق کون الروایتین متعادلتین من جمیع الجهات ؛ فإذا دار الأمر بین تقیـید هذه الإطلاقات بهذا النحو وبین حمل الأوامر الواردة فی الترجیحات علی الاستحباب یکون الثانی أهون ، فهذه عمدة دلیل القائل بالاستحباب وکلاهما شبهتان قویّتان ولا سیّما الاُولی لکثرة نظائرها فی الفقه .
ألا تری أنّهم یقولون : إنّ نفس اختلاف الأخبار الواردة فی منزوحات البئر واختلاف التحدیدات الواقعة فیها من کثرة الدلاء الموجبة وقلّتها یوجب القطع باستحبابها ، وکذلک الأخبار المختلفة الواردة فی تحدید الأذرع الفاصلة بین
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 391
الرجل والمرأة فی حالة الصلاة إذا تقدّمت المرأة أو تحاذت ، إذ یستفاد من نفس اختلاف التحدید أنّ الفصل مستحبّ ونحو ذلک من الموارد الکثیرة فی الفقه ، فالواجب فی المقام هو ملاحظة الأخبار حتّی یتّضح الحال .
ونقول إجمالاً قبل ذلک : إنّ ما ذکره من کثرة المرجّحات واختلاف ترتیبها فاسد ، فإنّ المرجّحات المربوطة بالخبرین المتعارضین ـ بعد وجدانهما شرائط الحجّیة بحیث یکون کلّ منهما جائز الأخذ لو لا المعارض ـ اثنان : موافقة الکتاب ، ومخالفة العامّة . وأمّا المرجّحات الاُخر فبعضها غیر مربوطة بباب الحدیثین کالأعدلیة والأصدقیة ونحوهما المذکورة فی المقبولة فإنّها من مرجّحات الحکمین بعد اختلافهما فی الحکم ، والأعدلیة والأوثقیة وإن ذکرتا فی المرفوعة فی باب الحدیثین .
ولکن عرفت : أنّ المرفوعة یجب رفع الید عنها لا لتکذیب صاحب «العوالی» بل لأنّه لو فرض صحّة سندها إلی العلاّمة فسندها منه إلی الإمام علیه السلام غیر معلوم ولم توجد أصلاً فی کتب العلاّمة ، وما ذکره الشیخ من جبر ضعفها بالشهرة قد عرفت ضعفه ، حیث لم یثبت اشتهار العمل بها .
نعم ، قد اشتهر بین المتأخّرین تقدیم الترجیح بالشهرة علی صفات الراوی
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 392
فتوهّم کونه للعمل بالمرفوعة ، ولکنّ الظاهر أنّهم أرادوا بالشهرة : الشهرة الفتوائیة ، فرأوا أنّ مخالفها لیس بحجّة من رأس ؛ فلذا قدّموا ذکر الشهرة ، وأمّا صفات الراوی فالترجیح بها عندهم لیس مستنداً لا إلی المقبولة ولا إلی المرفوعة ، أمّا الاُولی فلکونها مربوطة بباب الحکمین وأمّا الثانیة فلضعفها ، بل الترجیح بها عندهم من جهة کونها من المرجّحات العقلائیة ، بمعنی اعتناء العقلاء فی المتعارضین بما کان راویه أعدل وأوثق فی نفسهم فصفات الراوی عندهم من المرجّحات العقلائیة لا التعبّدیة ولا یبعد کون بعض مراتبها کذلک وإن کان الإطلاق محلّ إشکال .
وبالجملة : فاستناد المشهور من المتأخّرین إلی المرفوعة غیر معلوم ، ولو سلّم فلا یجدی شهرة المتأخّرین فقط فی جبر الضعف ، ومن المظنون کون المرفوعة نقلاً بالمعنی مصطادة من مجموع أخبار الباب ، فیکون ألفاظها لصاحب «العوالی» أو العلاّمة فکان مفادها ما هو اعتقادهما فی باب الترجیحات وترتیبها بعد جمعها أخبار الباب .
ویدلّ علی ذلک لفظ الحدیثین المتعارضین المذکور فیها ، إذ المذکور فی سائرالأخبار لفظ اختلاف الحدیثین ، وأمّا عنوان التعارض فالظاهر کونه من الألفاظ المصطلحة بین الاُصولیـین ، ولیس من العناوین العرفیة المتداولة الاستعمال فی باب الأخبار فی عصر الأئمّة علیه السلام ، ولذلک لا تجد هذا اللفظ فی غیر المرفوعة .
وبالجملة : فبعد التأمّل ربّما یطمئن النفس بکون ألفاظ المرفوعة لصاحب «العوالی» أو للعلاّمة وکونها مصطادة من الجمع بین الأخبار
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 393
الاُخر ، وکیف کان فلا حجّیة فیها .
وأمّا الشهرة المذکورة فی المقبولة وکذا فی المرفوعة فالظاهر کونها فتوائیة ، کما سیأتی تفصیله ، وعلیه فیصیر مخالفها غیر حجّة من رأس لعدم حجّیة خبر أعرض عنه الأصحاب وبطانة الإمام علیه السلام ، فلیست الشهرة أیضاً من المرجّحات لما عرفت من أنّ الترجیح إنّما هو بعد کون کلیهما حجّة بحیث لو لا وجود المعارض لکلّ منهما لأخذ به فینحصر المرجّحات التعبّدیة المذکورة فی المقبولة وغیرها فی مخالفة العامّة وموافقة الکتاب .
وسیأتی أنّ الثانیة أیضاً لیست بمرجّحة فی بعض المقامات ، فالمرجّح المحض ینحصر تقریباً فی واحدة ، فبطل ما ذکره القائل باستحباب الترجیح من أنّ کثرة المرجّحات واختلاف الأخبار فی ترتیبها شاهدة علی الاستحباب ، وکذلک بطل استدلاله الثانی أیضاً ، فإنّ تقیـید إطلاقات التخیـیر بسبب مرجّح واحد أو مرجّحین أمر سهل ، ونظیره شائع . فظهر أنّ کلامه کلام خطابی صدر عنه قبل الدقّة فی ضبط المرجّحات المربوطة بباب الحدیثین وتمحیصها عن غیرها والواجب نقل الأخبار حتّی یتّضح الحال ، وعمدتها المقبولة .
کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 394