تعارض الأدلّة والأمارات

المطلب الأوّل ‏: فی تأسیس الأصل بالنسبة إلیه

المطلب الأوّل  : فی تأسیس الأصل بالنسبة إلیه

‏ ‏

‏فنقول‏‏  ‏‏: قد عرفت أنّ الأصل فی المتعارضین هو التساقط سواء تکافئا أو‏‎ ‎‏رجّح أحدهما‏‏  .‏

‏اللهمّ إلاّ فی بعض المزایا الموجبة لاعتماد العقلاء علی واجدها فی‏‎ ‎‏احتجاجاتهم علی الموالی والعبید‏‏  ‏‏، ولکنّه من المعلوم ضرورة من الشارع عدم‏‎ ‎‏جواز ترک کلا الخبرین فی مورد التعارض‏‏  ‏‏، بل أوجب علی خلاف الأصل‏‎ ‎‏الأخذ بأحدهما إجمالاً بنحو التعیـین أو التخیـیر‏‏  ‏‏، وحینئذٍ فیجب أن یؤسّس‏‎ ‎‏الأصل بعد هذا العلم حتّی یرجع إلیه فی موارد شکّ فیها فی تعیّن الترجیح‏‎ ‎‏أو بقاء التخیـیر‏‏  ‏‏، بناءً علی عدم إطلاق لأدلّة التخیـیر‏‏  ‏‏، وإن کان الأقوی هو‏‎ ‎


کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 387
‏إطلاقها ولا سیّما روایة ابن الجهم‏‎[1]‎‏ ‏‏کما عرفت‏‏  .‏

‏والأصل تارة‏‏  ‏‏: یؤسّس علی الطریقیة‏‏  ‏‏، واُخری‏‏  ‏‏: علی السببیة‏‏  .‏

أمّا علی الطریقیة‏  :‏‏ فنقول‏‏  ‏‏: بعد العلم بعدم سقوط کلا المتعارضین ووجوب‏‎ ‎‏الأخذ أو جواز الأخذ بأحدهما إجمالاً ومع قطع النظر عن إطلاقات التخیـیر لو‏‎ ‎‏ثبتت‏‏  ‏‏، فإذا شکّ فی وجوب الترجیح فی مورد أو ثبوت التخیـیر فالأصل یقتضی‏‎ ‎‏تعیّن الترجیح‏‏  ‏‏، وإن قلنا فی مسألة دوران الأمر بین التعیـین والتخیـیر فی‏‎ ‎‏الموارد الاُخر باقتضاء الأصل التخیـیر‏‏  ‏‏، إذ فی تلک الموارد یکون المقام مقام‏‎ ‎‏احتجاج المولی علی العبد بعلمه‏‏  ‏‏، فللعبد أن یقول‏‏  ‏‏: إنّ أصل تعلّق الإلزام الجامع‏‎ ‎‏بین الوجوب التعیـینی والتخیـیری معلوم والتعیّن مشکوک‏‏  ‏‏، فالأصل البراءة ولا‏‎ ‎‏حجّة للمولی علیه بالنسبة إلی التعیّن المشکوک وإن کان الحقّ فی بعض موارد‏‎ ‎‏تلک المسألة أیضاً هو الاشتغال کما مرّ فی موضعه‏‏  .‏‎[2]‎

‏وأمّا فیما نحن فیه‏‏  ‏‏، فالأمر بالعکس‏‏  ‏‏، إذ المقام مقام احتجاج العبد علی‏‎ ‎‏المولی بالخبر المأخوذ من الخبرین‏‏  ‏‏، والفرض أنّ الأصل الأوّلی اقتضی‏‎ ‎‏سقوطهما عن الحجّیة‏‏  ‏‏، فحجّیة أحدهما حینئذٍ بجعل المولی‏‏  ‏‏. وعلی هذا‏‏  ‏‏، فإذا‏‎ ‎‏دار الأمر بین حکمه بوجوب العمل بخصوص واجد المزیّة أو بأحدهما علی‏‎ ‎‏سبیل التخیـیر صار ذو المزیّة حجّة بنحو القطع‏‏  ‏‏، وأمّا الآخر فیشکّ فی جواز‏‎ ‎‏العمل به والشکّ فی ذلک مساوق للقطع بعدم الحجّیة‏‏  ‏‏، إذ لیس للعبد الاحتجاج‏‎ ‎‏علی المولی إلاّ بما قطع بحجّیته إمّا ذاتاً أو بجعله فالترجیح یتعیّن بلا شکِّ.‏


کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 388

وأمّا علی السببیة فی جعل أحد المتعارضین ـ لا فی أصل حجّیة الأخبار‏‎ ‎‏وإلاّ لم یصل النوبة إلی التساقط والعلم بجعل أحدهما ـ‏‏  ‏‏. فإجماله‏‏  ‏‏: أ نّه إن قیل‏‎ ‎‏بالسببیة الأشعریة بأن یکون الأحکام تابعة للأمارات ولا یکون مع قطع النظر‏‎ ‎‏عنها أحکام واقعیة یشترک فیها العالم والجاهل‏‏  .‏

‏فإمّا أن یقال‏‏  ‏‏: بجعلها لعنوان المؤدّی أو نحو ذلک أو یقال‏‏  ‏‏: بجعلها لذات‏‎ ‎‏المؤدّی کصلاة الجمعة مثلاً‏‏  ‏‏، فعلی الأوّل حکمه حکم دوران الأمر بین التعیـین‏‎ ‎‏والتخیـیر فی سائر الموارد‏‏  ‏‏، إذ أصل جعل الحکم معلوم والتعیّن مشکوک‏‏  ‏‏، وعلی‏‎ ‎‏الثانی فالأمر أیضاً کذلک‏‏  .‏

‏وإن قیل بالسببیة الانقلابیة بأن یکون لنا أحکام واقعیة مع قطع النظر عن‏‎ ‎‏الأمارات ویکون مخالفة الأمارة للواقع موجبة لحدوث مصلحة أقوی من الواقع‏‎ ‎‏فالحکم أیضاً التخیـیر‏‏  ‏‏، إذ لا یعلم کون الأمارة المخالفة للواقع خصوص واجد‏‎ ‎‏المزیّة‏‏  ‏‏، والحکم المجعول فعلاً تابع لما هو المخالف‏‏  ‏‏. وحیث لا علم به فالعقل‏‎ ‎‏یحکم بالتخیـیر‏‏  .‏

‏فإن قلت‏‏  ‏‏: لیس القائل بالانقلاب قائلاً بحدوث المصلحة فی خصوص‏‎ ‎‏المخالف‏‏  ‏‏، بل یقول بحدوثه مطلقاً‏‏  ‏‏. غایة الأمر‏‏  ‏‏: فی الموافق یتأکّد الحکم وفی‏‎ ‎‏المخالف ینقلب‏‏  .‏

‏قلت‏‏  ‏‏: الداعی علی تصویر السببیة هو الفرار عن اجتماع الضدّین‏‏  ‏‏؛ أعنی‏‎ ‎‏الحکم الواقعی والظاهری‏‏  ‏‏، والقدر اللازم هو تصویر حدوث المصلحة الأقوی‏‎ ‎‏فی المخالف لینقلب الواقع‏‏  ‏‏، وأمّا فی الموافق فلا دلیل علیه ولا ملزم له‏‏  .‏

‏وإن قیل بحدوث المصلحة فی سلوک الأمارة فدار الأمر فی المقام بین‏‎ ‎

کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 389
‎ ‎

‏حدوثها فی واجد المزیّة وبین حدوثها فی أحدهما بنحو التخیـیر فالحکم أیضاً‏ هو البراءة عن التعیّن‏‏  .‏

‏نعم‏‏  ‏‏، لو فرض المصلحة فی سلوک کلّ منهما وتردّد الأمر بین تساویهما أو‏‎ ‎‏کون مصلحة واجد المزیّة أهمّ صار المقام من أمثلة المتزاحمین إذا احتمل کون‏‎ ‎‏أحدهما أهمّ والحکم فیه أیضاً هو البراءة عن التعیّن‏‏  ‏‏، إذ الحجّة کقوله‏‏  ‏‏: «أنقذ‏‎ ‎‏الغریق» مثلاً حجّة بالنسبة إلی أصل إنقاذ الغریق‏‏  ‏‏، وأمّا الحیثیة الزائدة الموجبة‏‎ ‎‏لأهمّیة أحدهما فعلی فرض تحقّقها واقعاً لا حجّة للمولی علیه‏‏  ‏‏، فالعقل یحکم‏‎ ‎‏بأنّ العبد یجب أن یصرف قدرته فی أحد المتزاحمین حتّی یعجز عن الآخر‏‏  ‏‏،‏‎ ‎‏وإلاّ عوقب علی کلیهما لعصیانه کلا منهما بقدرته‏‏  ‏‏، وأمّا وجوب صرف القدرة فی‏‎ ‎‏خصوص محتمل الأهمّیة فلاحجّة علیه‏‏  ‏‏، وقوله‏‏  ‏‏: «أنقذ الغریق» لا یبعث إلاّ نحو‏‎ ‎‏الحیثیة الجامعة بین الفردین‏‏  .‏

‏نعم‏‏  ‏‏، لو علم الأهمّیة بمقدار ملزم حکم العقل بتعیّنه‏‏  ‏‏، فتدبّر‏‏  .          ‏

 

کتابمحاضرات فی الاصول (تشتمل علی تنبیهات الاستصحاب و التعادل و الترجیح و الاجتهاد و التقلید): تقریر الابحاث الامام الخمینی (س)صفحه 390

  • - تقدّمت تخریجها فی الصفحة 376 .
  • - راجع : أنوار الهدایة 2 : 158 .